يحتفل النصارى هذه الأيام بما يسمى بعيد «القيامة» أو «الإيستر» أو «الفصح المسيحي».، الكاثوليك يحتفلون هذا العام (2024م) يوم الأحد 31 مارس، وهو أول أحد بعد تمام بدر الربيع، أما عند الأرثوذكس فيصادف الأحد 5 مايو، لاختلاف الكنيستين في التقويم، وهم يعتقدون أن المسيح عليه السلام قام بعد ثلاثة أيام من الصلب، وأن الصلب حدث يوم جمعة «الآلام»، وقام يوم أحد «القيامة»، ثم ارتفع بعدها إلى السماء وجلس بجوار الرب، في زعمهم، فكيف ينظر الإسلام إلى هذه القضية؟
التشبيه
أكد الله تعالى أن عيسى عليه السلام لم يُقتل، ولم يُصلب، بل شُبِّه على اليهود الذين أرادوا ذلك، فظنوا أنهم صلبوه، قال تعالى: (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً) (النساء: 157).
وفي صفة التشبيه الذي شبه لليهود، قال المفسرون: لما أحاطت اليهود به وبأصحابه، وهم لا يثبتون معرفة عيسى بعينه، وذلك أنهم جميعًا حُوِّلوا في صورة عيسى، فأشكل على الذين كانوا يريدون قتله، وخرج إليهم بعض من كان في البيت مع عيسى، فأخذوه وهم يحسبونه عيسى، عدّ ذلك الطبري أولى الأقوال بالصواب.
وقال آخرون: بل سأل عيسى من كان معه في البيت أن يُلقى على بعضهم شَبهه، فانتدب لذلك رجل، فألقي عليه شبهه، فرفع عيسى عليه السلام، وقتل ذلك الرجل(1).
ويمكن تلخيص التفسيرات عن الصلب:
1- لم يصلب اليهود أحدًا، لكنهم ادّعوا ذلك ليشبهوا على من قلدهم ويكذبوا عليهم، بعد أن نجى الله المسيح عليه السلام من مكرهم.
2- صلب اليهود واحدًا من الناس وادعوا أنه هو المسيح؛ ليشبهوا الأمر على الناس بعد أن نجى الله نبيه عليه السلام، ذهب إلى ذلك ابن حزم فقال: ما كان الحواريون في هذه الليلة بنص الإنجيل إلا خائفين على أنفسهم غائبين عن ذلك المشهد هاربين بأرواحهم مستترين، فبطل أن ينقل خبر صلبه أحد تطيب النفس عليه أن تظن به الصدق، وهذا معنى قوله تعالى: (وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ) إنما عنى تعالى أن أولئك الفساق الذين دبروا هذا الباطل وتواطؤوا عليه، هم شبهوا على من قلدهم، فأخبروهم أنهم صلبوه وقتلوه وهم كاذبون في ذلك عالمون أنهم كذبة(2).
3- صلب اليهود أحد تلاميذ المسيح عليه السلام الذين افتدوا نبيهم بأنفسهم، فادّعى التلميذ بأنه هو المسيح عليه السلام عندما طلبه الجنود، فشبه الأمر لليهود بأن ظنوا أنهم صلبوا المسيح عليه السلام وقتلوه.
4- صلب اليهود أحد الذين وشوا بالمسيح عليه السلام بعد أن جعل اليهود يرونه على صورة المسيح، فظنه اليهود بأنه هو المسيح فصلبوه وقتلوه، فشبه الأمر لليهود بأن ظنوا أنهم صلبوا المسيح عليه السلام وقتلوه(3).
يؤيد ذلك ما جاء في إنجيل برنابا (هو من حواريي عيسى الاثني عشر، هو خال مرقس أحد كتبة الإنجيل): «فاعلم يا برنابا أنّه لأجل هذا يجب عليَّ التحفظ، وسيبيعني أحد تلاميذي بثلاثين قطعة من نقود، وعليه فإني على يقين من أنّ من يبيعني يُقتل باسمي، لأن الله سيُصعدني من الأرض، وسيُغيّر منظر الخائن حتى يظُنُّه كل أحد إيّاي»(4)، والمقصود هو يهوذا الإسخريوطي.
الرفع
لما تآمر اليهود على قتل عيسى عليه السلام والخلاص منه ومن دعوته، نجاه الله منهم، ورد كيدهم في نحورهم، فرفعه إليه، قال تعالى: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (آل عمران: 55).
