عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه: «يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب، ويقي ذلك مثل مؤخرة الرحل»(1)، عندما قرأ المستشرقون وأذنابهم هذا الحديث انطلقوا به في التجمعات النسوية، وزعموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم شبه المرأةَ بالحمار، والكلب الأسود، وقالوا: هل هذا كلام يخرج من نبيٍّ مرسل من عند الله؟! وهل هذا هو حال المرأة المسلمة؟!
تفنيد هذه الشبهة وبيان بطلانها
وقفة مع لغويات الحديث
إن الحديث الذي استند إليه هؤلاء المرجفون ليس فيه تشبيه المرأةَ بالحمار، والكلب الأسود؛ هذا التشبيه ليس في الحديث أصلًا، ولا توجد به أداة من أدوات التشبيه كما تعلمنا من لغة العرب.
ومن بدهيات اللغة العربية أن المشترك في التشبيه لا يعني المساواة أو المماثلة، فحينما يقول التلميذ: «أخاف من معلمي والكلب»، فهل المعلم مثل الكلب؟! أم أن المعلم اشترك فقط مع الكلب في حالة خوف التلميذ، وليس الكلبُ مشبهاً بالمعلم أو مساوياً له أو مثله.
وبنظرة سريعة نجد أنه ليس ثمة شيء في الوجود إلا وبينه وبين الأشياء الأخرى وجه شبه، ولو في بعض المعاني المطلقة، فالإنسان يشبه الجماد في كون كل منهما موجوداً مخلوقاً، ويشبه الحيوان في أوجه كثيرة، فكل منهما كائن حي يأكل ويشرب ويحيا ويموت، بل يُعَرِّفُ المناطِقَة الإنسان بأنه: حيوان ناطق.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: «كل موجودين فلا بد أن يكون بينهما نوع مشابهة ولو من بعض الوجوه البعيدة ورفع ذلك من كل وجه رفع للوجود»(2).
وقد ورد عن الصحابي عمار بن ياسر رضي الله عنهما أنه شبه فعل نفسه بفعل الدابة، فقال: «بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة، فأجنبت فلم أجد الماء، فَتَمَرَّغْتُ في الصعيد كما تَمَرَّغُ الدابة»(3).
ولم يفهم أحد من الناس أنه يقصد تشبيه نفسه بالدابة من أي وجه، إذ لا تحتمل لغة العرب ذلك أبداً.
وفي ظل هذا نقول لهؤلاء: ينبغي عليكم أن تفهموا اللغة العربية أولاً قبل الخوض في هذه الشبهات الساقطة، التي تدل على جهل تام بالأسلوب العربي.
فقه الحديث
بالنظر في الحديث نجد أن المقصود ليس شيئاً يتعلق بالصفات السيئة لكل من الحمار والكلب، أو أن المرأة في درجة هذه الدواب، إنما المقصود الاشتراك في فعل معين، يتعلق بالصلاة؛ وهو إخراج المصلي عن خشوعه واتصاله بالله تعالى، وينبغي أن نعلم أن المرور بين يدي المصلي ممنوع في الأصل، وقد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمر بين يديه»، قال أبو النضر (راوي الحديث): «لا أدري أقال أربعين يوماً أو شهراً أو سنة»(4).
وقد روى البخاري ومسلم أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه كان في يوم جمعة يصلي إلى شيء يستره من الناس، فأراد شاب من بني أبي معيط أن يجتاز بين يديه، فدفع أبو سعيد في صدره، فنظر الشاب فلم يجد مساغاً إلا بين يديه، فعاد ليجتاز، فدفعه أبو سعيد أشد من الأولى، فنال من أبي سعيد ثم دخل على مروان فشكا إليه ما لقي من أبي سعيد، ودخل أبو سعيد خلفه على مروان، فقال: ما لك ولابن أخيك، يا أبا سعيد؟ قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتله، فإنما هو شيطان»(5).
قال الإمام النووي رحمه الله معلقاً على هذا الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم: «فإنما هو شيطان»، قيل: معناه إنما حمله على مروره وامتناعه من الرجوع الشيطان، وقيل: معناه يفعل فعل الشيطان؛ لأن الشيطان بعيد من الخير وقبول السنة، وقيل: المراد بالشيطان القرين كما جاء في الحديث الآخر (فإن معه القرين) والله أعلم(6).
وهكذا يتضح لنا أن الحديث عام في كل من أراد أن يجتاز بين يدي المصلي؛ سواء كان رجلاً أو امرأة.
والجدير بالذكر هنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في نهاية الحديث: «ويقي من ذلك مثل مُؤْخِرَةِ الرحل»، وهي الخشبة التي يستند إليها الراكب على البعير، والمعنى: أن يضع المصلي قدر تلك الخشبة أمامه؛ سترة ووقاية من المارين أمامه؛ فهذه تمنع قطع الصلاة بمرور هؤلاء المذكورين.
هل تبطل الصلاة بالمرور بين يدي المصلي؟
ذهب بعض أهل العلم في تأويل القطع المذكور في هذه الأحاديث، إلى أنه ليس المراد به إبطال الصلاة، وإلزام إعادتها، وإنما المراد به القطع عن إكمالها والخشوع فيها بالاشتغال بغيرها، والالتفات إليه، قال القرطبي رحمه الله: «ذلك أن المرأة تفتن، والحمار ينهق، والكلب يروع، فيتشوش المتفكر في ذلك حتى تنقطع عليه الصلاة وتفسد، فلما كانت هذه الأمور آيلة إلى القطع، جعلها قاطعة»(7).
وقال ابن رجب رحمه الله: «وأقرب التأويل: أن يقال: لما كان المصلي مشتغلاً بمناجاة الله، وهو في غاية القرب منه والخلوة به، أمر المصلي بالاحتراز من دخول الشيطان في هذه الخلوة الخاصة، والقرب الخاص؛ ولذلك شرعت السترة في الصلاة خشية من دخول الشيطان، وكونه وليجة في هذه الحال، فيقطع بذلك مواد الأُنس والقرب؛ فإن الشيطان رجيم مطرود مبعد عن الحضرة الإلهية، فإذا تخلل في محل القرب الخاص للمصلي: أوجب تخلله بعداً وقطعاً لمواد الرحمة والقرب والأنس، فلهذا المعنى -والله أعلم- خصت هذه الثلاث بالاحتراز منها»(8).
إذًا: ليس في الحديثِ تشبيه المرأة بالحمار، أو الكلب الأسود، بل إن ما جاء في الحديث ذكر حكم شرعي، مفاده أن أكثر ما يؤدي إلى قطع الصلاة؛ المرأة حينما تمر بين يدي المصلي تقطع صلاتَه، وكذلك الحمار والكلب الأسود، وقطع الصلاة المذكور ليس قطع بطلان، ولكن قطع نقصان.
فهل يرتدع المستشرقون وأذيالهم ويمتنعون عن إثارة مثل هذه الشبهات؟
____________________________
(1) صحيح مسلم، رقم (511).
(2) بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية، المؤلف: شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية، 7/569.
(3) رواه البخاري (347)، ومسلم (368).
(4) رواه البخاري (510).
(5) رواه البخاري (487)، ومسلم (505).
(6) شرح مسلم، الإمام النووي، 4/167.
(7) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، المؤلف: أبو العباس أحمد بن عمر بن إبراهيم القرطبي، 2/109.
(8) بتصرف من «فتح الباري شرح صحيح البخاري»، المؤلف: زين الدين عبدالرحمن بن أحمد الشهير بابن رجب، 4/135.