كاتب المدونة: وليد شوشة (*)
كان الشيخ حسن البنا يقول عن علاقة مصر بالسودان: «مصر السودان الشمالي، والسودان مصر الجنوبية»، ونستطيع نحن أن نقول: إن فلسطين مصر الشمالية، ومصر فلسطين الجنوبية، وذلك بحكم الواقع التاريخي، والجوار، وكل الجيران أقارب تقريباً كقاعدة أنثروبوجغرافيا شبه عامة كما يقول د. جمال حمدان في كتابه «نحن وأبعادنا الأربعة»، وأغلب أيام التاريخ الإسلامي كانت مصر وفلسطين بلداً واحداً.
يقول د. جمال حمدان: «كما أن فلسطين بداية البعد الآسيوي في كيان مصر، فإن مصر هي بداية البعد الأفريقي في كيان فلسطين بالضرورة، وكلتاهما تُعد بمثابة الزر والعروة التي تلحم كلا البعدين أو يفعل شقا الكبسولة ولعلها أكثر من صدفة أن تزدوج مدينة رفح على جانبي الحدود –مثل نادر- رامزة كما يلوح إلى هذا الالتحام الأعم الأشمل».
ويقول عباس العقاد في كتابه «حياة قلم»: «المجتمع الفلسطيني قريب من المجتمع المصري في تكوينه، وفي معظم آدابه وعاداته، ولا يختلفان إلا في بعض التقاليد.. فمن فلسطين مهاجرون في مصر، ومن مصر مهاجرون في فلسطين، وقد يعيش الفلسطيني في مصر زمنًا ثم يعود إلى بلاده، وقد ترى بينهم من يلقب بالأنشاصي والبلبيسي والطنطاوي، كما ترى بيننا من يلقب بالغزي والرملي والعكاوي، وكأنهم يتسابقون أو يتلاحقون في حلبة واحدة لا يخرجون منها، ولا يسرعون إلى تبديل معاملها، سواء في التقاليد الاجتماعية أو معيشة البيوت، حتى «الملوخية» -وهي صحفة مصرية لا يتقنها الطهاة في غير وادي النيل- قد أكلناها في بيت أبي خضرة كما تؤكل على أفخر موائدنا التي تعتز بتقديمها في بواكيرها أو معقباتها.. لأن أبناء هذا البيت على تراثهم القديم منذ كانوا بريف مصر ولا تزال لهم قرابة فيه، بين مصر وفلسطين جوار هو أقرب من جوار المكان؛ لأنه كذلك جوار التاريخ، وجوار السكان».
يقول د. حمدان، كذلك: «لقد كانت فلسطين عبر التاريخ ملجأ ومهرباً أو منفى لكثير من المصريين في فترات الاضطهاد أو الاضطراب أو المحن والأزمات، ابتداء من الحملة الفرنسية، إلى حملات محمد علي وحروبه على الشام وفلسطين ذاتها، إلى عملية السخرة في حفر قناة السويس، إلى الحركة العرابية حتى تجنيد أنفار السلطة أثناء الحرب العالمية الأولى، من هذه العناصر من عاد إلى مصر بعد إقامة طالت أو قصرت، فإن من الثابت المؤكد يقيناً أن كثرة مهمة منها استقرت وتوطنت وانصهرت في الكيان الفلسطيني، ولا تزال آثارها وذكرياتها باقية ملحوظة في السحنة واللهجة وفي العادات والأسماء..».
وهذا أكده بالشرح والتفصيل اللواء إبراهيم محمد الفحام، في مقال له بمجلة «العربي» الكويتية، العدد (287) أكتوبر 1982م، تحت عنوان «المصريون والفلسطينيون شعب واحد» يقول: «وقد استقرت في الريف المصري كثير من الأسر الفلسطينية التي استعين بخبرتها في زراعة أشجار الفواكه.. وقد تحمل بعض القرى المصرية أسماء قرى وعشائر معروفة في فلسطين، فقرية السماعنة بالشرقية تسمت باسم جماعة السماعنة من عرب فلسطين نزلوا بها فعرفت بهم، كما ورد في «تاج العروس».. وقرية برقين بالدقهلية استمدت اسمها من قرية برقين الفلسطينية، ويرجح أحمد لطفي السيد أن أسلاف السكان الحاليين قد نزحوا إليها من فلسطين كما جاء في مذكراته.. وفي القاهرة تتوطن كثير من الأسر الفلسطينية الأصل التي تمتهن التجارة وأغلبهم من النابلسة والخلايلة؛ أي أبناء نابلس والخليل، وفي مقابل ذلك استقر كثير من التجار المصريين في المدن الفلسطينية الذين كانوا يترددون عليها للتجارة وخاصة البلابسة؛ أي أبناء بلبيس بمحافظة الشرقية، حتى يقال: إنه لا تخلو من واحد منهم على الأقل مدينة فلسطينية.. وكانت تجمع أبناء مدينتي دمياط ويافا من الروابط التجارية والاجتماعية والثقافية؛ مما يفوق أي روابط تجمع أبناء مدينتين في قُطر واحد».
