هذا خبر فتى جاوز المدى من عظمة النفس، وسواء الفطرة، واستقامة الضمير، لكأنه حاز أطرافها من أقصاها إلى أقصاها، حتى إنه لم يترك منها شيئًا.
أجل، حاز هذا كله رغم قِصَر عمره في الدنيا، وقِصَر عمره في الإسلام، ورغم أنه لم يسفر(1) أمر إسلامه إلَّا وهو يجود بأنفاسه الأخيرة.
إياس بن معاذ الأنصاريّ الأوسيّ الأشْهَليّ رضي الله عنه، أسفر خبره عن إدراكه للحكمة، والنبوغ فأسلم مبكرًا، ولكنه أيضًا غادر الدنيا مبكرًا، غادرها فذًا متفردًا، فبقي خبره في ذاكرة التاريخ فذًا متفردًا.
قال محمود بن لبيد رضي الله عنه: «لما قَدِمَ أبو الحيسر أنس بن رافع مكة، ومعه فتية من بني عبد الأشهل، فيهم إياس بن معاذ، يلتمسون الحِلفَ من قريش على قومهم من الخزرج، سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم فجلس إليهم، فقال: «هل لكم إلى خير مما جئتم له؟»، قالوا له: وما ذاك؟ قال صلى الله عليه وسلم: «أنا رسول الله، بعثني الله إلى العباد، أدعوهم أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئًا، وأنزل عليَّ الكتاب»، ثم ذكر لهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن، فقال إياس بن معاذ وكان غلامًا حدثـاً: يا قوم، هذا والله خير مما جئتم له.
فأخذ أبو الحيسر أنس بن رافع حفنة من تراب البطحاء، وضرب بها وجه إياس وقال: دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا، فسكت إياس.
وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، وانصرفوا إلى المدينة، فكانت وقعة «بُـعاث»(2) بين الأوس والخزرج، ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك، فأخبرني من حضره من قومه عند موته أنهم لم يزالوا يسمعونه يُهَلِّل الله تعالى، ويكبره، ويحمده، ويسبحه حتى مات، فما كانوا يشكّون أنه مات مسلمًا، لقد كان استشعر الإسلام في ذلك المجلس حين سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ماسمع»(3).
يقرر الحديث ما أسلفناه قبله، بل ويضيف أن إياس بن معاذ كان يمتلك فؤادًا تتوهج فيه أمارت الذكاء، وآيات الحكمة، وأنهما ما كانا يُسلماه إلا إلى خير، ولمَ لا؟! إنه أخو سعد بن معاذ رضي الله عنه، وكفانا أن نذكر اسمه فتستشعر أنفسنا مآثره(4)، ومناقبه(5) دون ذكرها، وحتى دون العلم بها.
إنه أخو عمرو بن معاذ رضي الله عنه شهيد يوم «أُحد».
إنه ابن السيدة كبشة بنت رافع رضي الله عنها التي مكثت يوم «أُحد» مع النساء بالمدينة يترقبن أخبار الحرب، وهبَّ عليهن خبر استشهاد عدد كبير من المسلمين كعاصفة هوجاء تلفح الوجوه بشظاها، فخففن صوب «أُحد»، كانت السيدة كبشة في مقدمتهن تستشعر بدقات قلبها تهز ضلوعها حذرًا وقلقًا، كان ابناها سعد، وعمرو، في المعركة، جاءها الخبر باستشهاد فلذة كبدها عمرو فارتجت نفسها حزنًا ولكنها تابعت وثبها وهرولتها صوب «أُحد».
بيد أن هناك ما هو أكثر جذبًا لنفسها من ولدها عمرو، وكانت عليه أوفر حذرًا، وأكثر قلقًا فقلل مصيبة ولدها عمرو في نفسها، ربما كان حذرها على ولدها سعد؛ فقد كان هو الأكبر والأعظم.
أجل، ألم يكن سيد قومه، وأوصلهم، وأفضلهم رأيًا، ورجلهم الميمون؟! بلى كان، ولكنه لم يكن هو الأكثر جذبًا لنفسها في هذه الحال، ولا كان الأوفر استدرارًا لحذرها وقلقها، فمن هو إذًا؟! إنه النبي صلى الله عليه وسلم.
فقد عدت(6) السيدة كبشة نحوه صلى الله عليه وسلم قبل أن يدخل المدينة وهو على فرسه، وسعد ابنها آخذًا بلجامه، وقال سعد: يا رسول الله، أمي، فقال صلى الله عليه وسلم: «مرحبًا بها»، فوقف لها، فلما دنت منه صلى الله عليه وسلم عزَّاها بابنها عمرو فقالت: أما إذ رأيتك سالمًا فقد اشتويت(7) المصيبة(8)!
