قال الله تعالى: (قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا) (الكهف: 109)، فإن علم البشر جميعًا ليس بشيء في علم الله الواسع عز وجل، وإن في الصلاة على النبي ﷺ معاني عظيمة دقيقة بشأن فقهها ومقاصدها وحِكَمها قد لا تظهر بداهة لأكثر الناس، وتتجدد تلك المعاني في نفوس عباد الله كلما صَفَتْ حتى لكأنها معان جديدة وُلدت تواً، ولنتعرَّض في هذه الكلمات للفهم المجمل للصلاة على النبي ﷺ في معناها وحُكْمها وفضائلها ثم النظر بشأنها.
معنى الصلاة على النبي ﷺ
الصلاة لغةً الدعاء، والمشهور في معنى الصلاة على النبي ﷺ أنها تعني الرحمة إن كانت من الله عز وجل، وتعني الاستغفار إن كانت من الملائكة، وتعني الدعاء له إن كانت من البشر.
وذكر غير واحد من أهل العلم معاني أخص من ذلك بشأنها قد استفادوها من مجمل النصوص الشرعية التي ذكرتها، ومنه ما ذكره الحافظ ابن حجر بعد نقله عدة أقوال في معناها: وأولى الأقوال ما تقدم عن أبي العالية أن معنى صلاة الله على نبيه ثناؤه عليه وتعظيمه وصلاة الملائكة وغيرهم عليه طلب ذلك له من الله تعالى، والمراد طلب الزيادة لا طلب أصل الصلاة.
وقال الحليميُّ في «الشعب»: معنى الصلاةِ على النبيِّ ﷺ تعظيمُه، فمعنى قولنا: اللهمَّ صلِّ على محمد؛ عظِّمْ محمداً، والمرادُ تعظيمُه في الدنيا بإعلاءِ ذكره، وإظهارِ مثوبتهِ، وتشفيعِه في أمَّتِه، وإبداء فضيلته بالمقام المحمود(1).
ومثلها السلام، فقال غير واحد من أهل العلم أن معنى «السلام عليك»؛ أي: لا خلوتَ من الخيرات والبركات وسلمت من المكاره والآفات(2).
حكم الصلاة على النبي ﷺ
الصلاة على النبي ﷺ مشروعة، لأمر الله عز وجل بذلك في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (الأحزاب: 56)، وقد اختُلِفَ في وجوبها كلَّما ذُكر اسمه، فقال أبو جعفر الطحاوي، وأبو عبد الله الحَليمي: تجبُ الصلاةُ عليه كلَّما ذُكر اسمُه، وقال غيرُهما: إن ذلك مستحبٌّ وليس بفرضٍ يأثم تاركُه، ثم اختلفوا؛ فقالت فرقةٌ: تجبُ الصلاةُ عليه في العمر مرَّةً واحدة؛ لأنَّ الأمرَ المطلقَ لا يقتضي تكراراً، وهذا محكيٌّ عن أبي حنيفة، ومالكِ، والثوري، قال عياض، وابن عبد البر: وهو قول جمهورِ الأمَّةِ، وقالت فرقةٌ: بل تجبُ في كلَّ صلاةٍ في تشهُّدها الأخيرِ وهو قول الشافعيِّ، وأحمد وغيرهما، قالت فرقةٌ: الأمرُ بالصلاةِ عليه -يعني في الصلوات- أمرُ استحبابٍ لا أمر إيجابٍ، وهذا قول ابن جريرٍ وطائفة(3).
فضل الصلاة على النبي ﷺ
وقد ورد في السُّنة في فضائلها الكثير، منها:
– أنها مجلبة لصلاة الله عز وجل على عبده، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «مَن صلَّى عليَّ واحدةً صلَّى الله عليه بها عشراً»(4).
– أنها سبب في تكفير الذنوب ورفع الدرجات، فعن أنس بن مالك، أن رسول الله ﷺ قال: «مَن صلَّى عليَّ واحدةً صلَّى الله عليه عشرَ صلواتٍ، وحطَّ عنه عشرَ خطيئاتٍ، ورُفِعَت لَهُ عشرُ درجاتٍ»(5).