وجاء في كتاب «تاريخ غزة» لعارف باشا العارف قوله: «لقد كان المصريون أهم عنصر من عناصر السكان الذين استوطنوا غزة على مر الأحقاب، وتجد تشابهاً في اللهجة، وفي العادات والعنعنات وفي الأفراح والمآتم وفي السحن وتقاطيع الوجه، وفي الأبنية والمآكل وفي كل شيء».
وعندما استولى نابليون على يافا في مارس 1799م، وجد فيها 400 مصري، من بينهم نقيب الأشراف عمر مكرم، وعندما أخمدت قوات الاحتلال الفرنسي حركة المقاومة الشعبية التي قادها حسن طوبار نزح إلى غزة، وعندما تقرر نفي خطيب الثورة العرابية عبدالله النديم إلى بلاد الشام، اختار يافا فاستقبله في مينائها عدد كبير من العلماء والأعيان، واستضافه مفتي المدينة السيد علي أبو المواهب، فأقام في بيته شهراً حتى استأجر داراً خاصة.
ويُقدر الكاتب الفلسطيني عمر البرغوثي أن «أكثر من عُشر سكان فلسطين يمتون إلى أصل مصري منذ مجيء جيش إبراهيم باشا»، وكان في القدس ما لا يقل عن 200 أسرة قبطية مصرية متوطنة منذ أجيال.
يقول محمد كرد علي، في مقال له بعنوان «المصري خارج أرضه» نُشرت في مجلة «الهلال»، العدد 6 أبريل 1940: «ولولا أنك تلمح في سحنات أهل غزة ويافا وحيفا وعكا مثلاً تلك السمرة الجميلة وتسمع في بعض أسمائهم لفظ المصري، لقلت: إنهم شاميون من عشرات البطون».
ويقول اللواء الفحام: «ولقد كان الشعب الفلسطيني شديد الانفعال بأحداث مصر، كما كانت فلسطين من أكثر الأوطان العربية تأثراً بالحركة الوطنية المصرية، وقد ظل الشعب المصري بدوره بالغ الحساسية، شديد الانفعال بالظروف والأحداث التي يعانيها الشعب الفلسطيني؛ لأن الرابطة بين هذين الشعبين ليست من قبيل الروابط التي تستمد وجودها وصلابتها من الاتفاقات أو السياسات الرسمية فقط، بل هي رابطة واقعية بين شعبين يسهم كل منهما بنصيب وافر في النسيج الاجتماعي للشعب الآخر».
يقول د. حمدان: «الواضح في الوقت الحاضر أن الثقل الأكبر من السياسة القومية لمصر المعاصرة يتجه إلى الجبهة الآسيوية، ولا شك بفعل القضية الفلسطينية أساساً، تلك التي أصبحت بطريقة أو بأخرى شئنا أو أبينا جوهر ومحور وجماع سياسة مصر الخارجية في الواقع».
وبعد هذا السرد التاريخي الذي يثبت تاريخية العلاقة والاندماج والتزاوج في كل شيء بين الشعبين المصري والفلسطيني، وبين البلدين مصر وفلسطين، هل يمكن لأحد أن يقول: إن قضية فلسطين قضية تخص الشعب الفلسطيني وحده؟!
يجيب د. حمدان في كتابة «فلسطين أولاً»: «إن قضية فلسطين لا تخص الفلسطينيين وحدهم، هم حقاً ضحيتها الأولى، ولكن ليسوا الأخيرة، وهم قطعاً طليعة التحرير، ولكن ليسوا مؤخرته، والخطر يهدد الجميع، بل يحثهم بالأصح عليهم، والقضية عربية بقدر ما هي فلسطينية، وليست كما قد يُظن فلسطينية أولاً وعربية ثانياً، بل إن فلسطين لم تعد تملك –فرضاً– حق التصرف في قضيتها، دون أن نقصد بهذا إطلاقاً مصادرة لإرادتها أو وصاية، وإنما الخطر التي يكتنفها يكتنف العرب جميعاً، ومشكلة «إسرائيل» في الحقيقة أكبر من مشكلة فلسطين، فهي لا ترادفها ولا تخصها وحدها ولكنها تتعداها لتكون مشكلة كل دول المشرق العربي بصورة مباشرة والعالم العربي كله بصورة غير مباشرة.
لقد أصبحت فلسطين في معنى حقيقي جداً– بُعداً أساسياً في وجود وكيان ومصير كل دولة عربية، أصبحت جزءاً من سورية، وجزءا من مصر، وجزءاً من الأردن، وجزءاً من العراق.. إلخ، بمثل ما أن كلاً من هذه الدول قد أصبحت جزءاً من فلسطين مصيراً ومآلاً، إنها قمة التداخل والالتحام القومي العربي، في النظرية والتطبيق.. وهذا يحدد المسؤوليات العملية، ويقطع الطريق على العمليات النكوصية.
نقول هذا لأن بعض القعوديين والانهزاميين أراد بالقول بأن القضية فلسطينية أولاً وعربية ثانياً أن يلقى عبء التحرير على الفلسطينيين لكي ينفض يديه ويتخلص من المسؤولية.
أما الموقف السليم فهو تزاوج العمل النضالي الفلسطيني والعربي: الفلسطيني كطليعة فدائية، أصحاب الدعوى وجسم الجريمة، والعربي كسجم القوة وقلب المقاومة والتحرير».
____________________________
(*) كاتب مصري مهتم بالفكر الإسلامي والسياسي.