لكل شيء في هذا الكون بداية ينطلق منها -حاشا ربنا الأول سبحانه فليس قبله شيء- تمثل هذه البداية الأساس والمصدر الذي يقوم عليه هذا الشيء ويتفرع منه، وغالباً ما يحمل هذا الفرع كثيراً من صفات وطباع أصله؛ ولذا جاء في الأمثال الدارجة قولهم: «على الأصل دوَّر».
أصل اليهود وبدايتهم
انحدر اليهود من نسل بني إسرائيل، وبنو إسرائيل هم أولاد يعقوب عليه السلام، يوسف عليه السلام وباقي إخوته.
هل أولاد يعقوب هم الأسباط الاثنا عشر؟
السبط في اللغة: الشيء المنبسط الممتد المتفرع عن الأصل، ويطلق على ولد الولد وما دون، ولا يطلق السبط على الولد، قال البغوي: وسبط الرجل حافده، ولذا قيل في الحسن والحسين: سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
رغم كرم أصل بني إسرائيل وانحدارهم من سلالة الأنبياء فإن طباعهم كانت مكراً وحقداً وغدراً
فالأسباط، إذن، ليسوا أولاد يعقوب، وإنما هم أحفاده المنحدرون من صلب أولاده، والأسباط في بني إسرائيل كالقبائل والبطون والعوائل عند العرب، وهو ما صرح القرآن بذكره: (وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً) (الأعراف: 160)؛ أي: قطعنا بني إسرائيل اثنتي عشرة أمة، ولهذا فجّر الله تعالى لهم الحجر اثنتي عشرة عيناً على عدد قبائلهم وأسباطهم، فقوله تعالى: (أُمَماً) منصوبة؛ لأنها بدل من (أَسْبَاطاً)(1).
هل أولاد يعقوب كلهم أنبياء؟
الراجح أنهم من نسل الأنبياء يعقوب، وإسحاق، والخليل إبراهيم، عليهم السلام، لكنهم ليسوا جميعاً أنبياء، إلا يوسف عليه السلام، فهو نبي بالإجماع.
وهناك من قال بنبوتهم جميعاً، وهو ادعاء يفتقر إلى دليل، لا سيما وأن طباعهم وأخلاقهم وما عرف عنهم من مكر وخداع وكذب على أبيهم لا يتوافق مع كرم طباع وأخلاق الأنبياء، يقول د. صلاح الخالدي: وهم وإن صحت نسبتهم ليعقوب، وإبراهيم، فإن وراثتهم لهما ولغيرهما من الأنبياء لا تصح؛ لأن القرآن فرَّقَ بين صلة النسب ووراثة الدين والإيمان والعقيدة(2).
طبيعة حياة بني إسرائيل في ظل وجود أبيهم
ولد نبي الله يعقوب في أرض فلسطين، ونشأ وترعرع بها، وتزوج وأنجب أولاده جميعاً فيها، وكان يعقوب مقيماً بأسرته في منطقة «البدو» كما أثبت القرآن ذلك.
ومنطقة البدو تقع في جنوب فلسطين، وهي التي تعرف الآن بمنطقة «النقب» جنوب وشرق بئر السبع(3).
مسلسل الحقد والحسد عند اليهود بدأ في أجدادهم الأوائل إذ حسد بعضهم بعضاً
ويعقوب نبي كريم، وداعية إلى الإسلام، له شريعته التي عاش هو وأولاده وقومه عليها، وقد ظهر ذلك جلياً في وصيته لأبنائه حيث قال لهم: (إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) (البقرة: 132)، فكان حريصاً أن يعيش أولاده على الإسلام، حتى إنه لما كان على فراش الموت أراد أن يؤكد ويطمئن على معتقد أولاده من بعده، فجمعهم ثم طرح سؤاله: ما تعبدون من بعدي؟، فقالوا: (نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة: 133).
أولاد يعقوب.. حسن الأصل وسوء الفرع
فعلى الرغم من كرم أصل بني إسرائيل وانحدارهم من سلالة الأنبياء، وحرص أبيهم يعقوب على تمسكهم بتعاليم الإسلام، فإن طباعهم كانت طباع سوء ومكر وحقد وغدر، فالطبع يغلب التطبع، وكما جاء في الحِكَم: «وإذا كان الطباع طباع سوء؛ فلا أدب يفيد ولا أديب».