قال الطبري: ومكر الله بالقوم الذين حاولوا قتل عيسى عليه السلام مع كفرهم بالله وتكذيبهم عيسى، فتوفاه ورفعه إليه، ثم اختلف أهل التأويل في معنى الوفاة:
– هي وفاة نوم، فمعنى الكلام على مذهبهم إني منيمك ورافعك في نومك.
– إني قابضك من الأرض فرافعك إليَّ، ومعنى الوفاة القبض، فيقال: توفيت من فلان ما لي عليه، بمعنى: قبضته واستوفيته، فمعنى (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) أي: قابضك من الأرض حيًا، ورافعك من بين أهل الكفر بك.
– معنى ذلك إني متوفيك وفاة موت؛ أي ثم رافعك.
– معنى ذلك إذ قال الله يا عيسى إني رافعك إليَّ، ومطهرك من الذين كفروا، ومتوفيك بعد إنزالي إياك إلى الدنيا، وهذا من المقدم الذي معناه التأخير.
قال الطبري: وأولى هذه الأقوال بالصحة قول من قال: إني قابضك من الأرض ورافعك إليَّ؛ لتواتر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزول عيسى ثم وفاته فيصلي عليه المسلمون ويدفنونه(5).
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «والَّذي نفسي بيدِه ليوشِكنَّ أن ينزلَ فيكم ابنُ مريمَ حَكمًا مقسطًا فيَكسرُ الصَّليبَ ويقتلُ الخنزيرَ ويضعُ الجزيةَ ويفيضُ المالُ حتَّى لا يقبلَه أحدٌ، حتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ الوَاحِدَةُ خَيْرًا مِنَ الدُّنْيَا وَما فِيهَا»، ثُمَّ يقولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاقْرَؤُوا إنْ شِئْتُمْ: (وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) (النساء: 159) (رواه البخاري)، وفي صحيح الجامع: «فيمكث في الأرض أربعين سنة، ثم يتوفى، فيصلي عليه المسلمون».
والرفع ليس معناه الربوبية، فعيسى في السماء الثانية مع يحيى، كما رآهما النبي صلى الله عليه وسلم في رحلة المعراج، كما غيرهما من الأنبياء في سماوات أخرى، وكلهم ليسوا أربابًا ولا آلهة.
القيامة
ليس كل علماء النصارى يقرّون بقيامة المسيح، وهذه بعض نظرياتهم:
– نظرية الإغماءة: لم يمت على الصليب، وإنما أصيب بحالة إغماء ثم استعاد وعيه، وقد توهم الذين رأوه بعد إنزاله من الصليب أنه قد عاد إلى الحياة.
– نظرية الكذب: سرقة تلاميذ المسيح جثة معلمهم ثم زعموا أنه قد قام من الموت، كما زعم إنجيل متى (28: 15-12): «فاجتمعوا مع الكهنة، وتشاوروا، وأعطوا العسكر فضة كثيرة قائلين: قولوا إن تلاميذه أتوا ليلاً وسرقوه ونحن نيام.. فأخذوا الفضة وفعلوا كما علموهم، فشاع هذا القول عند اليهود إلى هذا اليوم».
– نظرية الوهم: توهم التلاميذ أنهم رأوا المسيح بناء على توهم مريم المجدلية، ولأنهم لم يقبلوا موت معلمهم، وتعودوا على قصص العودة من الموت في العهد القديم.
– النظرية العصرية: أمر فوق الطبيعي لا يمكن إثباته تاريخيًا، وقصة القبر الفارغ ليس بحجة.
– نظرية التأويل الرمزي: فتفهم قصة القيامة بطريقة «المدراش: تعليقات على التوراة» اليهودية القديمة لإعادة صياغة الموضوعات الدينية القديمة في سياقات رمزية جديدة، فيقول الأسقف جون سبونج، في كتابه «قيامة المسيح حقيقة أم خرافة»: إن روايات القبر الفارغ إلى جانب قصص عيد الفصح الأخرى في العهد الجديد هي الأساطير التقية التي عبر فيها المسيحيون الأوائل عن تجربتهم الشخصية في التغلب على اليأس؛ وهي ليست تقارير تاريخية(6).
– نظرية الخطأ في القبر: النساء أخطأن فذهبن إلى قبر آخر، ثم رأى التلاميذ المسيح في رؤيا حسبوها حقيقة، لطغيان الوهم على عقولهم أن معلمهم قد قام من الموت.
– نظرية الخرافة: أي أن القصة من اختراع أصحاب الأسفار ومحرفيها، فإن عدم الموت على الصليب يدحض قصة القيامة أصلاً(7).
