إن ظاهرة الإرساليات التبشيرية في العالم الإسلامي هي أخطر الظواهر الاجتماعية التي يجب أن تدرس في توسع للتعرف على الدور الخطير الذي قامت وتقوم في محاربة الإسلام وتزييف مفاهيمه واحتواء معتنقيه، وتمهيد السبيل لتثبيت دعائم النفوذ الأجنبي على مدى قرن كامل من الزمان، وخاصة بعد أن توسعت واقتحمت مجال الثقافة والصحافة بعد المدرسة والجامعة.
مصانع تخرج العلماء
فقد كانت هذه الإرساليات هي المصانع التي خرجت الأجيال من العملاء والتابعين للنفوذ الأجنبي وأولياء الثقافات الفرنسية والإنجليزية والماركسية والتلمودية.
ولقد عرف د. زويمر (مبشر أمريكي) هدف هذا العمل الخطير بأنه: ليس إدخال المسلمين في المسيحية، وإنما هو إخراجهم من الإسلام حين قال: ليس غرض التبشير المسيحي إخراج المسلمين من دينهم، ولقد برهن التاريخ وأزمة بعد أزمة على أن المسلم لا يمكن أن يكون مسيحياً مطلقاً، ولكن الغاية هي إخراج المسلمين من الإسلام فقط ليكون ملحداً أو مضطرباً في دينه وعندها لا يكون مسلماً أي لا تكون له عقيدة يدين بها.
وهذه أسمى مراتب الانتقام من الإسلام وأعظم الغايات الاستعمارية، أجل قضينا على برامج التعليم في الأقطار الإسلامية منذ خمسين عاماً، فأخرجنا منها القرآن وتاريخ الإسلام، ومن ثم أخرجنا الشباب والفتاة الإسلامية من الوسائط التي تخلق فيهم العقيدة الوطنية والإخلاص والرجولة والدفاع عن الحق.
وثيقة خطيرة
هذه هي أخطر وثائق التبشير التي يؤرخ بها للتعليم في البلاد العربية والإسلامية؛ ذلك لأن الإرساليات جاءت فوضعت البرامج التي تدمر الإنسان المسلم ثم جاءت المدارس الوطنية –في ظل النفوذ الاستعماري في مصر والمغرب والشام والهند وإندونيسيا– فاعتنقت هذه المناهج وطبقتها ولا تزال في جانب كبير منها مطبقة إلى اليوم، وقد ركزت الإرساليات على عدة أمور مهمة:
أولاً: أن تحتضن الفتاة المسلمة، فكانت أولى الإرساليات هي مدارس البنات لتعليم المرأة المسلمة في ظل مفاهيم مسيحية وعلمانية.
وقالت المبشرة المعروفة أنا مليمنان: ليس ثمة طريق إلى حصن الإسلام أقصر مسافة من هذه المدرسة.
وقال المبشرون: لقد برهن التعليم على أنه أثمن الوسائل التي استطاع المبشرون أن يلجؤوا إليها، في سعيهم لإخراج المسلمين من الإسلام.
ثانياً: أن يكون التعليم وسيلة لعقد الولاء مع الأمة صاحبة المدرسة أو الجامعة، ولقد تردد طويلاً، أن الجامعات الأمريكية كانت وسيلة لتمهيد الطريق أمام المصالح الأمريكية وكانت منطلق العمل لتأكيد الصهيونية في العالم الإسلامي ودعمها، كما كانت الجامعات الفرنسية وسيلة لتثبيت النفوذ الفرنسي وكذلك الجامعات الإنجليزية.
ثالثاً: أن يكون التعليم في الإرساليات وسيلة لهدم مفهوم العقيدة، وذلك بالدعوة إلى وحدة كل الأديان والعقائد والنحل والمذاهب، وحرية الجمع والمساواة بين الأديان المنزلة، وبين الأديان الوثنية وفتح الطريق أمام نقد الدين والسخرية به، وتصويره على أنه فكر قد مضى عهده، وأن العصر عصر العلم وأن الدين معارض للعلم.
رابعاً: تقوية العنصريات والدعوة إلى الإقليميات والعصبيات والقوميات كالبربرية والتركية والفارسية والعربية، وإحياء الحضارات القديمة كالفينيقية والآشورية والبابلية والفرعونية، وإحياء الفلكلور القديم والآثار القديمة، لخلق ثقافات وتاريخ سابق للإسلام، مع أن الإسلام أقام قاعدة الانقطاع الحضاري بين حاضره وما سبقه من عصور طابعها الحضارية الوثنية.
خامساً: الدعوة إلى العاميات واللغة المحلية والقضاء على اللغة العربية الفصحى، والحيلولة بين النشء وبين تعلم لغته التي هي المفتاح للإسلام والقرآن، وإحياء العاميات والتركيز على تعليم اللغة الأجنبية، التي هي المدخل إلى مفاهيم الفكر الوافد، والادعاء بأن اللغة العربية لم تعد صالحة لاستيعاب كل الأغراض، مع تفريغ اللغة الفصحى من الروح الإسلامي عن طريق كتابات الصحف والمسرحيات والإذاعة والأغاني التي تقدم مضامين وافدة غربية منقولة مكتوبة باللغة العربية.
وإقامة ثقافة خفيفة مستمدة من التفاهات مقام الثقافة الأصيلة ذات البيان العربي الرصين.
سادساً: الاعتماد على الترجمات من اللغات الأجنبية، وخاصة ترجمة قصص الجنس والإباحية، وقصص الإغريق الوثنية وكتابات سارتر وكافكا ونيتشة وغيرها، مما يثير في نفوس الشباب شبهات الشكوك والإلحاد.
سابعاً: طرح الأيديولوجيات المختلفة والنظريات الفلسفية المتعددة في علم النفس والاجتماع والأخلاق، وكلها ترمي إلى تحطيم مفاهيم الدين الحق، وخلق روح حرية الشباب والجنس، والإفساد الأخلاقي بالأندية والسمر والرحلات المختلطة، واستغلال الفكر الماركسي في هدم المجتمع الإسلامي، وتقديم الشبهات المسيحية واليهودية في قالب من النظريات ذات الصبغة العلمية البراقة الكاذبة.
ثامناً: محاولة التشكيك في تاريخ إسلام وسيرة رسوله صلى الله عليه وسلم وذلك بالادعاء بأن القرآن مستمد من التوراة والإنجيل.
واستغلال الآيات التي مجد القرآن فيها السيد المسيح عليه السلام والسيدة مريم، للتبشير بالمسيحية ومحاولة إقناع المسلمين بفكرة التجسد، أو الادعاء بأن الفكر الإسلامي مستمد من الفلسفة اليونانية.
تاسعاً: تقديم مفاهيم فاسدة، عن الموسيقى والمسرح والفن والحضارة والتقدم والمعاصرة، تختلف مع مفهوم الإسلام الأصيل.
عاشراً: إغراء الشباب المسلم بالبعثات الخارجية، وهي التي تستهدف تغيير شخصية الشباب بعد صهره في معاهد خاصة، ووضع الفتيات الأجنبيات في طريقه لعقد صلة اجتماعية تستمر مدى الحياة، وتكون عاملاً من عوامل خدمة أهداف التغريب، وحصار رجال البعثات بعد عودتهم، ليكونوا خادمين للثقافات الأجنبية، وهناك نماذج واضحة أمثال طه حسين ومحمود عزمي وغيرهما.
___________________________
(*) من كتاب «التبشير الغربي».