يعتبر المستشرق الفرنسي جيل كيبل من المستشرقين الفرنسيين الذين عملوا لسنوات على بلورة تصور أصبغ عليه صفة الإسلامية لخدمة المصالح الفرنسية والغربية عموماً، من خلال دفع المجتمعات المسلمة لتبنيه بعد أن يتم تطبيقه فعلياً على المسلمين في فرنسا من خلال حملات ضد المظاهر الإسلامية وفي مقدمتها الحجاب.
وقد حظي مشروع كيبل هذا بموافقة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي تم التجديد له في الانتخابات الأخيرة، وعدد من اليمينيين الفرنسيين في مقدمتهم ماري لوبان، منافسته في الدور الثاني للانتخابات.
الحرب على الإسلام
لا يكتفي المستشرق الفرنسي المعروف كيبل بالدعوة لتطبيق إجراءات عنصرية تمييزية ضد المسلمين في فرنسا، بل يقوم بجولة عربية استهلها من تونس التي غالباً ما تتم الإشادة بها وبالإجراءات التي قامت بها الأنظمة السياسية فيها قبل الثورة، ولا سيما في عهدي بورقيبة، وبن علي (1956/ 2011م) التي عرفت حملات مصادرة الأوقاف، وبالتالي اندثار جميع المشاريع التي كانت الأوقاف تتكفل بها من تعليم ورعاية الأيتام والأرامل والمشاريع الصغيرة للفقراء فلاحية وصناعية وغيرها، وإغلاق جامع الزيتونة والقضاء على التعليم الإسلامي المختص، ومنع تعدد الزوجات، ونشر دور الدعارة برعاية الدولة، ومحاربة مظاهر الالتزام الإسلامي كاللحية والحجاب، وقد بررت ماري لوبان، سالفة الذكر، المشروع الفرنسي الجديد الذي يقوده المستشرق الفرنسي كيبل بأن رئيس تونس الأسبق قام بتنفيذه، وبالتالي “لسنا مسلمين أكثر من المسلمين أنفسهم”.
وقد بدأ كيبل في بلورة معالم مشروع “إسلام فرنسي” انطلاقاً من كتاب “إسلام الضواحي”، ووصولاً إلى كتاب “الخروج من الفوضى”، ويدعو فيهما إلى فرض معاملة تمييزية تجاه المسلمين، مع إحكام القبضة الأمنية عليهم، باعتبارهم خطراً على المجتمع الفرنسي وعلى القيم الأوروبية، وقد أضحت اقتراحاته مصدر إلهام لسياسة الرئيس الفرنسي ماكرون الحالية تجاه المسلمين، كما بدأ الترويج لمقترحاته في الخارج حيث زار تونس في منتصف رمضان والتقى الرئيس ورئيس الحكومة ووزير الشؤون الدينية لهذا الغرض.
ورغم تعرض الرئيس الفرنسي ماكرون للكثير من النقد والاستهجان داخل فرنسا وفي العالم الإسلامي، عقب تصريحاته المتوالية عن الإسلام كديانة “مأزومة” عالمياً، والمسلمين كجالية “انفصالية” في فرنسا، باعتبارهم ثالث أكبر كتلة دينية (8.8%)، بعد المسيحيين الكاثوليك (41%)، فإن ماكرون ماض في سياساته المحاربة للإسلام والمسلمين.
وقد ارتفعت حدة الانتقادات بعد استكمال عرض معالم مشروع “هيكلة الإسلام” داخل فرنسا، التي تضم أكبر جالية للمسلمين في أوروبا، برقم يصل إلى 8 ملايين مسلم، على أن يتم تسويقه مستقبلاً نحو بقية الدول، لحل “أزمة” الإسلام بها.
لماذا اختار ماكرون محاربة الإسلام؟
يحاول ماكرون من خلال الاستعانة بالمستشرق كيبل تقديم خطة “إصلاح” لا يختزل فيها الإسلام في العبادات فحسب، بل يحاول إضفاء تحريفات على عقائد المسلمين وعباداتهم، ويسمي ذلك “إسلاماً فرنسياً” يتوافق مع قيم ومبادئ الجمهورية الفرنسية، وترويجه على مستوى عالمي، وقد سجل تاريخ فرنسا أنها عملت في حروبها الاستعمارية حتى داخل أوروبا على فرض لغتها ونموذجها على كل الدول التي تعرضت لعدوانها ولم تسلم من ذلك حتى بريطانيا.
وإلى جانب البعد الاستبدادي على المستوى الثقافي والسياسي في فرض أنموذج فرنسي لإسلام غير الإسلام على العالم، يحاول ماكرون تعزيز موقعه كزعيم سياسي محلي ودولي من خلال مشروع محاربة الإسلام تواصلاً مع ما يسميه المتطرفون الفرنسيون معركة بواتييه (بلاط الشهداء)، يمكنه (المشروع) من قيادة أوروبا خلفاً للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.
ويعتقد كثيرون أن ماكرون يتبنى مشروع حرب ضد الإسلام، فرؤية كيبل حيال الإسلام ليست الوحيدة في فرنسا، لكنها الوحيدة التي تهدف لإذلال المسلمين وصهرهم داخل المجتمع الفرنسي، بلا تحفظات ثقافية تتعلق بهويتهم وقيمهم بما يعني إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء إلى المرحلة التي كانت فيها الكنيسة ومن بعدها العلمانية تفرض سلطانها بالحديد والنار.
لقد كان اختيار أطروحة جيل كيبل، الذي يشتغل منذ ثمانينيات القرن الماضي، على تطويع الإسلام في فرنسا، ضمن قائمة تضم مشاريع أكثر موضوعية و”حيادية”، على غرار ما يطرحه خبراء أمثال المفكر أوليفيه روا، والأكاديمي وفرنسوا بورغا، والخبير ستيفان لاكروا، والسوسيولوجي آلان جريش، والأنثروبولوجي برينو إيتيان.
