كثيرا ما كتب الباحثون، وتكلم المتكلمون، وخبط الخابطون، وهم يتحدثون عن العصر الجاهلي
، فذهب بعضهم يميناً وذهب الآخرون شمالاً، وتصادت الأفعال وردودها بين الطرفين دون أن تستقر على حال.
هم يلجؤون إلى معطيات التاريخ الظنية النسبية القاصرة، ونحن نلجأ إلى كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه!
يلجؤون إلى علم التاريخ، وهو علم إنساني غير منضبط، يحقق المقاربة للوقائع التاريخية، ولكنه يعجز عن تحقيق المطابقة التامة، لكونه دوّن بعد فترات قد تطول وقد تقصر عن تشكل الوقائع، ولأن المؤرخ إنسان يجد نفسه في كثير من الأحيان مسوقاً وراء تحيّزه، وانتمائه، ومصالحه، ومذهبه ، بينما كتاب الله يعلو على هذا كلّه ويتكلم بالمنطق الصارم والموضوعية الحاسمة التي لا تحابي ولا تداجي فيضع الأمور في مكانها الحق.
القوميين العلمانيين
حتى لقد صرنا نجد بعض المفكرين المعاصرين من القوميين العلمانيين، يلمّعون في هذا العصر وينفون عنه الخبائث والسوءات لكي يخرجوه للناس وقد بدّلت ثيابه المليء بالشروخ، بحجة أن العرب أمة متميزة، قديرة على الارتفاع عن الصغائر، جديرةً بأن تحمل رسالتها الإنسانية في كل زمن ومكان إلى البشرية كافة.
بل لقد ذهب بعض عرّابيهم من النصارى إلى القول: إن الإسلام ما هو إلا حلقة فحسب من حلقات انبعاث هذه الأمة، سبقته وأعقبته حلقات وحلقات، وفي كل الأحوال, فإن العرب يحملون خصيصة التفوّق على كل صنوف الشرّ والأذى، ويصعدون في المراقي حاملين رسالتهم الخالدة على مرّ العصور.
إن القرآن الكريم يحسم الأمر بكلمات قلائل: (لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ {164}) (آل عمران).
ضلال في العقيدة
وتلك هي بإيجاز شديد الصفة المطابقة تماماً لما كانت عليه الأمة العربية قبل الإسلام.. ضلال في العقيدة.. ضلال في التصوّر.. ضلال في السلوك الفردي والاجتماعي.. ضلال في القيم الخلقية.. ضلال بكل ما في الكلمة من معنى.. إذا أردنا أن نسلّم بمقولات القرآن، ومقولات القرآن تجيء دائماً مطابقة للواقع التاريخي لأنها من علم الله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، والذي يبدو أن الفارق بينه وبين علم العبيد شاسع.. شاسع، لا ينطوي على أي مجال للمقارنة على الإطلاق.
وبمجرد رجوعنا إلى كتاب «الأصنام» لابن الكلبي، فإننا نجد فيه من التواءات التصوّر والعقيدة والسلوك الديني ما يثير القرف والاشمئزاز في نفوس القرّاء. فمن هذا المستنقع الآسن، من هذه النقرة الضيّقة التي يختنق فيها العقل والروح والوجدان، من هذه الخرائب المهجورة التي يعشش فيها التخلف، والسخف، والسذاجة.. جاء الإسلام لكي يخرج بالعربي إلى آفاق التوحيد، ونضج التصوّر، ونقاء الاعتقاد فيحرر عقله وروحه ووجدانه، ويعيد تشكيلها من جديد.
وبمجرد تذكرنا ما كانت تفعله القبائل العربية من غزو بعضها بعضاً، واعتداء بعضها على بعض، وسلب ونهب وقتل بعضها بعضاً:
وأحياناً على بكر أخينا إذا لم نجد إلاّ أخانا
وما فعله الإسلام بقيادة رسول الله “صلى الله عليه وسلم” من توحيدها، بمشيئة الله وحده، فيما هو من قبيل المستحيلات التاريخية، حتى إن القرآن الكريم يخاطبه قائلاً: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (الأنفال:63)، ويخاطب الأمة قائلاً: (إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً) (آل عمران:103).
وبمجرد قراءة الشعر (ديوان العرب) وذاكرتهم الحادة، وكشفه عن عوراتهم السلوكية على مستوى شرب الخمر، ولعب الميسر، والزنا.. و.. و..
والحالة النظيفة الوضيئة التي نقلهم إليها هذا الدين تتبيّن لكل ذي عينين دلالة «الضلال المبين» الذي كان العرب عليه في جاهليتهم.. أما الذي طمست ظلمات التعصّب على عيونهم فمنعتهم من رؤية الأشياء على حقيقتها، فإن لهم أن يقولوا ما يشاءون، فيما لا وزن له على الإطلاق!