كم يبدو أمر السيدة غريباً! أمر خلع عليه العجب أشد حلله! ولكنه رسالة من الله أجراها سبحانه على قلب ولسان السيدة، رسالة ليست للصحابة فحسب، وإنما للإنسان على مر الزمان، رسالة أداها ثبات السيدة باقتدار، وأعلنها مدوية: إن محمداً مبعوث السماء، رسول الله لإصلاح الأرض وإرشاد أهلها كافة، لا يفوق حب أحد آخر حبه، حتى ولئن كان الابن، أو الأخ، أو الزوج، أو النفس ذاتها.
على أية حال، لا يفهم موقف السيدة إلا ذوو القلوب التي حفلت بحب الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، وطفقت تنبض بالإخلاص لهما.
وعندما استشهد ولدها سعد بن معاذ رضي الله عنه بكته قائلة:
ويل أم سعد سعداً حزامة وَجِدَّا
فقال صلى الله عليه وسلم: «كلُّ نائحة مُكذَّبة إلَّا أم سعدٍ، ما قالت من خيرٍ فلن تكذب»(9).
وعندما خرجوا به إلى مرقده طعن المشهد نفسها، واستشعرت مرارته ووجعه كشقيّ رحى يطحنان فؤادها طحنًا فصاحت(10)، فراح النبي يخبرها ويخبر الجميع بأن عرش الله اهتزَّ لموت ولدها، فيقول صلى الله عليه وسلم: «اهتزَّ العرش لموت سعد بن معاذ، اهتَّز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ»(11).
ولا ريب أن فؤادها مرح مرحاً عذباً طروباً، حَوَّلَ عقلها وقلبها إلى شعور ما أمتعه لما سمعت البشارة الشريفة التي لم تسمعها الدنيا إلا مرة واحدة، وأنف مرارة أحزانها راغمة، وبقيت رضي الله عنها تستدر السكينة والقرار من كلمات النبي صلى الله عليه وسلم: «ما منكن امرأة تقدم بين يديها ثلاثة من ولدها، إلا كانوا لها حجابًا من النار»، قالت امرأة: واثنين يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: «واثنين»(12).
وكأننا بالسيدة كبشة بنت رافع ترفع بصرها إلى السماء مناجية: أنا يا رب قدمت اثنين من أبنائي؛ عمرواً وسعداً.
ونضيف نحن: وإياس يا رب، فكما أنه لم يتطرق إلى نفوس من عاينوه وهو يجود بأنفاسه الأخيرة أدنى شك بأنه مات مسلم، فلا يتطرق إلى أنفسنا أدنى ارتياب في أنه في ميزان أمه السيدة كبشة، لذا نقول مدفوعين بفيض كرمك: إنها قدمت ثلاثة من أبنائها(13)؛ هم: سعد صاحب البشارة النبوية التي لم تسمعها الدنيا سوى مرة واحدة، وعمرو شهيد يوم «أُحد»، وإياس صاحب الخبر المتفرد في ذاكرة التاريخ(14).
______________________
(1) يكشفه ويوضحه.
(2) وقعة بُعاث: وقعت قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى يثرب بخمس سنوات، وسميت ببعاث نسبة إلى المنطقة التي وقعت بها وكانت ليهود بني قريظة، وهي آخر معركة وقعت بين الأوس والخزرج بيثرب، وتعتبر أشهر وأدمى المعارك التي وقعت بين اليثربيين؛ ذلك لأنهم كانوا قد أخذت بهم الأحقاد والضغائن فراحوا يعدون لها العُـدة بتجهيز السلاح وأجهزة الحرب من قبل وقتها بشهرين، ويتحالف كل من الأوس والخزرج مع بعض القبائل، ووقعت الحرب وانتصرت فيها الأوس، ثم إنهم اصطلحوا على إيقاف الحرب، وما تم لهم ما أرادوا من وقفها إلا بعدما هاجر صلى الله عليه وسلم إليهم ودخلوا في الإسلام، فجعلت سيوفهم تُـسل فقط دفاعًا عن دينهم.
(3) حديث حسن: أخرجه أحمد في المسند (5/ 268)، وابن سعد في الطبقات (3/ 2/ 15)، والبخاري في تاريخه الكبير (1/ 442)، والطبراني في الكبير (805)، والحاكم في المستدرك (3/ 180).
(4) المكارم المتوارثة، جمع مأثُرة.
(5) الخصال الحميدة
(6) صارت.
(7) هانت عليها واستقللتها.
(8) السيرة الحلبية (2/ 47).
(9) أخرجه شعيب الأرناؤوط في تخريج مشكل الآثار (4174).
(10) صرخت.
(11) حديث صحيح أخرجه البخاري (3803)، ومسلم (2466).
(12) قال الهيثمي في المجمع (90/ 309): رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح.
(13) متفق عليه، صحيح الجامع (6987).
(14) تجريد أسماء الصحابة (1/ 40)، التاريخ الكبير للبخاري (1/ 442)، الثقات (3/ 120)، الطبقات الكبر (3/ 438)، الإصابة (387)، الاستيعاب (123)، أسد الغابة (347).