لم يعرف تاريخ البشرية جرائم ومذابح – على المستوى الكمي والنوعي – أبشع من تلك التي ارتكبها قوم يأجوج ومأجوج
لم يعرف تاريخ البشرية جرائم ومذابح – على المستوى الكمي والنوعي – أبشع من تلك التي ارتكبها قوم يأجوج ومأجوج، فهم كانوا أكبر فتنة بشرية واجهت الإنسانية، فحين أذن الله خرجوا من أقاصي شرق الأرض، وفي كل خروج كان لهم اسم مختلف، فأهلكوا الحرث والزرع، وذبحوا ملايين البشر، وأهرقوا الدماء البشرية كالبحور، وأذلوا الملوك والأباطرة، واستعبدوا الأحرار، واغتصبوا النساء، وملؤوا الأرض فساداً ودماراً بوحشية وهمجية تقشعر منها الأبدان، وعندما بلغوا أوج تأججهم، تراجعوا في انحسار واضمحلال.
قوم يأجوج ومأجوج الذين جاء ذكرهم في القرآن الكريم في سورة «الكهف» وسورة «الأنبياء»، هم الذين خرجوا على ديار الإسلام في القرن الثالث عشر الميلادي باسم التتار أو المغول، ووقتها لم يعرف المسلمون أن هؤلاء القوم الهمجيين هم قوم يأجوج ومأجوج، ذلك أن هناك الكثير من الإسرائيليات والأحاديث الموضوعة التي تتحدث عن يأجوج ومأجوج بشكل لا يقبله عقل، فقالوا عنهم: إن لهم أربع أذرع وأربع أرجل، وقيل: إن منهم الطويل كالنخلة السحوق، ومنهم القصير الذي لا يتعدى طوله شبراً، ومنهم من ينام على إحدى أذنيه، ويتغطى بالأخرى، حتى أن هناك بعض المصادر القديمة تقول: إن الله تعالى خلقهم من نطفة آدم حين احتلم، فاختلطت بتراب فخلقوا من ذلك، وأنهم ليسو من حواء، وللأسف قال بهذا الكلام الإمام النووي في شرحه لـ«صحيح مسلم»، لكنه ضعَّف هذه الرواية، ومثل هذه الاجتهادات هي التي شلت قرائح المجتهدين في الأزمنة الحديثة، رغم أن هذه الأمور ليست من صلب العقيدة، وباب الاجتهاد فيها مفتوح.
مكان تواجدهم
قيل الكثير والكثير عنهم وعن مكان تواجدهم، ذلك أن الكرة الأرضية في تلك الأزمان كانت مجهولاً بالنسبة للإنسان، وبالتالي كان الذين وصلهم خبر يأجوج ومأجوج يتصورون أنهم يعيشون في مكان خفي من الأرض وخروجهم سيكون آخر الزمان، والنص القرآني أكد أن هؤلاء القوم موجودون في مكان ما على الأرض، ومع تطور البشرية واكتشاف كل نواحي الأرض وكل مخلوقاتها، بحيث لم يعد هناك سنتيمتر مربع في بر الأرض أو بحرها إلا وتم اكتشافه، أصبح في حكم اليقين أن يأجوج ومأجوج هم التتار، خاصة أن صفات التتار تتفق تماماً مع الأحاديث النبوية الصحيحة التي ذكَرتهم، وما فعله التتار بالبشر كان أبشع فتنة تعرض لها بنو البشر حتى الآن.
سد ذي القرنين
والمتفق عليه أن هؤلاء القوم هم الذين حجزهم ذو القرنين خلف السد – كما سنعرض ذلك لاحقاً بشكل مفصل – وبعض المصادر تقول: إنهم كانوا 22 قبيلة، تم احتجاز 21 قبيلة منهم خلف السد، وقبيلة واحدة تُركت، وأطلق عليهم «الترك»، وهم الذين كوَّنوا إمبراطورية إسلامية مترامية الأطراف فيما بعد، وتغيرت ملامحهم وصفاتهم بفعل الاختلاط والتزاوج من الأجناس الأخرى.
