يرتكِزُ جوهرُ الإسلام على حقيقةٍ واضحة هي: أنه دينُ سلامٍ، وليس دين استسلام، فهو يسلُكُ سبيله إلى السلام مِن مركز القوة، وبدون القوة يكونُ الطريق إلى السلام طريقًا إلى الاستسلام، الذي به تَضيع الحقوق وتُنتَهك الحُرُمات!
في ضوءِ هذه النظرة المتكاملة تحقَّقتْ للإسلام المُرونةُ والحيوية، والقدرة على التلاؤم مع كل زمان ومكان، ومع كل ظروف الحياة المتغيِّرة.
وإذا تتبَّعنا حياةَ الرسول صلى الله عليه وسلم قبلَ الهجرة وبعدها في مكة والمدينة، رأينا بوضوحٍ تلك النظرةَ المتكاملة الواقعية الذكية إلى السلام، والمتتبِّعُ لآيات القرآن الكريم يرى بوضوحٍ تعميقَ تلك النظرة في نفوس المسلمين كجزءٍ مِن عقيدة سَمْحةٍ تدعو إلى السلام عن حبٍّ له وثقة به، ولا تدعو إليه عن خوف مِن الحرب وما تجرُّه على المتحاربين من ويلاتٍ.
والإسلام في جميع مواقفه لا يتخلَّى عن أخلاقياتِه التي يحرِصُ على دَعْمِها في نفوس أتباعه والمؤمنين به، ومِن ثَمَّ يكون العُدوان منهيًّا عنه فيها؛ لأن مِن مبادئه الأولى أن يُحقِّق السلام ويُخفِّف حدة التوتر كجزءٍ مِن عقيدته السَّمحة عن حب له ورغبة فيه، وهذا لا يمنعُ مِن أن يكون المسلمُ دائمًا على أُهْبَة الاستعداد لمواجهة أي موقفٍ بالتفكير والتدبير والتدريب، ولكن ذلك كله ليس أكثر مِن جزءٍ صغيرٍ من العُدَّة، والجزء الأكبر منها هو إيمانُه بربِّه واعتمادُه عليه، وبدون هذا الاعتماد على ربه يكونُ السلاح في يده عديمَ القيمة قليلَ الحيلة.
ويسعى الإسلامُ دائمًا في تشريعه إلى أن يعيشَ الإنسانُ مطمئنًا بسلام، لا يُعكِّر صفوَ حياته أيُّ اضطراب أو خلل، باعتباره دينَ الفطرة الذي تُوافِقُ تشريعاتُه النفسَ البشرية السَّوِية التي تميلُ إلى السلم، وتسعى إليه وتعمل على استمراره.
وتقوم قاعدةُ الإسلام على حماية الإنسان مِن الفَزَع والخوف، والقلق والاضطراب، والحرص على حمايته، والحفاظ على حقوقه المشروعة في الأمن والسكينة والسلام والاطمئنان؛ لذلك كان السلامُ ضرورةً حيَّة للفرد والمجتمع كي يستقرَّ ويتماسَك، ودليلًا يقودُ الإنسان إلى العطاء الحضاري الذي يحافظ على مُقوِّمات الأمة مِن التحديات، والتي تتمثَّل في القيم الإسلامية والرُّوحية.
لقد غرَسَ الإسلام بَذرةَ السلام في نفوس الأفراد، السلام الإيجابي الذي يرفع الحياةَ ويرقيها، لا السلام السلبي الذي يرضى بكلِّ شيء ويدع المبادئ العُليا تُهدَم في سبيل العافية والسلامة.
السلام النابع مِن التناسق والتوافق المُؤلَّف مِن الطلاقة والنظام، الناشئ من إطلاق القُوى والطاقات الصالحة، ومن تهذيب النزوات والنزعات، لا مِن الكبت والتنويم والجمود.
السلام الذي يعترِفُ للفردِ بوجوده ونوازعه وأشواقه، ويعترف في الوقت ذاته بالجماعة ومصالحها وأهدافها، وبالإنسانية وحاجاتها وأشواقها، وبالدين والخُلُق والمُثُل، كلها في توافق واتِّساق.
وكذلك يتمُّ التناسق بين المحافظة على الحياة وترقية الحياة، يتم هذا التناسُق في ضمير الفرد تبعًا لعقيدته، كما يتم في مُحيطِ الجماعة تبَعًا لسُلوكه فيجد الفرد نفسه في سلامٍ داخلي مع ضميره، وفي سلام خارجي مع سواه.
