أثار الخطاب الذي ألقاه الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي، بمناسبة العيد الوطني الـ61 للمرأة التونسية، الأحد الماضي، جدلًا مجتمعيا واسعًا؛ في صفوف الأحزاب، ومختلف الأطياف السياسية بالبلاد وحتى خارجها، وامتد إلى منصات التواصل الاجتماعي.
خطاب السبسي تضمّن مبادرة لمساواة الرجل والمرأة في المجالات كافة بما فيها الإرث، كما طالب بتغيير مرسوم إداري صادر في عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة (1957 – 1987) يمنع زواج التونسية بأجنبي قبل إشهار إسلامه.
وأعربت حركة “نداء تونس” (58 نائبًا من أصل 217)، حزب الرئيس السبسي، في بيان، استعدادها لإنجاح النقاش حول “منظومة تشريعية تحقق الغايات (الأهداف) الإصلاحية بالتوازن بين الالتزام باحترام مبادئ عقيدتنا الإسلامية السمحاء، وبين ما نص عليه الدستور ويبيحه الاجتهاد وتؤكده قيم العصر”.
في المقابل، وصف الرئيس التونسي السابق، منصف المرزوقي، في تدوينة على صفحته الشخصية بموقع “فيسبوك” مبادرة السبسي بأنّها “عملية سياسية بامتياز للتعمية على الإخفاق المهين للرجل ولحزبه”.
وذكّر المرزوقي بموقفه الحقوقي المناصر للمساواة في الإرث، منذ تسعينيات القرن الماضي.
واعتبر أن القضايا التي أثارها السبسي في خطابه تهدف إلى “خلق شرخ بين التونسيين”، وأنها مبادرة موجهة ضد حركة “النهضة” (إسلامية) وجاءت “لمزيد من إذلال النهضة وإضعافها”.
غير أن نور الدين العرباوي، رئيس المكتب السياسي لحركة “النهضة” (69 نائباً من 217) لم يرَ حرجًا فيما طرحه الرئيس، “ما دام متقيّدًا بالدستور وملتزمًا بتعاليم الإسلام”.
وقال العرباوي، في تصريح لـ”وكالة الأنباء التونسية” الرسمية (وات): إنّ حركته لا ترى أي إشكال في طرح موضوع المساواة في الإرث بين المرأة والرجل، طالما أن هذه المسألة ستطرح ضمن ثوابت الدستور وفي إطار الالتزام بنص الإسلام وروحه.
وأضاف: رئيس الجمهورية وضع المسألة في إطارها ضمن خطابه بمناسبة عيد المرأة يوم 13 أغسطس، وأكد أن العمل الذي ستقوم به اللجنة لا يتعارض مع الدين الإسلامي أو مع مقاصده، ولا مع الدستور ومبادئه.
إلا أن حركة “النهضة” لم تصدر حتى اليوم أي تعقيب أو بيان يتضمّن موقفها الرسمي من مبادرة الرئيس.
وفي عدة مواطن من خطابه، حرص السبسي على التذكير بتمسكه بالمرجعية الدينية، وشدّد قائلاً: “إنّي لمتيقّن أنّ العقل الإيماني الإصلاحي القانوني التونسي سيجد الصيغ الملائمة التي لا تتعارض لا مع الدّين ومقاصده ولا مع الدستور ومبادئه”.
وبدورها، ارتأت رئيسة “الاتحاد الوطني للمرأة” (مستقل) راضية الجربي في تصريح لـ”وكالة الأنباء التونسية الرسمية” (وات)، أنّ المساواة في الإرث بين الرجل والمرأة قابلة للتنفيذ في تونس طبقاً للدستور.
كما أعلنت دار الإفتاء التونسية عن تأييدها لمقترحات السبسي، ووصفتها بأنها “مقترحات تدعم مكانة المرأة، وتضمن مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات، التي نادى بها الدين الإسلامي”.
لكنّ “الجمعية التونسية لأئمة المساجد” (مستقلة)، رفضت مبادرة الرئيس ووصفتها بأنها “اتهام صريح لشرع الله بعدم صلاحيته لواقعنا، وبظلمه للمرأة وعدم إنصافها”.
ودعت الجمعية، في بيان صحفي، الأئمة لتخصيص خطب الجمعة لبيان خطورة هذا الإجراء.
ورحّبت جمعيات تونسية قريبة من اليسار، في بيان مشترك، بمبادرة الرئيس ورأت أنّها في تناغم مع دستور البلاد الداعي صراحة إلى تكريس المساواة التامة بين المرأة والرجل.
ووقّع على هذا البيان 9 جمعيات، في مقدمتها “جمعية النساء الديمقراطيات”، و”النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين” و”الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان”.
وفي رد فعل أكثر حدة، أطلق حزب “تيار المحبة” (نائبان في البرلمان)، الذي يقوده الإعلامي محمد الهاشمي الحامدي، عريضة شعبية على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” تطالب مجلس نواب الشعب بسحب الثقة من الرئيس، وعزله بتهمة “مخالفته الصريحة للدستور”.
وكذلك اعتبر حمادي الجبالي، رئيس الحكومة التونسية الأسبق، مبادرة الرئيس دعوة إلى “خرق الدستور في فصله الأول”.