ولكم حاول نبي الله يعقوب أن يصلح من طباع أولاده لعلمه أن من بينهم من يملك طباعاً دنيئة ونفساً أمارة بالسوء، ولكن حكمة الله اقتضت أن يكون في نسله الصالح والطالح، وأن يغلب الطالح الصالح.
لنعلم جميعاً أن الهداية والديانة وكرم الطباع لا تورث كالأنساب، وإنما هي في أساسها اصطفاء ورزق من الله تعالى، والله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، ولو أنها تورث كما النسب، لورثها نوح ولده وثمرة فؤاده.
بداية حقد بني إسرائيل
لقد بدأ مسلسل الحقد والحسد عند اليهود في أجدادهم الأوائل، إذ حسد بعضهم بعضاً، وهو ما ظهر جلياً في أحداث سورة «يوسف»، حين نظروا إلى صغارهم نظرة حقد وحسد، وأشاروا إلى والدهم النبي الكريم بأصابع الاتهام بالضلال والانحياز والظلم وعدم العدل بينهم، ثم راحوا ليمكروا بأبيهم وأخيهم الصغير مكر الثعالب، راحوا يخططون لقتله والتخلص منه، في مشهد شيطاني ماكر، دون أدنى مراعاة لمشاعر هذا الطفل البريء وهو يرى هذا الكيد واللؤم من إخوانه أقرب الناس إليه الناصحين الحافظين له.
فضح القرآن والتاريخ والواقع ما في قلوب اليهود من حقد وحسد على المؤمنين
لقد طوعت لهم أنفسهم الأمارة بالسوء أن يلقوا بأخيهم في غيابة بئر على طريق القوافل التجارية بين مصر والشام، ليكون مصيره الحتمي إما الموت داخل هذه البئر، أو على أقل تقدير النفي إلى بلد بعيد عن فلسطين.
يقول د. الخالدي: إن موقف هؤلاء من أخيهم يمثل البداية الحاقدة لهذا النموذج البشري الخاص، فإذا كان الأجداد والأصول الإسرائيليون على هذه الدرجة من الحقد والكيد على أخيهم، فكيف سيكون حقد وكيد ولؤم الأحفاد القادمين من اليهود على غيرهم(4)؟!
إن حقد الأجداد وسوء طباعهم قد ورثه الأحفاد وتناقل عبر الأجيال، وكأن هذا الحقد الأسود والمكر الدفين «جينات وراثية» تنتقل من الآباء لتستقر في أعماق نفوس الأبناء.
فلو رأينا كيف حسدوا نبينا محمداً على نبوته، بعدما علموا أن نبي آخر الزمان ليس من نسلهم، لو رأينا كيف خططوا لقتله واغتياله والتخلص منه، تارة بوضع السم له في ذراع شاة مشوية، وتارة بإلقاء صخرة ضخمة على رأسه وهو جالس في ناديهم بكل أمان يتفاوض معهم، وتارات أخرى بالتحزب على محاربته وقتاله صلى الله عليه وسلم!
لو رأينا كم تمنوا أن يرتد المسلمون عن دينهم وسُنة نبيهم، (وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم) (البقرة: 109)، ولو رأينا كيف قابلوا إحسان المسلمين إليهم ببالغ الإساءة، حين غدروا بالمسلمين في الأندلس، وتآمروا على الخلافة العثمانية في تركيا المسلمة!
ولو رأينا وتأملنا لعلمنا ما في قلوب القوم من حقد أسود وحسد دفين(5).
لقد فضح القرآن والتاريخ والواقع ما في قلوب اليهود من حقد وحسد على عباد الله المؤمنين، وبالغ في إنكار هذا الحسد عليهم: (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً {53} أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ) (النساء).
وإن قلوبهم لمشحونة بمزيد من هذا الغل والحقد والحسد إن لم نرجع إلى كتاب ربنا ونتمسك بسُنة نبينا ونعي التاريخ والواقع جيداً.
_________________________
(1) موقع «إسلام أون لاين»، مقال بعنوان «حقيقة الأسباط».
(2) كتاب «الشخصية اليهودية»، د. صلاح الخالدي.
(3) كتاب «القصص القرآني»، د. صلاح الخالدي.
(4) المرجع السابق.
(5) كتاب «معركة الوجود بين القرآن والتلمود»، عبدالستار فتح الله، بتصرف.