قد يستغرب بعض الناس حديثنا عن رعاية البيئة في الشريعة الإسلامية؛ ظنًّا منهم أن الإسلام إنما يُعنَى بالعبادات الشعائرية فقط، وأن فِقه الإسلام يُعنى بالحيض والنفاس والاستنجاء والتيمم وهذه الأشياء، ولا علاقة للإسلام بالكون، ولا بالإنسان، ولا بالحياة، ولا بالبيئة. وهذه نظرة قاصرة وخاطئة في فهم رسالة الإسلام، الحقيقة أن رسالة الإسلام رسالة شاملة تشمل الدين والدنيا، وتشمل العقيدة والشريعة، والدعوة والدولة، والفرد والمجتمع، وتشمل الحياة الإنسانية كلها، بل الكون كله.
عناية الإسلام بالبيئة
ومشكلتنا أن الكثيرين ركزوا على جوانب معينة في تعليم الإسلام وفي الدعوة إلى الإسلام؛ بحيث غَفَل الكثيرون عن الجوانب الأخرى، فإذا ذُكرت قالوا:ما دخل الإسلام بهذه القضايا؟، ولكن الذين درسوا الإسلام عرفوا أن للإسلام نظرة وفكرة وفلسفة وتوجيها وأحكاما في كل قضية من قضايا الحياة الكبرى، وليس معنى هذا أن نتدخل في التفصيلات التي تحتاج إلى الخبراء، لا.. ولكن الدين الإسلامي يُعطي إشارات ويُعطي أضواءً بحيث تعالج الجوانب الجوهرية في المشكلة المعروضة، هذا وجدناه في الناحية النفسية، والناحية الاجتماعية، والناحية التربوية، والناحية الاقتصادية، والناحية البيئية، وهذه النواحي كلها، من أجل ذلك نرى أن الإسلام عُني بالبيئة عناية كبيرة،
وقد وجدنا أن مَن نظر إلى العلوم الإسلامية الأساسية يجد أن كل هذه العلوم اهتم بها، حتى علم العقيدة اهتم بها؛ لأنه يهتم بالألوهية، الألوهية التي خلقت كل شيء في هذا الكون حسنا (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ)، (صُنْعَ اللَّهِ الَذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ)، (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ)، ولذلك فكل فساد يأتي من صنع الإنسان، وليس من صنع الله، ومَن نظر إلى الجانب العقيدي يجد له علاقة بالبيئة، وكتب الفقه تُعنى بجوانب كثيرة جدا في البيئة، حتى في باب الطهارة تأتي الأحاديث التي تنهانا عن البول في الماء الراكد، ويلعن النبي- صلى الله عليه وسلم -من يحدث البُراز في موارد المياه، أو في قارعة الطريق، أو في الظِّل؛ حيث يُفسد هذا البيئة.. فالفقه يُعنى بهذا، والتصوف والجانب الأخلاقي يُعنى بهذا؛ لأنه يُعنى بالإحسان، والإحسان يشمل كل شيء (وأَحْسِنُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ)، والرسول -عليه الصلاة والسلام- يقول: “إن الله كتب الإحسان على كل شيء”.
الضروريات الخمس
ولو نظرنا إلى علم أصول الفقه الذي يُعنى بمقاصد الشريعة، والضروريات الخمس التي جاءت الشريعة بالمحافظة عليها: المحافظة على الدين، والمحافظة على النفس، والمحافظة على النسل، والمحافظة على المال، والمحافظة على العقل، كل هذه الضروريات لها علاقة بالبيئة؛ لأنه إذا أفسدنا البيئة لم نحافظ على أنفسنا، ولا على صحتنا، إذا أفسدنا البيئة لم نحافظ على نسلنا، وكما جاء في القرآن: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا ويُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ)، أي: إنه لا يسيء إلى نفسه فقط، وإنما إلى الأجيال والذرية القادمة، والمحافظة على العقل أيضا؛ لأنه من ضمن الأشياء التي يحافظ عليها.. إن الإسلام يحافظ على الإنسان من إتلاف عقله بالمسكرات، وبالمخدرات، وبالتدخين، فمَن نظر إلى علومنا الإسلامية يجد أن لهذه العلوم علاقة مؤكدة برعاية البيئة وحماية البيئة، أنا شخصيًّا لي كتاب عنوانه: رعاية البيئة في شريعة الإسلام، اخترت كلمة الرعاية بدلًا من كلمة الحماية التي يستعملها رجال البيئة؛ لأني وجدت كلمة الرعاية أشمل من الحماية، الحماية تحفظها فقط من الجانب السلبي، إنما الرعاية أكثر من مجرد الحماية، لذلك نقول رعاية الأمومة،, رعاية الطفولة، الأشياء المهمة نقول فيها رعاية؛ لأن كلمة رعاية تشمل الجوانب الإيجابية والجوانب السلبية معًا.