ما خفي كان أعظم!
لا شك أن الرئيس الفرنسي ماكرون لا يتحدث عن كل ما في الخطة التي تستهدف تنصير المسلمين أو إلحادهم أو التخلي عن دينهم في تعاملاتهم ومظاهرهم؛ أي إخفاء الإيمان في القلب كما يقول فحسب، وعدم التعبير عنه في أشكال مادية كالصلاة والصوم والحج، فضلاً عن الحجاب والتعليم الإسلامي في المدارس الخاصة وبناء المساجد الجديدة، كما في رؤية المستشرق الفرنسي كيبل.
وفي علاقته بالزعماء المسلمين، يمارس الرئيس الفرنسي أسلوب التقية، عند كل حديث عن الإسلام والمسلمين، فهو لا يبدي كل ما قد يكشف الأطروحة التي يعمل على تسويقها، كمشروع من إنجاز حكومته، في تعاملها مع الإسلام بفرنسا.
لكن، ووفقاً لقول الشعار: “عن المرء لا تسل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي”، وإذا علمنا أن حكيم القروي، الباحث بمعهد مونتاني، هو من يشغل منصب مستشار الرئيس في قضايا المسلمين، كافية للتأكد من أن الحكومة الفرنسية تحاول اختبار مشروع كلف صاحبه 35 سنة من الاشتغال، منذ أول كتاب بعنوان “النبي والفرعون” (1984م) عن الجماعات الإسلامية في مصر، ثم الكتاب المرجعي “ضواحي الإسلام” (1987م)، نظراً لكونه أول دراسة ميدانية حول ظاهرة تطور الإسلام في فرنسا.
وبذلك، تحوّلت خطب ماكرون إلى صدى لأفكار كيبل، فحين يردد أن “الإسلام ديانة تعيش اليوم أزمة في كل مكان في العالم”، مستعيناً بقاموس مفاهيمي غريب عن الساحة السياسية الفرنسية، يصبح مجرد بوق يروج أطروحة، طالما اشتكى صاحبها اللامبالاة التي طالت أعماله حول الإسلام والمسلمين بفرنسا، التي بلغت مستوى تحفظ صحيفة فرنسية مشهورة عن نشر حوار أجرته مع كيبل.
تعرض مشروع كيبل البحثي لانتكاسة كبرى، بعد كتاب “الجهاد وانحدار الإسلام السياسي” (2000م)، حيث خلط عمداً وبخبث بين الإرهاب والإسلام من جهة، والحركات الإسلامية المعتدلة التي لا تمارس الإرهاب، وأعلن عن خلاصة بائسة ومخالفة للواقع عندما ربط الإرهاب بعدم قدرة الإسلام والحركات الإسلامية على الانتشار، بينما الإسلام أكثر الديانات انتشاراً في العالم، والحركات الإسلامية الأكثر شعبية بين مختلف الأحزاب الأخرى رغم التضييق والقمع الذي تتعرض له.
رؤية موضوعية
”وافق شن طبقة” هو التفسير الوحيد لتطرف الرئيس ماكرون حيال الإسلام والمسلمين عند البحث عن سبب تفضيله لرؤية كيبل على غيره من المفكرين والباحثين الفرنسيين مثل أطروحة المفكر الفرنسي أوليفيه روا الذي قدّم رؤية تركيبية لقضايا المسلمين الراهنة، وأكثر موضوعية قياساً إلى شطحات المستشرق الفرنسي كيبل، فهذا الباحث يقر بأن الحالة الإسلامية في القرن العشرين عبارة عن “هوية تبحث عن ذاته”.
بينما يرى كيبل أن فهم التطرف الإسلامي يستوجب الانطلاق من الإسلام نفسه بفهم بعيد كل البعد عن المراجع والدوافع والأسباب، وهو فهم انطباعي ينقصه الفهم، فهو يرى أن هيمنة الخطاب المتمسك بالأصول الإسلامية (الكتاب والسُّنة وما أجمع عليه علماء الأمة)، يؤدي إلى انفصال المؤمنين بهذا الفهم الذين سماهم “المتطرفين” عن مجتمعهم.
فالتطرف باختصار نتاج مشكلة فكرية وثقافية، لها جذورها الدينية والاجتماعية والتاريخية، وبالتالي لا بد من إبعاد المرجعية الإسلامية متمثلة في أصولها الكتاب والسُّنة عن دائرة التعريف الديني، وبذلك يصبح المسلم بدون هوية، لكن كيبل يسارع لنفي ذلك؛ “إنه سيحصل على هوية مجتمعه”، وهي نظرة أقرب ما تكون إلى سياسة محاكم التفتيش في إسبانيا عندما تم إجبار المسلمين على الردة بحجة إلباسهم هوية أخرى مفروضة عليهم فرضاً ومبررة من قبل الطغاة.
وهذا بالتحديد ما شرع الرئيس الفرنسي ماكرون في تنزيله منذ أشهر، بتبني حكومته لإجراءات وقرارات ومشاريع قوانين من شأنها تشكيل إسلام على مقاس وهوى ماكرون، لكن الحقيقة أن هذا الأمر يأخذ بُعداً عالمياً يتجاوز فرنسا، فعودة المسلمين إلى إسلامهم في بعده الثقافي الحضاري الشامل سيضيع على أعدائهم قروناً من الحرب على الإسلام حتى لا يعود كما هو ديناً ودولة عقيدة وشريعة، ويعود المسلمون أمة واحدة يعبدون رباً واحداً، ودستورهم القرآن واحداً، ومصيرهم واحداً جسداً واحداً إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.. هنا مربط الفرس.