عندما تكلم الرافعي عن الكلمات والمعاني قال: إن من الكلمات والمعاني مفردات عدوة تغير على الأمة بخيلها ورجلها.. ولا شك أن مفردة الانقلاب من تلك الكلمات التي اجتاحت الأمة بجيش من المعاني العدوة التي تفرق ولا تجمع وتدمر ولا تعمر، فقد نبأنا التاريخ أن الع
باحث سياسي – مركز الديمقراطية ودعم حقوق الإنسان
(1)
عندما تكلم الرافعي عن الكلمات والمعاني قال: إن من الكلمات والمعاني مفردات عدوة تغير على الأمة بخيلها ورجلها.. ولا شك أن مفردة الانقلاب من تلك الكلمات التي اجتاحت الأمة بجيش من المعاني العدوة التي تفرق ولا تجمع وتدمر ولا تعمر، فقد نبأنا التاريخ أن العسكر ما حكموا إقليماً إلا عمَّ الفساد وساد الخراب.
(2)
وإذا انتقلنا إلى المشهد المصري نجده شديد التعقيد تم تكريسه على مدار أكثر من 60 عاماً بعد إعلان العسكر دولتهم في عام 1952م أو بالأحرى في 1954م بعد الإطاحة بمحمد نجيب، وتمكين الجيش من الحياة المدنية، ولكي يتسنى لنا فهم هذا المشهد المركب علينا تفكيكه إلى مفرداته الأساسية وفهم كل مفردة على حدة، ومن ثم إعادة تركيبه مع الأخذ في الاعتبار مضاعفات هذا التركيب synergistic effect.
النخبة.. إحدى مفردات هذا المشهد، وقد تناولناها في مقالنا السابق “نخبتنا.. نكبتنا”، وتوصلنا إلى حقيقة مفادها أن المؤسسة العسكرية أسست لما يمكن تسميته صناعة النخبة، وقلنا: إنه منذ انقلاب يوليو 1952م عمد العسكر إلى سياسية تكوين الأذرع وإفساد مؤسسات الدولة لتصبح مؤسسات وظيفية موالية للنظام سائرة في ركابه، تقدم فلسفات كلما اقتضى الأمر للتغطية على جرائمه وممهدة لترسيخ أقدامه وحماية امتيازاته.
ومن هنا جاء دور مؤسسات الدولة كمفردة شديدة الأهمية في تبريد ثورة يناير، ثم تطويقها؛ ومن ثم الانقلاب عليها وشطبها من تاريخ مصر الحديث، وهو السيناريو نفسه المستخدم مع الإخوان المسلمين، ومحمد نجيب، ويوسف صديق، وعبدالمنعم عبدالرؤوف، وغيرهم من الشخصيات والهيئات الوطنية إبان حركة يوليو.
(3)
استخدام مؤسسات الدولة في تطويق الروافع الثورية والفاعلين الرئيسين أصبح الأداة الأكثر سهولة لدى العسكر في مصادرة تحركات المجتمع المدني الطامحة إلى العيش الكريم والعدالة الاجتماعية والحرية والكرامة الإنسانية والتعددية، وتبادل السلطة بآليات شورية وديمقراطية حقيقية، يأتي على رأس هذه المؤسسات التي أصبحت أداه صريحة للقمع والثأر السياسي “المؤسسات الأمنية والأجهزة التابعة لها, القضاء, الإعلام”، وفي تقديري أن أخطر هذه المؤسسات على الإطلاق هي مؤسسة القضاء التي يجب أن تكون حكماً بين الجميع وكفة الميزان التي تعطي الحقوق وتردع المعتدي وتقيم العدل على الجميع، وأي انحراف في هذا الميزان يضيع المجتمع ويخل بمقومات وجوده ويحوله إلي ساحة صراع فوضوي بلا ضابط، يحل فيها الإجحاف مكان الإنصاف، والظلم مكان العدل، والقوة مكان العقل، والزيغ مكان الضمير، والعنف مكان التسامح، والباطل مكان الحق، والإسفاف والابتذال مكان الرقي والرزانة.
(4)
الأصل في المؤسسات أن تكون وطنية تقوم بدورها المنوط بها في الدستور والقوانين المحلية والدولية دون استقطاب أو تلوين من النظم المتعاقبة في الحكم؛ بمعنى ألا تكون تلك المؤسسات أداة مشهرة في يد السلطة لإقصاء أو تغييب الخصوم السياسيين، وأي محاولة لإفسادها أو تلوينها يفقدها دورها الوطني؛ فتصبح مؤسسات وظيفية تقوم بخدمة نظام الحكم على حساب إرادة الشعب ومبدأ حيادية مؤسسات الدولة.
وهنا يجب التنبيه على أن قيام المؤسسات بتنفيذ مشروعات سياسية واقتصادية وتنموية لنظام ما أتى به الشعب عبر إرادته الحرة لا يعني استقطاباً طالما لم تساعد تلك المؤسسات هذا النظام على البقاء في الحكم دون رغبة الشعب المستفادة من الممارسة الديمقراطية عبر الآلية المتبعة وهي الانتخابات الحرة النزيهة.
(5)
فطن العسكر إلى حقيقة مفادها أنه دون مؤسسات وظيفية ساندة لحكمه لن يستمر هذا الحكم أو يعمر، ومن هذه الفرضية حرص على أن تكون الدولة ابتداءً من الجيش والشرطة والأجهزة والأمنية، ومروراً بالقضاء والنيابة العامة، وانتهاء بالإعلام والاقتصاد في يده، فيما يصبح الرئيس منصباً شرفياً يدير شؤون قصره ولا مانع من الظهور مع قادة الجيش وأداء التحية له من باب الأبهة والوجاهة.
وقد اتخذ العسكر في سبيل استقطاب هذه المؤسسات وتحويلها من مؤسسات وطنية إلى مؤسسات وظيفية خطوات عدة، منها:
– عسكرة المؤسسات عبر إسناد مفاصلها الحيوية لعسكريين.
– عسكرة المدنيين عبر تكوين الأذرع الممتدة على طول البلاد وعرضها واستخدام سياسة العصا الغليظة والجزرة السمينة كآلية مستدامة للمكافأة والردع.
– عسكرة الخدمات وتحويل الجيش من مؤسسة خدمية تعنى بالحراسة والتدريب والجاهزية لردع العدو إلى مؤسسة منتجة تقدم الخدمات المدنية كالرصف ومحطات الوقود وإنتاج السلع المنزلية والغذائية وغيره.
– عسكرة النخب عبر استقطاب المثقفين إلى مربع القوة الخشنة بدل القوه الناعمة؛ فترى قلم المثقف يطلق زخات الرصاص على معارضه بدل الكلمات والأفكار والأخذ والرد.
تلك الخطوات مشمولة بخطه كاملة للاستيعاب والتطويق لكل معارض أو خصم يشذ عن الإطار المرسوم، ويطالب بعدم عسكرة الدولة المصرية، أو يدافع عن حق الشعب في اختيار حكامه وإقامة دولته الديمقراطية المدنية الحديثة؛ بحجة المحافظة على الأمن القومي وغيرها من الفزاعات والهواجس التي لا تعدو أن تكون خيالات بداخل صانعيها ومن يوالونهم.
(6)
التحدي الضخم الذي يواجه النخب السياسية اليوم هو رد هذه المؤسسات الوظيفية إلى دورها الدستوري والوطني لحماية كل شرعية دستورية من التسلط والاستبداد، وأن تكون مؤسسات مملوكة للدولة تحمي حريته وتحفظ كرامته وتعمل بمقتضي دستوره دون تلون أو استقطاب.