ومن شروط القاضي أن يكون ذا دين يمنعه من أن يحيد عن وظيفته الأساسية تحت أي إغراء أو تهديد
يعد القضاء إحدى المؤسسات الكبرى في الإسلام، وهو أحد الهياكل والأعمدة التي تقوم عليها الدولة في الإسلام، وقد مارس الرسول “صلى الله عليه وسلم” القضاء بنفسه، فكان قاضياً يفصل في الخصومة بين الناس، بل كان “صلى الله عليه وسلم” أول قاض في الإسلام، وقد حرص الخلفاء الراشدون على صيانة منصب القضاء، فتولاه عمر “رضي الله عنه” في خلافة أبي بكر “رضي الله عنه” كمنصب في الدولة، ولم يزل خلفاء المسلمين يعتنون بمنصب القضاء، حتى شهد القضاء في الإسلام وقوف حكام المسلمين جنباً إلى جنب مع بعض أفراد الرعية من الشعب، ويفصل بينهم القاضي بما يراه الحق، دون اعتبار لمنصب رئيس الدولة وخليفة المسلمين.
ولقد كان منصب القضاء مصاناً خاصة في العهود الأولى للإسلام، ولما كان منصب القضاء يتولى الحاكم تعيينه، فقد سعى الحكام في عصور متأخرة من الإسلام إلى استمالة القضاة نحوهم، وأن يحكموا بما يراه الحكام، ومن لم يطع أوامرهم يفصل من منصب القضاء، وكانت هذه أولى الإشكالات في منصب القضاء أن تعيينهم يكون من قبل الحاكم، وأنهم جزء من مؤسسة الدولة أو الخلافة، وإن كان الغالب في تاريخ القضاء الإسلامي هو استقلال القضاء وعدم تبعيته من حيث صدور الأحكام لحاكم أو محكوم؛ مما أكسب القضاء مكانة كبرى وصيانة للمنصب.
وازع سلطاني
ومنصب القضاء في الدولة الإسلامية يقع فيما يعرف بـ«الوازع السلطاني»، وهو يجيء بعد الوازع الفطري، ثم الوازع الديني، فإن لم يكن للإنسان واعظ من نفسه وتقديراً لذاته، يجيء دور الحلال والحرام، فإن لم يردع الإنسان الخوف من الله تعالى والوقوف على حدوده، جاء دور الوازع السلطاني بقوة القانون، ومنها سلطة القضاء في الدولة.
شروط المنصب
وقد وضع فقهاء الإسلام شروطاً لأهلية من يتولى منصب القضاء، منها: العلم بالأحكام الشرعية من بيان الحلال والحرام، فإن كان القاضي جاهلاً بشريعة الله تعالى، فإنه يحكم بين الناس بخلاف ما جاء به الشرع الحنيف، مما يصادم القواعد العامة للإسلام من تحقيق العدل والحرية والمساواة ومراعاة الحقوق وغيرها، ولهذا لم يعرف قاضٍ في تاريخ الإسلام إلا وكان فقيهاً عالماً بالحلال والحرام، مطلعاً على مذاهب فقهاء المسلمين.
ومن شروط تولي وظيفة القضاء أن يكون القاضي عدلاً، لا يعرف عنه أنه صاحب هوى، ولا كونه يميل إلى أقارب أو معارف، أو إلى سلطة أو غيرها، وإنما يحكم بالعدل بين الناس، كما قال ربنا سبحانه وتعالى: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}(النحل:90)، وقوله تعالى: { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}(المائدة:8)، وقوله تعالى: { وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ }(الإسراء:35)، وفي الحديث القدسي: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا»، وغيرها من الأدلة المتوافرة على اعتبار أهمية العدل في القضاء، وأنه أحد مقاصد الشريعة المعتبرة.
ومن شروط القاضي أن يكون ذا دين يمنعه من أن يحيد عن وظيفته الأساسية تحت أي إغراء أو تهديد، فصلاح القاضي من أهم الآداب التي يجب أن يتحلى بها.
ومن شروط القاضي الفطنة والذكاء والخبرة بشؤون الدنيا والناس، حتى يستطيع معرفة الحق وأن يحكم به لأهله، وقد جاء في الحديث: «إن أحدكم يكون ألحن بحجته من أخيه، وإنما أنا بشر مثلكم، فإن حكمت له بشيء فكأنما قطعت له قطعة من نار جهنم»، فلابد للقاضي أن يكون عالماً بحيل الناس، مدركاً لما قد يفعلونه من الحيل التي تظهر الظالم مظلوماً، والمظلوم ظالماً، وتضيع على صاحب الحق حقه.