خلل ثقافي
ويعود التدهور البيئي في بلداننا العربية والإسلامية إلى وجود خلل في ثقافتنا، خلل في وعينا، خلل في فقهنا من ناحية الثقافة الإسلامية والتربية الإسلامية؛ حيث يوجد قصور في هذه النواحي، نحن لا نُدَرِّس هذه الأشياء لتلاميذنا؛ إذ ينبغي أن تدخل رعاية البيئة وتعاليم الإسلام في رعاية البيئة في المناهج الدراسية؛ لأن التربية الإسلامية التي يدرسها التلاميذ في المدارس ليست التربية الإسلامية التي تدخل في كتب القراءة كثقافة.
إن الإسلام يُعنى بهذا الأمر، وعندما أدرس للتلميذ أن النبي -عليه الصلاة والسلام -يقول: “من قطع سدرة صوّب الله رأسه في النار”، والسّدرة هي شجرة السّدر أو الكنار أو النبق؛ حيث إنه إذا كانت في البريّة فالناس سينتفعون بثمرها ويستظلون بظلها، وبالتالي قطعها يترتب عليه حرمان الناس من الظل، وحرمان الناس من الثمر.
بعض الشُّراح قالوا: إن الرسول يقصد قطع شجرة الحَرَم، لما وجد أن فيه “صوّب الله رأسه”، لم يتصور أن المقصود هنا هو الشجرة العادية في البريّة، مَن قطعها يستحق النار، فقالوا: إن المقصود شجرة الحَرَم.. والرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: “من قطع سدرة”، وهذا يشمل أي سدرة؛ لأنه جاء في إطار الشرط، أي سدرة.
والسؤال هو: لماذا لا أُعلم أولادنا في المدارس هذا؟ لماذا لا تهتم البرامج الإعلامية في إدخال هذا؟ لذلك عندما نتصور أن لدينا قصورا في هذه الثقافة، وقصورا في هذا الوعي، فإن هذا يأتي من باب ما أسميه: فقه الأولويات.
ما معنى فقه الأولويات؟ أن يعطى كل شيء حقه، لا نُكبِّر الأشياء الصغيرة، ونُصغِّر الأشياء الكبيرة، لا نُعظِّم الأشياء الهينة، ولا نُهوِّن الأشياء العظيمة.. مسألة البيئة من الأشياء الهينة عندنا، من الأشياء التي لا قيمة لها، فلا نُعنى بها في تدريسنا، وفي تعليمنا، وفي تثقيفنا، وفي تفقيهنا للناس، نحن في حاجة إلى أن نُعيد فقه الأولويات.
الشيء الأساسي نجعله أساسيًّا.. وفي هذا الإطار يوجد حديث يقول: “إماطة الأذى عن الطريق صدقة”، كلنا يحفظ هذا، إنما أين هذا في بؤرة شعورنا، وفي وعينا الأساسي، وفي صلب ثقافتنا، بحيث يُشغِّل هذا الحديث عدة وزارات؟ تشتغل فيه وزارة البيئة، ووزارة البلدية، ووزارة الصحة، ووزارة الطرق والجسور، ووزارة… فهناك خلل في ثقافتنا، ولذلك هذه الأمور لا تأخذ حقها من وعي الإنسان العربي والمسلم.
اهتمام الغرب بالبيئة
أحزاب الخُضَر المعنية بالبيئة في بلاد شتى، ولها مكانة ولها أنصار ولها أتباع ولها ثقافة، ولكن نحن على العكس، نأتي إلى الأماكن الخضراء ونحولها إلى أماكن بناء، فقد كنت أرى في كثير من البلدان أماكن خضراء وأشجارا ومزارع، أذهب إليها بعد ذلك أجدها تحولت إلى أرض للبناء والسكن، أراضي الزراعة أيضًا تتحول لأرض للسكن، وأنا أعتبر هذا كأنه قتل.
إن الذي يقتل شجرة، وهي كائن حي الناس في حاجة إليه، ليس بسبب البيئة ذاتها، وإنما وجود الخضرة في المدن يساعد على سلامة البيئة، وعلى سلامة التنفس، فالدخان والملوثات تضر بالإنسان والبيئة، وقد خلق أشياء لتقابل أخرى، ليحفظ التوازن البيئي في هذا الكون.