وتتَّصِل فكرةُ السلام في الإسلام اتِّصالًا وَثيقًا بفكرتِه الكُلِّية عن الكون والحياة والإنسان، هذه الفكرةُ التي ترجع إليها نظمه وقواعده جميعًا، وتلتقي عندها تشريعاته وتوجيهاته، وتجتمع إليها شرائعه وشعائره.
ومِن ثَمرات السلام الأُخوَّة؛ حيث ركَّز الإسلام – قرآنًا وسُنةً – على مفهومِ الأخوَّة، التي يجب أن تشيعَ في المجتمع الإسلامي؛ فقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10]، وجعل العقيدةَ الإسلامية أساسًا لهذا الإخاء؛ فقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103].
وهكذا نفى القرآنُ العداوةَ التي ترتَّبتْ عنها حروبٌ وشحناء وبغضاء، وأقرَّ مكانَها أُخوَّة تتَّسِمُ بحبِّ الخير، وجعلتِ الإنسانَ يتحرَّر مِن الاهتمام بذاته ونفسه إلى الانفتاح على عالَمِ المسلمين، ويُقوِّي إحساسه بالانتماء إلى أمَّتِهم، والتمسُّك بجماعتِهم؛ وذلك بغَرْس القِيَم الإسلامية في نفوس المسلمين، وترجمتها في الواقع إلى سُلوكيات أخلاقية متميِّزة، تشمل الإحسان والتعاون، والمواساة وحب الخير لِبَني البشر، وإرساء نظام اجتماعي يجنَحُ إلى تجنيبِ الأمة الإسلامية الخلافَ والعداوة.
لذا أوجب الإسلامُ على كلِّ مسلمٍ التمسُّكَ بدعائم الأُخوَّة الدينية؛ بالتعاوُن، والإيثار، والتكافل الاجتماعي، وتجنُّب كلِّ ما يَحُول دون تطبيق هذه القِيَم، وما يُسِيء إلى العَلاقات الفردية والجماعية لتحقيقِ السلام والأمن، فرسوخُ هذه القِيَم في عقيدة المؤمن ينبُعُ مِن إيمانه بربه وخالقه؛ حيث إن الإيمان يجعَلُ بين المؤمنين أُخوَّة أقوى مِن أُخوَّة النسب، والإخاءُ في الإسلام يعني بذلَ صادقِ المودَّة والتناصر بالحق، والمشاركة في الأتراح والأفراح والتكافل على أحداث الحياة.
إن خطوط المنهج القرآني في بناء الفرد والجماعة لا يتَّصِل بأي معنى من معاني العدوان أو الإرهاب أو التشدُّد في العقيدة، بل هو في كلِّ سطوره يفيضُ رحمةً ولطفًا وحبًّا وفضيلةً واستقامةً وعدلًا وسلامًا، ذلك الذي هو مطلب لجميع خَلْق الله.
إن وحدةَ الأمة الاسلامية ترعاها في المجتمع الإسلامي فضيلةُ الرحمة والود والعطف، ويَحْمِيها العدل والسلام، والجهر بالحق، والاتحاد، ونَبْذ الخلاف، {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، ونهى عن التفرقة والاختلاف، فقال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105].
فهذه القواعد والمبادئ الأخلاقية أتاحَتْ للمسلمين التعارُفَ والتواصل والاتِّحاد، رغم اختلاف أجناسهم، فأصبحوا أمةً واحدة تتوافَرُ فيها كلُّ صور المساواة والعدل، وانتفَتِ الفُرُوقُ في الحقوق والواجبات، وهذا ما أكَّده التاريخ؛ حيث دخلت في الإسلامِ وفودٌ مِن مختلف أصناف العرب، يجمعهم إحساس واحد وتوافق في الشعور ووحدة في المبدأ والمصير.
وهكذا يتمكَّنُ التشريع الإسلامي من غرس قِيَم الأُخوَّة، وقيم الفضائل الخلقية في نفوس المسلمين، التي إذا تحلَّى بها الفرد حلَّ الأمن والسلام الذي دعا إليه الإسلام – قرآنًا وسنةً – في آياتٍ بيناتٍ وأحاديثَ صحيحةٍ.
ولا شكَّ أن مرتكزاتِ الإسلام لبناء الفرد والجماعةِ على أساس الأُخوَّة، كانت هي اللَّبِنَة الأساسية لتحقيقِ سلامٍ اجتماعي يسودُ المجتمع ويُحقِّق الأمن لكل فرد.
ولقد ارتكز هدفُ الإسلام على تحقيق العدالة في الأرض قاطبةً، وإقامة القسط بين البشر عامة، العدالة بكل أنواعها؛ العدالة الاجتماعية، والعدالة القانونية، والعدالة الدَّوْلية؛ مما يُحقِّق السلام والأمان في المجتمع، وهذا هو قانون السلام في الإسلام.