الهشاشة التاريخية
إن أناجيل العهد الجديد الأربعة كتبت بعد رفع المسيح ما بين 40 إلى 140 سنة، واثنان من المؤلفين؛ مرقس ولوقا، لم يريا المسيح، واختيرت هذه الأناجيل في مجمع نيقية عام 325م، فهي فاقدة للاعتبار التاريخي لأسباب متعلقة بالسند مثل الانقطاع الفاحش لسند الأناجيل والجهالة بأحوال رجالها، وغياب أي مصدر موضوعي محايد لتوثيق هؤلاء الرجال، ولم يعرف القوم إلى اليوم علمًا للجرح والتعديل، والمتن يمتلئ بالتناقض والأغلاط والأخطاء العلمية والأخطاء التاريخية والنبوءات الفاشلة والأمور المحالة عقلًا، والإساءة إلى الأنبياء والازدراء (التجديف) في حق الله سبحانه.
وهناك اختلافات في مسألة قيامة المسيح؛ فالصلب في رواية يوحنا يوم الخميس، ولوقا، ومتّى قالا: إن حامل الصليب هو سمعان القيرواني، أما يوحنا فقال: إنه عيسى، أما ظهوره فاختلفت الأناجيل في تفصيله، فمتّى ذكر أنه ظهر في الجليل، ولوقا قال بظهوره في أورشليم، ويوحنا كتب أنه ظهر في اليهودية والجليل معًا، ومرقس بيّن أن ظهوره بين تلاميذه، ونقول كما قال أبو زهرة: «إذا اختلف الشهود في مكان حادثة معينة، كان اختلافهم سببًا للظنة في الشهادة واتهام الشهود فيها»(8).
دعوة للتفكر
نتساءل: كيف يموت من ادعوا عليه أنه الإله والرب، وكان الكون أيامها في غاية التمام بدونه؟!
وكيف يتأتى أن صلب عيسى وسفك دمه هو من أجل تخليص البشرية من خطيئة آدم -التي تاب منها آدم أصلًا وقبلها الله منه- والعدل هو ألا تزر وازرة وزر أخرى؟ ومن التناقض العجيب أن وثيقة الفاتيكان بعد مجمعه عام 1963م «برّأت الأجيال اليهودية اللاحقة من تولي وزر جريمة الكهنة ورؤساء الشعب اليهودي في صلب المسيح»، فنقول: لماذا بالقياس حملت البشرية وزر آدم؟!
وكيف يُعقل أن يضحي ويصلب ويعذب اللهُ -تعالى الله عما يقولون- ابنه الوحيد المحبوب، في زعمهم، من أجل الخاطئين؟! ولماذا تُقدس آلة التعذيب (الصليب)؟!
وإن كان النصارى يحتفلون بدلالات ذهنية موروثة مشكوك في صحتها أو حدوثها أصلًا عن قيامة المسيح كقيامة للبشرية بعد سقوطها في الخطيئة الأولى (التي لم تفعلها البشرية!) وأن المسيح بقيامته قد انتصر على الموت؛ فالعقل السوي يرفض فكرة تختصر غاية الخلق وآمال المخلوقين في «قيامة الرب» المنتصر على الموت، وكيف يموت الرب، والمفترض فيه كمال الحياة والقيومية؟!
وآيات الموت والحياة لا تحتاج إلى هذا الثمن الباهظ في صلب نبي كريم لتكون حكاية القيامة من الموت أصل دين المسيحية المحرف وقلبه ومنتهاه، بل يعلم الإنسان تلك الآيات في قدرة الله المطلقة من نجوم الكون الهائلة التي تموت، إلى الفيروسات الدقيقة التي تدب فيها الحياة في الأجساد، ويرى الإنسان الآيات كل يوم في نفسه وفي الحيوان والنبات.
يقول تعالى: (قلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (العنكبوت: 20)، ويقول رب العزة: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَٰلِكَ تُخْرَجُونَ) (الروم: 19).
________________________
(1) الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، دار هجر، 2001، ج7، ص650.
(2) ابن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل، مكتبة الخانجي، ج1، ص56.
(3) موسوعة التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، رفع عيسى عليه السلام ونزوله.
(4) إنجيل برنابا، تحقيق سيف الله فاضل، دار القلم، 1983، ص 178.
(5) الطبري، ج5، ص451.
(6) John Spong, Resurrection: Myth or Reality?: A Bishop’s Search for the Origins of Christianity, HarperCollins, 1994.
(7) سامي عامري، سقوط النصرانية – نقض أهم عقيدة عند النصارى – قيامة المسيح المصلوب من الموت، مكتبة النافذة، 19-21.
(8) أبو زهرة، محاضرات في النصرانية، دار الفكر العربي، 1966، ص108.
دكتوراة في العقيدة وأصول الدين.