وينص الفصل الأول من الدستور التونسي على أن “تونس دولة حرّة، مستقلّة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها”،
ولا يجوز تعديل هذا الفصل.
وتساءل الجبالي في تدوينة على صفحته الشخصية بموقع “فيسبوك”: “أين هذه القضايا المثارة من اهتمامات وأولويات شعبنا، ومن قضاياه المصيرية ومشاكله المتفاقمة”.
ووصفت 8 أحزاب ومنظمات قومية عربية، في بيان مشترك، الدعوة إلى المساواة في الإرث بين الرجل والمرأة وتشريع زواج المسلمة من غير المسلم، بكونها “تطاول على القرآن، وهدم لأحكامه المقدسة لغايات انتخابية مفضوحة”.
وخلافاً للمشككين في نوايا السبسي، رأى الإعلامي صلاح الدين الجورشي، عضو لجنة الحريّات الفرديّة والمساواة (تابعة لرئاسة الجمهورية)، أنّ السبسي، وهو يقترب من نهاية عهدته الرئاسية، يطمح إلى دخول التاريخ من زاوية ما توقف عنده الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة بعدم مساسه بمسألة الإرث في مشروعه لإصلاح أوضاع الأسرة.
وأوضح الجورشي في حديث لـ”الأناضول” أنّ ما عبّر عنه الرئيس حتى الآن، هو “مجرّد رغبة”، وأنّ “السجال المجتمعي هو الذي سيكون له تأثير في مجرى المبادرة التي ستتحول إلى مشروع قانون سيعرض على البرلمان ليفصل فيها”.
واعتبر أنّ النقاش المجتمعي، في هذه المسألة، هو الأهمّ، ومضى قائلًا: على التونسيين أن يكوّنوا رأيًا عامًا حول المبادرة معها أو ضدّها، وهو ما قد يفضي إلى تعديلات، قد تعزّز حقوق المرأة التونسية.
ووفق بيان للرئاسة، قرّر السبسي تشكيل لجنة “الحريّات الفرديّة والمساواة” لكي تتولّى إعداد تقرير حول الإصلاحات المرتبطة بالحريّات الفردية والمساواة.
ورحّب سامي براهم، الباحث في مركز البحوث والدراسات الاجتماعية والاقتصادية (عمومي)، بفتح مجال الحوار لعموم المواطنين، حول قضية مطروحة داخل ما وصفها بـ”النخبة”.
وأشار براهم، في تصريح لـ”الأناضول”، إلى أنّ أي نتيجة يصل إليها حوار وطني شفاف يعبّر عن إرادة عامّة ودون إقصاء، ستكون مقبولة وإيجابية.
ومضى براهم قائلًا: حتى إن افترضنا وجود غايات انتخابية دعائية وراء المبادرة، فإنّه من الضروري اليوم فتح باب جدل علمي، حول موضوع الإرث، بعيداً عن التجاذبات السياسية.
واعتبر أنّ مبادرة السبسي، تضع التونسيين أمام 3 اختبارات: اختبار لمدى قدرة المجتمع، ضمن الأطر المدنيّة وبعيدًا عن الأحزاب، في الدفاع عمّا يعتقده من ثوابت وهوية.
وأضاف براهم: واختبار لمدى التزام حركة النهضة، الحزب الثاني في البلاد، بخيار التخصص السياسي الذي أقرّته في لوائح مؤتمرها العاشر المنعقد في مايو 2016، وأوكلت أمر الدفاع عن الهوية ومتعلقاتها إلى المجتمع.
واختتم بالإشارة إلى أن الاختبار الثالث هو اختبار للانتقال الديمقراطي، لمعرفة المدى الذي سينجح فيه التونسيون، بمشاركة مختلف تياراتهم، في خوض جدل يتعلق بمشروع وطني يحتلّ الدين والمرجعية الحداثية مكانة هامة فيه.
ويرى المعارضون لمبادرة السبسي أن المساواة في الإرث بين الرجل والمرأة لا تتوافق مع أحكام الشريعة الإسلامية، مستندين إلى الآية الكريمة “للذكر مثل حظ الأنثيين”.
ولم يقتصر الجدل على داخل تونس وإنما اتسع خارجها، وجاءت أقوى المواقف الرافضة من خارج تونس، حيث اعتبر وكيل الأزهر الشريف بمصر، عباس شومان، أن “المواريث مُقسمة بآيات قطعية الدلالة لا تحتمل الاجتهاد، ولا تتغير بتغيير الأحوال والزمان والمكان، وهي من الموضوعات القليلة التي وردت في كتاب الله مفصلة لا مجملة”.
في حين رحبت جمعيات مهتمة بحقوق المرأة بالمبادرة واعتبرتها خطوة في الاتجاه الصحيح.
وفي عام 2016، تقدم 27 نائباً بالبرلمان من كتل برلمانية مختلفة بمبادرة تشريعية تتعلق بتحديد نظام المنابات في الميراث، تتضمن 3 بنود وتقر المساواة في الإرث بين المرأة والرجل، ولاقت المبادرة معارضة شديدة داخل البرلمان، وتوقفت النقاشات حولها منذ أشهر دون تقديم مبررات لذلك.