فمَن بغى وظلم، وابتعد عن تحقيق العدل، فقد خالف كلمة الله، وعلى المسلمين أن يُقاتِلوا لإعلاءِ كلمة الله، حتى وإن اضطر الأمر لمقاتلة المسلمين الباغين للرجوعِ إلى أمر الله؛ فالعدل المُطلَق، ورَدُّ البَغْي بالعدوان هو كلمةُ الله التي يجب أن تعلو في كل مكان وزمان، {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9].
وإذا كان الإسلام يدعو المسلمين إلى أن يُقاتِلوا المسلمين لردِّ البغي وتحقيق القسط، فهو يدعوهم أيضًا إلى دفع الظلم كافةً، وإلى دفع الظلم عن أنفسِهم، وإلى دفعِه عن كلِّ مظلومٍ لا يملك له دفعًا، على ألا يعتدوا، ولا يَبْغُوا على أحد، حتى في رد العدوان.
لذا كان إعدادُ العدة وتوفيرُ القوة ضرورةً من ضرورات الفكرة الإسلامية لتحقيق السلام، إن الإسلام هو آخرُ رسالة السماء إلى الأرض، وهو جِماعُ العقيدة التي أرادها الله للبشر، وهو “الدين” الذي جاء بقواعده الأساسية كلُّ رسولٍ، {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، فكلُّ نبِيٍّ جاء ليأمُرَ الناسَ بعبادة الله الواحد دون شريك، والإسلام له وحده، ثم جاء محمدٌ عليه الصلاة والسلام بهذا الدين؛ {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48].
فإعدادُ القوة واجبٌ؛ ليكون في هذه الأرضِ سلطة عُليا تَرُدُّ الشاردين عن الحق إليه، وتوقف الطُّغاة عن البغي والعدوان، وتحفظ على الآمنين أمنَهم وسلامتَهم، وتعزُّ كلمة الله.
وحين تتحقَّق الحرية والعدالة، فلا يبغي بعضُ الناس على بعضٍ، ولا يستذِلُّ بعضُهم رِقاب بعض، وحين يتحقَّق الأمن للضعفاء الذين لا يملكون عن أنفسهم دفاعًا، ويكفُّ الباغي عن بَغْيِه ويجنح إلى السلم – حينئذٍ يُحرِّم الإسلام الحربَ تحريمًا، ويدعو إلى السلم فورًا، {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال: 61].
إذًا يتَّضِحُ لنا أن فلسفةَ السلام في الإسلام ترتكزُ على أن السلم هو القاعدةُ والمنظومة الرئيسَةُ التي جعَلها الله في الوجود، والحربُ ضرورةٌ لتحقيقِ خيرِ البشرية لا خيرِ أمةٍ، ولا خير جنس أو فرد فقط، وإنما ضرورة لتحقيق المُثُل الإنسانية العليا التي جعلها الله غايةً للحياة الدنيا، ضرورة لتأمين الناس مِن الضغط، وتأمينهم من الخوف أو الظلم، وتأمينهم من الضرِّ ضرورة هامة لتحقيق العدل المطلق في الأرض فتصبح إذًا كلمةُ الله هي العليا.
نحن في أشد الحاجة الآن إلى أن نتَّحِد ونتعاون لتحقيقِ السلام الإلهي، الذي يضمَنُ لهذه الأمة حقَّها، ويحفظ لها كرامتها وحريتها.
إن الأمة المُجزَّأة المُفكَّكة التي تسعى إلى تحقيق المكسب الذاتي، وتُضحِّي بالصالح العامِّ وحقوق رعاياها – لن تصنع سلامًا وأمنًا، بل تصنع حروبًا وفسادًا وهلاكًا، وفي النهاية فناءً محققًا؛ فالأمة الواحدة هي أمةُ السلام والهيمنة والخير والقداسة والحضارة، ولهذا قرن الله سبحانه وتعالى بين هذه الأمة وبين عبادته؛ كما في قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92].
إذًا كانَتْ هناك الدعوةُ لأَنْ نكونَ أمةً واحدةً تأمُرُ بالمعروف وتنهَى عن المنكر، وتتعاون على البر والتقوى، ولن يتحقَّق الأمنُ والأمان للفرد ما لَم يَنْعَمِ الجميع بالأمن والأمانِ، والسلام على الأرض يجب أن يكونَ مرتبطًا ومتواصلًا مع السلام في السماء، ولن يتحقق السلام إلا بالارتباط والانتماء لدين الله الواحد وتحقيق سبل السلام في القرآن والسُّنة.
——–
* المصدر: الألوكة.