يقول ربنا عز وجل على لسان نبيه في الحديث القدسي: «ما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه»، ويا سعد عبد بلغ به المنزل إلى درجات المحلة وعرصات القبول! فالله الله في فيمن جد السير حتى أدرك الطلب الأكبر! ولكن الطريق إلى الله لا تقطع بالإرادة فقط، فالكل مريد ولا بالسير فقط، فكم تساقط عند الجادة مشمرون! وإنما تقطع بالعلم والعمل والاتباع والعزم والتسليم لله.
وإليك أهم الأسباب الجالبة للمحبة، وفق «مدارج السالكين» التي أوردها الإمام ابن قيم الجوزية، مصحوبة بتعليق على كل نقطة يفصل ما أجمل ويفسر ما أشكل.
1- قراءة القرآن بتدبر وفهم معانيه:
فهو كلام الله عز وجل عبادة وقربى وتدبر وفكر وسلوك وخلق وارتقاء وصبر وعبرة، هو زاد المسير في السفر الطويل من حفظ حروفه ومعانيه، فقد سبق من أدرك حروفه وحدوده ووقف عند ما وصل إليه من معان وأحكام، وقد نجا من حمله في صدره ولهج به لسانه، ومن اتخذه وراءه ظهرياً فقد تودع منه، ولا سبيل لنجاته إلا بهداية ربانية تبدل سني تقصيره بصيرة وعزماً.
2- التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض:
وهو باب ظاهر يتعب فيه الجسم حتى لا يتطلع إلى معصية ولا تقوى روحه على مفارقة الطاعة، فهو في هذا الباب مرابط على شرط القبول بين مفتوح له ومنتظر يوشك أن ينال رضاء الحبيب المحب الواهب شرائط القبول الموفق لأسباب المحبة، فمن أدرك هذا الباب نجا عادة وعبادة.
3- دوام ذكره على كل حال.. باللسان والقلب والعمل والحال:
الله الله في الذاكرين الله، ليسوا من أهل الدنيا وإن تشابهت جسومهم ورسومهم، يحلقون في الآخرة بسحائب الذكر، يطيرون بين الملائكة بقلوب هربت من بطش السطوة الأرضية المهلكة، يحققون العزلة الشعورية دون أن يعتزلوا الناس، تغشاهم الرحمة وتدرك بركتهم من حولهم، إن ذكروا ذُكروا، وإن صمتوا تدبروا، وإن تكلموا أدلجوا للأوبة إلى الحال الأولى، فهم على خير وبخير ولخير وفي خير ومن كانت هذه حاله نجا ولا بد.
4- إيثار محابه تعالى على محاب النفس عند غلبات الهوى:
الإيثار خير كله، ولكنه فضل بين الناس واجب في حق الرب على عبده، فأنى تتحقق العبودية إن لم تؤثر أوامر الرب على نزغات الهوى وطلبات الجبلة ونوازع النفس الأمارة، وما يزال العبد يدافع نفسه وتدافعه حتى يلين له قيادها وتنكسر شوكتها وتكون طيعة لأمره ما دام طائعاً لربه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به»، ولا يدرك هذه الحالة إلا مجاهد مغالب منتصر في معركة الجهاد الأكبر.
5- مطالعة القلب لأسمائه وصفاته ومشاهدتها ومعرفتها:
فمن عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله أحبه لا محالة، فالله الله في عبادات القلب، عبادة النبي الأولى في الغار قبل الوحي من صفت فطرته، أدرك من معانيها ما يرفع ذكره في الأرض والسماء، ومفتاح التدبر إدمان الحب لأسماء الله وصفاته، وذكرها في كل حال وتأملها مع كل خطرة ومشاهدتها في كل واقعة، فمن عايش اسم الله «اللطيف» أنى له أن ينكسر؟! ومن تدبر اسم الله «المهيمن» أنى له أن يذل؟! ومن أحب اسم الله «الرحمن» أنى له أن يقسو أو يقسى عليه؟!
6- مشاهدة بره وإحسانه وآلائه ونعمه الظاهرة والباطنة:
والمشاهدة فوق الشكر، ولا تدرك المشاهدة إلا بتمام الشكر، فالشكر ثناء من جهة العبد، وهي منزلة عظيمة ولا شك مجلبة لحفظ النعمة وزيادتها، ولكن المشاهدة هي أن ترى نفسك قبل النعمة وحالها وبعدها، ثم ترى فضل الله عليك في المواقف الثلاثة، كيف لطف بك في الأولى وثبتك في الثانية وألهمك الثناء والشكر في الثالثة، فأنت منه وإليه، ابتلاك ليكرمك وأعطاك لتشكره؛ فيرفع درجتك ويرقيك، وفوق كل ذلك ألهمك المشاهدة والفكر، فأي كرم هذا؟! ثم يعود إلى نفسه فيرى أنه مهما فعل فيكون غير مؤد لحق ربه عند كل هذه النعم.
7- انكسار القلب بين يدي الله تعالى:
باب الله الذي لا يغلق أبداً يعرفه الأوابون ويلزمه العارفون ويحبه المقربون، وكم من سليم الجسد منكسر القلب مطرح على باب الله يهزه ذنبه فترتفع درجته ويقرب، فيكون له من هذا الباب سبق لا يبلغه السائر الجاد لشبهة اعتزازه بالطاعة وشعوره بالاستحقاق.
8- الخلوة به سبحانه وقت النزول الإلهي لمناجاته وتلاوة كلامه:
الخلوة ملتقى الأحبة، ورواء القلوب، وشفاء الأرواح، وري الأفئدة الظمأى، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم، أولئك الذين اصطفاهم الله من المسلمين المؤمنين المخلصين، فألهمهم العزم وشد أزر قلوبهم فصفوا أقدام الطاعة وساروا إلى المحبة على عجل، فكيف لا يصلون وهم من هم أصفياء كل ليلة.
9- مجالسة المحبين والصادقين والتقاط أطايب ثمرات كلامهم:
إن عدوى المحبة جالبة لرقة القلب وهمة السعي وبركة الرضا وتوفيق المسير، فاحرص كل الحرص على أن تكون من المستمسكين بالصحبة في غير ضجيج يمس القلب فيفسده.
10- مباعدة كل سبب يحول بين القلب والله عز وجل:
أخيراً البعد عن كل رذيلة حتى يتسنى للمحل الصفاء، فيقبل المحبة في غير كدر، ثم السير في غير دخن، والقرب في غير ردة، وما أدراك ما ردة المحبة، مهلكة القلوب ملزمة للحسرة، وربما كانت من سيئات المقربين، ولكنها تدع المحب حيران لا لذة الجاهلين ولا راحة العارفين، فجد السير ولا تلتفت، واحرس قلبك من سهام الأسباب الجالبة للشقاء والبؤس، واعلم أنك على سفر يوشك أن تصل إلى ما تريد، وما ذلك على الله بعزيز.