يأجوج ومأجوج من أبناء يافث بن نبي الله نوح عليه السلام، وعندما حل الطوفان بالأرض، أهلك الله البشر إلا نوحاً، وزوجته، وأبناءه الثلاثة وزوجاتهم، ويتفق غالبية علماء الأمة المعاصرين والباحثين في التاريخ الإسلامي على أن المغول هم قوم يأجوج ومأجوج، لكنهم اختلفوا كثيراً في تحديد شخصية ذي القرنين الذي جاء ذكره في القرآن مرتبطاً بيأجوج ومأجوج، وسوف نعرض لهذه الأمور لاحقاً.
جاء بسفر التكوين في التوراة: «وكان بنو نوح الذين خرجوا من الفلك ساما وحاما ويافث، وحام هو أبو كنعان، هؤلاء الثلاثة هم بنو نوح، ومن هؤلاء تشعبت كل الأرض».
ويقول ابن كثير في «البداية والنهاية» (ج1): وأما أولاده الثلاثة فنجوا، وجاء من نسلهم أهل الأرض، فكل الخلائق ينسبون إلى أولاد نوح الثلاثة، لأن الله تعالى قال: { وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ”77″}(الصافات)، فكل من على وجه الأرض اليوم من سائر أجناس بني آدم ينسبون إلى أولاد نوح الثلاثة، وهم سام وحام ويافث.
سلالة يافث
علماء الأجناس يقسمون الأرض إلى ثلاثة أجناس رئيسة، الجنس القوقازي الذي يعيش في أوروبا وغرب آسيا وشمال أفريقيا (أبناء سام)، والجنس المغولي الذي يعيش في شرق آسيا (أبناء يافث)، والجنس الزنجي الذي يعيش في جنوب قارة أفريقيا (أبناء حام)، ولكل جنس ملامحه وصفاته المميزة عن الآخر.
ما يهمنا هنا هو «يافث»، فقد قسم نوح الأرض بين أبنائه الثلاثة قبل وفاته، وخص يافث بمشرق الأرض، فاستقر في تلك الرقعة الشاسعة ذات الأحوال المناخية والتضاريسية القاسية.
سمات خاصة
ورزق الله تعالى يافث بعدد من الأولاد البنين، جاء ذكرهم في التوراة في سفر التكوين، وهم: «جومر، ماجوج، ماداي، ياوان، توبال، ماشك، تيراس»، وفي هذه الرقعة تناسلوا وتكاثرت ذريتهم، وانتشروا مستوطنين كل أركان تلك المنطقة الشاسعة، فشكلوا أمة لها من الخصائص والصفات والملامح ما يميزهم عن أبناء عمومتهم، لكن ظلت ذرية ماجوج (أو مأجوج) لها سماتها الخاصة والمميزة عن سائر أبناء عمومتم.
وفي سفر حزقيال بالتوراة نقرأ: «يا ابن آدم، اجعل وجهك على جوج أرض ماجوج رئيس روش ماشك وتوبال وتنبأ عليه وقل، هكذا قال السيد الرب ها أنا ذا عليك يأجوج رئيس روش ماشك وتوبال، وأرجعك وأضع شكائم في فكيك وأخرجك أنت وكل جيشك خيلاً وفرساناً كلهم لابسين أفخر لباس، جماعة عظيمة مع أتراس ومجان كلهم، ممسكين السيوف، فارس وكوش وفوط معهم كلهم بمجن وخوذة، وجومر وكل جيوشه وبيت تومرجه من أقاصي الشمال مع كل جيشه شعوباً كثيرين معك، استعد وهيئ لنفسك أنت وكل جماعتك المجتمعة إليك فصرت لهم موقراً».