واجبات القاضي
ومن أهم واجبات القضاء في الإسلام كما يبين د. وهبة الزحيلي، الفقيه السوري، منها: النظر في الدعوى بموضوعية وتجرد وحياد دون محاباة خصم أو ميل لأحد الخصمين دون الآخر، وهذا واجب ديني خطير من أوليات نظام القضاء إرساء لمعالم الحق والعدل، وإيفاء الحقوق، ونشر الأمن والاستقرار في صفوف المجتمع، قال الله تعالى: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ }(الحديد:25)، وقال سبحانه: { وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ }(النساء:58).
ومنها: الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية، لما فيها من حفظ الحقوق، وأداء الواجبات، فيحرم حكم القاضي بغير ما أنزل الله، قال سبحانه: { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ “44”}(المائدة)، وندّد الله تعالى بالمشركين والمنافقين الذين يتجاوزون حدود الله والحكم بشرائع الجاهلية، فقال تعالى: { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ “50”}(المائدة).
ومنها: مراقبة الله تعالى، فعليه أن يبحث بأناة وجدية وتعمق عن الحق وصاحبه.
وغاية القضاء في الإسلام إرضاء الله تعالى بإحقاق الحق وإنصاف المظلوم، دون تأثر بدين أو ملة أو قومية أو قرابة، وحتى على النفس، قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا “135”}(النساء)، وقال سبحانه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)}(المائدة).
ومنها: التقيد بوسائل الإثبات: فليس للقاضي إصدار الحكم في قضية ما بناء على قناعته الشخصية، وإنما لابد من التقيد في إثبات الحق بوسائل إثبات معينة كالشهادة والإقرار واليمين والقرينة.
ومنها: الاعتماد على النصوص الشرعية الأصلية في الكتاب والسُّنة من خلال التفسيرات والاجتهادات الراجحة التي أوضحت فيها هذه النصوص، كالمذاهب الفقهية أو مدارس التفسير القرآني المختلفة أو شرح الأحاديث النبوية الصحيحة.
ومنها: الدمج بين مبدأ التوازن العام ومبدأ العدالة؛ وهو أمر ضروري لتحقيق المساواة بين الخصوم وتحقيق القدرة على الوفاء، وتوازن القضاء، وهذا هو الذي يقال له: الإحسان في العدل، وهو الذي أمر الله تعالى به في قوله سبحانه: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ }.
القضاة ثلاثة
أما القضاة الذين يقضون بأهوائهم وهم يعلمون أن ما يحكمون به الظلم، فأولئك الذين قال النبي “صلى الله عليه وسلم” فيهم كما ورد عنه في السنن بإسناد صحيح: «القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة»، بل بشر النبي “صلى الله عليه وسلم” أن بعض القضاة سيندم يوم لا ينفع الندم، فقد أخرج الحاكم بسند حسن عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله “صلى الله عليه وسلم” يقول: «ليوشك رجل أن يتمنى أنه خر الثريا ولم يلِ أمر الناس شيئاً»، وأخرج الأربعة والحاكم والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله “صلى الله عليه وسلم”: «مَنْ جُعِلَ قَاضياً فكأنما ذُبحَ بِغيرِ سِكِّينٍ».
ولقد كان القضاة هم حصن الأمة وملجؤهم بعد الله تعالى من جور الحكام والسلاطين ورجال الأعمال وأصحاب النفوذ، حتى جاء اليوم الذي خدمت طوائف من القضاة عند هؤلاء فاحتكموا بحكمهم، ونزلوا على مصالحهم وإن كانت فاسدة، فضلوا وأضلوا، وبقي قضاة يخافون الله تعالى أولئك من خيار الناس، ولذا كان من الواجب أن تكون السلطة القضائية سلطة مستقلة، لا تتبع الدولة، خاصة في ظل النظم المستبدة الفاسدة، فتكون للقضاء أوقاف ينفع عليهم منها، وأن يتم اختيار كبير القضاة من بينهم، لا من الحاكم، وأن تكون لهم استقلالية حتى لا يخضعوا لأهواء الظلمة والفاسدين، بل يكونون ميزان الله تعالى في أرضه، لا أن يكونوا شياطين يوحون إلى السلاطين بالظلم والعدوان على المظلومين.