والأحزاب الإسلامية يجري عليها ما يجري على أحزابنا الأخرى، وإن كنت ألاحظ في بعضهم اهتماما بهذا الجانب، خصوصا في السنوات الأخيرة عندما بدأت هذه الدراسات الإسلامية عن البيئة، وعُقدت بعض المؤتمرات التي تحدثت عن هذا.
وقد أظهرت الدراسات أن للإسلام عناية كبرى بهذا الأمر، كان الناس في غفلة عنها، فبدأت بعض الجماعات الإسلامية وبعض الأحزاب الإسلامية وبعض المؤسسات الإسلامية تُدخل هذا الأمر في حسابها، والحقيقة أن الجميع يجب أن يهتم بهذا الأمر، الجماعات والأحزاب الإسلامية، والمؤسسات الاجتماعية والصحية يجب أن تهتم بهذا، والوزارات المختلفة يجب أن تُعنى بهذا الأمر، سواء من ناحية الوقاية أو من ناحية العلاج.
والاهتمام بوقاية البيئة لكي لا يحدث فيها الفساد، وحينها سيكون علينا علاجه، وكما قالوا: درهم وقاية خير من قنطار علاج، فالإسلام يُعنى بالجانب الوقائي أكثر من أي شيء؛ حتى لا يحدث الفساد في البيئة ثم نحاول أن نعالجه فيتكلف أضعاف ما كان يتكلف لو عنينا بالوقاية أولا.
الكون مُسخَّر للإنسان
تسخير الله الكون للإنسان نعمة مَنّ الله بها عليه (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ ومَا فِي الأَرْضِ وأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وبَاطِنَةً)، (وسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ ومَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ)، (اللَّهُ الَذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ وأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وسَخَّرَ لَكُمُ الفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي البَحْرِ بِأَمْرِهِ وسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ وسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ والْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ والنَّهَارَ)، انظر كلمة “لكم” كُرِّرت خمس مرات.
كل هذه الأشياء: السماوات والأرض والماء والشمس والقمر والليل والنهار (وآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وإن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا)، هذا التسخير نعمة من الله للإنسان، وكل نعمة ينبغي أن تُقَابل بشكر؛ لأننا لكي نحافظ على النعم، ولكي يزيد الله النعم علينا يجب أن نشكر النعم، يقول الله تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ ولَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)، فشُكر النعمة أن تُستخدم فيما خلقها الله له، فيما يُحب الله تعالى ويرضاه، في نفع الخلق لا في إيذاء الخلق، فربنا سخر لنا المياه لا لنلوث المياه، وسخر لنا الهواء لا لنلوث الهواء، وسخر لنا الأرض لا لنُفسد فيها، لا.. الله تعالى يقول: (ولا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا)، ما معنى بعد إصلاحها؟ يعني ربنا خلق الأرض صالحة مُهيَّأة لتُنبت للإنسان، ولتُعطي للإنسان ما يحتاج إليه كما قال تعالى: (وبَارَكَ فِيهَا وقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا)، حينما خلق الله الأرض بارك فيها، وقدّر فيها أقواتها، فنحن نأتي لنُفسد هذه الأرض، ونُفسد تربة الأرض، ونُفسد الماء، ونُفسد الهواء، ونُفسد كل شيء (ولا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إصْلاحِهَا)، فنحن للأسف لا نشكر النعمة، بل نكفر بالنعمة ولذلك قال تعالى: (ولَئِن كَفَرْتُمْ) يعني كفرتم بالنعمة ولم تؤدوا لها حقها (إنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)، وهنا جاءت الآية التي يقول الله تعالى فيها: (ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ)، الفساد هنا يعني ماذا؟ ليس الفساد الخلقي، إنما يعني الفساد في المرء، واضطراب الأمور، والاختلال في الحياة في البر وفي البحر وفي الماء وفي الهواء وفي التربة، هذا هو معنى الفساد، ولماذا حدث هذا الفساد؟ (بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ)، يعني بأعمال الناس، بأعمال الناس فسدت البيئة وفسد البر وفسد البحر وفسد الجو، (لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَذِي عَمِلُوا) أي: إن ربنا لا يحاسب الناس على كل ما عملوا (ولَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ)، ولذلك قال: (ومَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ويَعْفُو عَن كَثِيرٍ)، فيعاقبنا ببعض ما عملنا، ولماذا يعاقبنا بهذا؟ (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، يمكن لعلهم يفيقون لأنفسهم، ويرجعون إلى رُشدهم، ويثوبون إلى عقولهم، ويُصلحون ما أفسدوا من قبل، هذا معنى.
——
* المصدر: الموقع الشخصي للدكتور القرضاوي على الإنترنت.