حين يتنقل الفلسطيني بين مدن وأحياء البرازيل أو تشيلي أو السلفادور، أو أي من دول أمريكا اللاتينية؛ فلن يشعر أنه وحيد أو غريب أو رقم عادي؛ حيث إنه إذا جال ببصره في المكان؛ فسيلمح العلم الوطني يرفرف على سطح إحدى البنايات، أو ألوانه (الأحمر والأخضر والأبيض والأسود) تصبغ جدرانها.
ولو زار القادم من فلسطين مطعماً عربياً في البرازيل؛ فإنه سيرى صورة قبة الصخرة تنتصف الحائط. وإذا يمم شطر السلفادور لحضور فعالية محلية؛ فسيبصر علم فلسطين مرفرفاً وسط أعلام البلاد.
يعيش قرابة مليون فلسطيني في دول أمريكا اللاتينية، بما فيها من اختلاف الثقافات والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، والتي كانت على مدار عقود طويلة، وما زالت، ملجأً مفتوحاً لمئات الآلاف من الفلسطينيين الذي خرجوا من بلادهم بفعل جرائم الاحتلال الإسرائيلي. ولم تكن القارة اللاتينية مجرد مكان يعيشون فيه وحسب، إنما أيضاً أرضاً يستثمرون فيها، وينصرون قضيتهم، ويثبتون هويتهم ووجودهم.
بداية القصة
بدأت القصة في أواخر القرن التاسع عشر، حين قطع أوائل المهاجرين الفلسطينيين وغيرهم آلاف الأميال للوصول إلى القارة اللاتينية، حاملين وثائق سفر عثمانية، ولذلك عُرفوا بين أهالي البلاد الأصليين باسم “التركو” ظناً منهم بأنهم أتراك.
وتعدّدت الأسباب التي دفعت الفلسطينيين للسفر إلى المجهول؛ فمنهم من هاجر بسبب ملاحقة سياسية، أو هروباً من الخدمة العسكرية في الدولة العثمانية، أو بحثاً عن فرص عمل أفضل.
وعند وصولهم إلى القارة اللاتينية؛ اعتمد المهاجرون الفلسطينيون بشكل كبير على الزراعة والتجارة، وتسويق المنتجات اليدوية، كصناعة الصوف وخشب الزيتون.
ثم جاءت ثاني أكبر حركة هجرة من الشرق الأوسط إلى أمريكا اللاتينية قبيل نكبة عام 1948، غالبيتهم من فلسطين، نتيجة الأزمة الاقتصادية وقرب النكبة. ومنذ ذلك الحين وحتى أوائل السبعينيات؛ اتجه أكثر المهاجرين الفلسطينيين إلى دول محددة في القارة اللاتينية، هي: تشيلى، وبيرو، وهندوراس، والسلفادور، والبرازيل، وفنزويلا.
وبيّن رئيس اتحاد الجاليات الفلسطينية في أمريكا اللاتينية، سمعان خوري، أن “الفلسطينيين في القارة اللاتينية هم الأكثر عدداً بين الجاليات الفلسطينية خارج الوطن العربي”، لافتاً إلى أن “النسبة الأكبر منهم يقطنون في تشيلي؛ حيث يقدر عددهم بقرابة النصف مليون“.
وأضاف خوري لـ”قدس برس” أن المستويات الاقتصادية والاجتماعية لأبناء الجالية الفلسطينية في أمريكا اللاتينية تتفاوت، فمنهم الفقراء، وهم أقلية؛ ومنهم الأغنياء ومتوسطو الحال، وهم يشكلون شريحة كبيرة، وأما الأثرياء فعددهم كبير وملحوظ أيضاً“.
من اللجوء إلى قصص النجاح
خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ازداد تمكّن الفلسطينيين في مختلف قطاعات الاقتصاد إجمالاً، وعُرفوا أكثر بتجارة وصناعة الأقمشة، وتوالت نجاحاتهم، حتى تمكنوا من وضع بصماتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وباتوا عنصراً لا يستهان به في مجتمعات دول أمريكا اللاتينية.
وسرعان ما برزت أسماء فلسطينية عديدة ضمن طبقة كبار الأثرياء ورجال الأعمال، والأدباء، والفنانين، ونواب البرلمان، والسياسيين البارزين، بل إن بعضهم وصل إلى سدة الحكم، كرئيس السلفادور الحالي نجيب أبو كيلة، الذي هو من أصول فلسطينية؛ فوالدته من بيت لحم، ووالده من القدس.
ونوّه “سمعان خوري” إلى أن “للفلسطينيين تأثيراً كبيراً على المجتمعات التي يعيشون فيها، حيث توفر مؤسساتهم أكبر فرص العمل للسكان المحليين، مشيراً إلى أن نحو 45% من الأيدي العاملة في السلفادور ينخرطون في المؤسسات الفلسطينية، التي أصبح لها حصة بارزة في الدخل القومي، ما مكّن الفلسطينيين من التأثير على الحياتين الاقتصادية والسياسية“.
وأضاف أن العلاقات الوطيدة التي أسسها أبناء الجالية الفلسطينية في دول أمريكا اللاتينية، منذ نهايات عهد الدولة العثمانية وحتى العصر الحديث، لعبت دوراً مهماً في تقديم هذه الدول الدعم السياسي للقضية الفلسطينية، لافتاً إلى أن أمريكا اللاتينية تُعد من أكثر القارات المؤيدة للقضية الفلسطينية في العالم، “وقد تجلى هذا التأييد بوضوح في اعتراف جميع دول القارة بدولة فلسطين“.
ما بين الاندماج والانصهار
وقال خوري إن الفلسطينيين في أمريكا اللاتينية، يشكلون مثالاً على نجاح الاندماج مع ثقافة الدولة المضيفة، مشيرا إلى أن “قبول الاختلاف، والتسامح، واحترام الفروق بين العرق والدين قيم لاتينية أساسية، ساعدت الجالية الفلسطينية على الاندماج في المجتمع“.
واستدرك: “إلا أن هذا الاندماج لم يكن سهلاً، فقد واجه تحديات جمة، ليس أقلها اختفاء لغة الفلسطينيين بين صفوف الجيل الثاني والثالث“.
وتابع: “مع ذلك فإنهم لم ينسوا وطنهم الأم فلسطين، حيث عبّروا في أعمالهم ومنازلهم وعلاقاتهم وأدق تفاصيل حياتهم، عن فلسطينيتهم الأصيلة، وشوقهم للعودة إلى بلدهم الأصلي، وعملوا على تعرية الاحتلال الإسرائيلي وجرائمه المتواصلة بحق شعبهم ووطنهم“.
واستذكر خوري عبارة قالها أحد كبار رجال الأعمال الفلسطينيين في الجنوب البرازيلي، جاء فيها: “يحب الفلسطيني دائماً الانتصارات في الحياة، وهذا ما يجب على الاحتلال أن يدركه؛ فنحن لن نتخلى عن بلادنا، ولا حياة لنا إلا بالعودة إليها“.