حيل شيطانية، ومكائد إبليسية، يروج لها المنافقون، ويقع في حبائلها الغافلون، ويفطن لها المؤمنون، فلا هم يستجيبون لها، ولا هم في شراكها يقعون، إنها وسائل تزيين الباطل، التي تؤدي إلى قلب الحقائق وكثرة العوائق وسوء البوائق، فما هذه الوسائل؟
1- ادعاء إرادة الخير والصلاح:
لقد ابتكر الشيطان هذه الوسيلة حين وسوس آدم وزوجه قائلاً: (يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى) (طه: 120)؛ قال الطبري: وسوس الشيطان لآدم فقال له: هل أدلك على شجرة إن أكلت منها خلدت فلم تمت، وملكت ملكاً لا ينقضي، وقال له: إن أكلت منها كنت مَلكا مثل الله أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ فلا تموتان أبداً(1)، فالشيطان يزعم أنه يريد لآدم وزوجه الخير، ويوسوس لهما فعل ما يريد حتى يصل بهما إلى الخير المزعوم.
وهكذا شأن الشياطين ومن سار في ركبهم من الطغاة والمنافقين، فهذا فرعون حين أراد أن يزين لقومه اتباعه والسير وراءه؛ زعم أنه يريد لهم الخير والصلاح، وفي هذا قال تعالى: (قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) (غافر: 29)، أما المنافقون فإنهم يفسدون في الأرض ويسعون إلى تزيين مسلكهم للناس، فيقولون لهم: إنهم يصلحون ولا يفسدون، وفي هذا يقول الله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ {11} أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ) (البقرة).
2- لبس ثوب النصيحة:
وسيلة أخرى تقوم بها الشياطين في تزيين الباطل، وهي لبس ثوب النصيحة، وكأنه لا يريد شيئاً لنفسه، بل ينصح الناس لمصلحتهم، وقد حذّرنا الله تعالى من ذلك حين أوضح لنا أن هذا سلوك الشيطان، فقال: (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ {20} وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ {21} فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ) (الأعراف).
3- مخادعة الناس بالأيمان الكاذبة:
في الآيات السابقة أوضح الله تعالى أن الشيطان قاسمهما، أي حلف لهما وأقسم الأيمان على صدقه في النصيحة، وهذه حيلة تقوم بها الشياطين وأتباعهم من المنافقين، وهي الأيمان الكاذبة، حيث يحرص المنافقون على الحلف بالله تعالى أنهم لا يريدون إلا الإصلاح، وهم في هذا من الكاذبين.
وقد أوضح القرآن مسلكهم هذا في أكثر من موضع، حيث قال الله تعالى: (فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا) (النساء: 62)، وقال عز وجل: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (التوبة: 107).
4- إظهار أنفسهم مع المؤمنين:
تحرص الشياطين وأتباعهم من المنافقين أن يعلنوا انضمامهم إلى الناس ومساندتهم إذا نزلت بهم نازلة أو حدثت لهم كارثة، وذلك كي ييسروا لهم سبل الطغيان، ويظهر هذا المسلك الشيطاني فيما ذكره القرآن الكريم عن الشيطان الرجيم في قول الله تعالى: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الأنفال: 48)، فقد أكد الشيطان أنه مساند لمن استجاب له، لكنه في الحقيقة مخادع بإظهار الانضمام للناس.
وهذه حال المنافقين أيضاً، فهم يعلنون أنهم مع المؤمنين، لكنهم في الحقيقة يظهرون خلاف ما يضمرون، وفي شأن هؤلاء المنافقين يقول تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ {8} يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ) (البقرة)، وقال عز وجل: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ {13} وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) (البقرة)، وقال تعالى: (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) (النساء: 141).
5- زعم محاربة الفساد وإظهار الخوف على الناس:
لقد أوضح الله تعالى أن الطغاة يزينون للناس الباطل ويستميلون قلوبهم له من خلال إعلان كونهم يحاربون الفساد ويظهرون الخوف على الناس، ومن ذلك ما قاله فرعون حين حارب سيدنا موسى عليه السلام وأراد أن يستميل الناس نحو وجهة نظره حتى يساندوه ويرفضوا دعوة سيدنا موسى، فما كان منه إلا أن أعلن أنه يخاف على الناس من دعوة موسى، وأن محاربته لهذه الدعوة إنما هي لمواجهة الفساد.
وفي هذا يقول الله تعالى: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) (غافر: 26)، وقال عز وجل: (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) (الأعراف: 127)، إنها حيل ومكائد لمحاربة الحق وتزيين الباطل.
___________________
(1) تفسير الطبري (1/ 526).