– أنها سبب في دخول الجنة، وذلك مفهوم من دلالة مفهوم المخالفة في قول رسول الله ﷺ: «مَنْ نَسِيَ الصَّلَاةَ عَلَيَّ خَطِئَ طَرِيقَ الْجَنَّةِ»(6)، والنسيان هنا الإهمال.
النظر بشأن الصلاة على النبي ﷺ
وإن الإحاطة بجميل المقاصد وبديع الحِكم من هذه العبادة الجليلة متعذر، فحسبنا ذكر قطرة في بحر، والله واسع عليم، فمن ذلك:
– أن أمر الله عز وجل بالصلاة على النبي ﷺ متضمن للاعتراف بجميل النبي ﷺ على أمته، فإن الأمر بالصلاة قد جاء في موضعين من كتاب الله، واحد قد أداه النبي ﷺ وهو صلاته على المؤمنين، قال الله تعالى: (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (التوبة: 103)، والثاني في مقابلة هذا الجميل بالجميل، قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (الأحزاب: 56).
– أن في آية «الأحزاب» فائدة في ذكر صلاة الله عز وجل وملائكته ثم أمر المؤمنين بها؛ يدل عليها ذكر الاجتماع، وهو تسييد النبي ﷺ ورفعته وشرفه وفضله وتكريمه؛ لا مجرد الدعاء له بالرحمة، فالأمر في الحقيقة تكليف وتشريف، قال ابن القيم: فصلاة الله ثناؤه لرفع ذكره وتقريبه، وصلاتنا نحن عليه سؤالنا الله تعالى أن يفعل ذلك به»(7)، ويؤكد ذلك خلو آيات القرآن من اجتماع صلاة الله عز وجل وملائكته والمؤمنين إلا للنبي ﷺ، وتأكيد الصلاة بـ«إن» والسلام بـ«تسليمًا»، بما يفيد تعدي معنى الصلاة على مجرد الرحمة في حق الله عز وجل والدعاء له ﷺ بها في حق الملائكة والآدميين.
– أن دوام الصلاة عليه ﷺ والسلام بقول: «السلام عليك أيها النبي» جالب لقوَّة استحضار النبي ﷺ على الخاطر كأنه أمام العين يُخاطَب، وهذا مدعاة لاستحضار حاله والتأسي به في سيرته والعمل بهديه.
– أن في دوام الصلاة عليه ﷺ تذكير بحقوقه، فإن المسلم مأمور بتفخيمه وإجلاله، قال الله تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً {8} لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (الفتح)، ثم هو مأمور بحبه أكثر من كل أحد، قال رسول الله ﷺ: «لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى أكُونَ أحَبَّ إلَيْهِ مِن والِدِهِ ووَلَدِهِ والنَّاسِ أجْمَعِينَ»(8).
– أن الصلاة على النبي ﷺ كما أنها شكر ورجاء فهي أيضًا ولاء ووفاء، فأما الشكر فهو لله عز وجل الذي أكرم الخلق جميعًا بنبوته ﷺ، وأما الرجاء فهو في الله أن يرزُق المصلي عليه التأسي به ﷺ، وأما الولاء فهو أن الصلاة عليه ﷺ إعلان بحبه ونصرته، وأما الوفاء فهو الاعتراف بجميله ﷺ على البشر بأنه قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة.
__________________________
(1) فتح الباري (11/ 156).
(2) الصِّلات والبُشَر في الصلاة على خير البشر للفيروزأبادي، ص 66.
(3) ذكر ذلك وأدلته الإمامُ ابن القيم في كتابه «جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام»، ص 540.
(4) رواه مسلم (408)، وابن حبان (906) وغيرهما.
(5) رواه النسائي (1297) واللفظ له، وأحمد (11998)، وصححه الألباني.
(6) رواه ابن ماجه (908)، والطبراني (12/ 180)، وصححه الألباني.
(7) جلاء الأفهام، ص 162.
(8) رواه البخاري (15)، ومسلم (44).