وفي نفس السفر: «تصعد وتأتي كزوبعة وتكون كسحابة تغشى الأرض أنت وكل جيوشك وشعوب كثيرين معك، هكذا قال السيد الرب، ويكون في ذلك اليوم أموراً تخطر ببالك فتفكر فكراً رديئاً، وتقول: إني أصعد على أرض أعراء، آتي الهادئين الساكنين في أمن، كلهم ساكنون بغير سور، وليس لهم عارضة ولا مصاريع، لسلب السلب ولغنم الغنيمة لرد يدك على خرب معمورة وعلى شعب مجموع من الأمم المقتنى ماشية وقنية الساكن في أعالي الأرض، شبا وددان وتجار ترشيش وكل أشبالها يقولون لك: هل لسلب سلب أنت جاء؟ هل لغنم غنيمة جمعت جماعتك لحمل الفضة والذهب لأخذ الماشية والقنية لنهب نهب عظيم؟».
اسم لشخص واحد
ماجوج (أو مأجوج) هو نفسه (يأجوج ومأجوج) كما تقول بعض المصادر، بمعنى أن الكلمتين اسم لشخص واحد، وإن بدا كالاسمين، وحرف الواو العاطفة هنا جاءت لربط اللفظين ومزجهما في تركيبة فريدة تعكس دلالة اللفظ ومعناه، مثلما نقول «زيد وعبيد»، أو كما نقول «فلان وعلان»، والبعض يقول: إنهما اثنان أشقاء، ونحن نقول: إنهما قد يكونان شقيقين توأماً، لأنهما ارتبطا ارتباطاً تاماً في كل شيء، ومن ذريتهما جاء هؤلاء القوم.
وفي تأصيل اللفظ ومعناه يرى بعض علماء اللغة العربية أن «يأجوج ومأجوج» اسم عربي، وإن بدا كأنه أعجمي، ويؤكدون على أنه مشتق من الفعل الثنائي «أجَ»، بمعنى أوقد أو أشعل، وهو يدل على شدة الحر، ومشتق من أجيج النار وتوهجها، وله معنى آخر وهو سرعة العدو والانطلاق، إلا أن الرأي الغالب يقول: إن الاسم أعجمي، لكن إذا سلمنا بنظرية أن اللغة العربية هي أم اللغات، وأنها اللغة التي تكلم بها آدم، يكون الاسم عربياً، كما أنه من الناحية الموضوعية يعكس صفات وخواص هؤلاء القوم، ويعبر عنها.
هجرات قسرية
لقد دفعت جموع يأجوج ومأجوج الكثير من الأمم إلى القيام بهجرات قسرية عن أوطانهم الأصلية، فاختلطت الأجناس ببعضها، وتغيرت التركيبات المميزة لكل شعب، ونعتبرهم أحد الأسباب الإلهية التي دفعت البشر للهجرة والتشتت في شتى بقاع الأرض، مثل الظواهر الطبيعية التي كانت تدفع سكان منطقة ما إلى الهجرة.
وطن يأجوج ومأجوج
استقرت سلالة يأجوج ومأجوج في صحراء الجوبي بالمنطقة التي تسمى اليوم باسم «منغوليا»، فهي وطنهم المنسوب إليهم، لأنها تنطق «مانجوليا» نسبة إلى ماجوج، بحرف الجيم، وفي بعض اللهجات التي تنطق الجيم غين تنطق «مانغوليا»، وفي اللغة الفارسية تنطق الجيم كاف، فتنطق «مانكوك»، وفي اللغة العبرية تنطق «ماكوك»، وفي اللغة اليونانية تنطق «ميكاك»، وقال عنها «مارك بولو» (1254 – 1324م) في رحلاته الشهيرة وهو يتكلم عن التتار الذين عايشهم في وطنهم وارتبط بصداقات مع بعضهم: «وهناك منطقتان يمارسون فيها سلطانهم، وهما يسميان في قسمنا هذا من العالم (يقصد أوروبا) يأجوج ومأجوج، ولكن الأهالي هناك يسمونهما «أونج ومونجول»، وفي كل منهما جنس من الناس يتميز عن الآخر، فهم في «أونج» يأجوج، وفي «مونجول» تتار.