يعتبر ملف الفساد في العراق من أكثر الملفات تعقيداً، بسبب تورط شخصيات سياسية كبيرة وأحزاب نافذة في نهب ثروات البلد النفطي، الذي عمت فيه الفوضى بعد احتلاله عام 2003 من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، وتسبب وصول النخبة السياسية التي وصلت للحكم بدعم الاحتلال في إشاعة الفوضى، وتشكلت إثر ذلك “مافيات” تعمل على سرقة الأموال العراقية.
انتفاضة العراقيين في أكتوبر الماضي، التي جاءت على خلفية تراجع الخدمات، وانهيار البنى التحتية، واستشراء البطالة في صفوف الشباب، وانتشار الفقر بين أبناء الطبقة الوسطى، في مقابل تعاظم الثروات بين يدي قلة قليلة من المستفيدين، أدى إلى إسقاط مخرجات الانتخابات التشريعية التي جرت عام 2018، وتسبب ضغط الشارع باستقالة رئيس الوزراء الأسبق عادل عبدالمهدي، ووصول مدير المخابرات مصطفى الكاظمي للحكم بتوافق داخلي وإقليمي.
مواجهة الفساد
الكاظمي تعهد بتلبية مطالب المتظاهرين في الساحات، وعلى رأسها مكافحة الفساد والإيقاع بحيتانه بين براثن القضاء وتحت سلطة القانون، فقرر رئيس الوزراء العراقي، نهاية أغسطس الماضي، تشكيل لجنة للتحقيق بقضايا الفساد الكبرى والجرائم الاستثنائية، برئاسة الفريق الحقوقي أحمد طه هاشم من وزارة الداخلية، وثلاثة ممثلين عن جهاز المخابرات الوطني، وجهاز الأمن الوطني، وهيئة النزاهة، فضلاً عن الاستعانة بـ25 محققاً و15 موظفاً إدارياً.
وخوّل الكاظمي لجنة التحقيق بقضايا الفساد طلب أي ملفات أو أولويات أو معلومات متعلقة بالقضايا التي تنظر فيها، من الوزارات أو المؤسسات غير المرتبطة بالوزارات، كما خولها استدعاء من تقتضي مجريات التحقيق استدعاءه بعد تحديد صفته، باستثناء المتهمين الذين لا يمكن إحضارهم من دون قرار من القاضي المختص.
كما كلف الكاظمي جهاز مكافحة الإرهاب الجهاز الأكثر حرفية الذي يعوّل عليه في المهمات الخاصة، بتنفيذ القرارات الصادرة عن قضاة التحقيق أو المحاكم المختصة بالمسائل التي تخص لجنة التحقيق بقضايا الفساد، وفقاً للقانون، نظراً لارتباط المتهمين بالفساد بأحزاب نافذة أو مليشيات مسيطرة.
وما زالت اللجنة تعمل على معالجة قضايا الفساد وملاحقة الفاسدين، حيث كشفت هيئة النزاهة العراقية، أمس الإثنين، عن تنفيذها أمر إلقاء قبض بحق محافظ نينوى الأسبق نوفل حمادي العاكوب، وقالت في بيان: إن تنفيذ الأمر جاء بعد الحصول على موافقة المحكمة المختصة بقضايا النزاهة في المحافظة.
وأشارت، في بيانها، إلى أن “هيئة النزاهة سبق أن شكلت فريق تحقيق عالي المستوى من أجل الكشف عن مصير الأموال التي تم سحبها قبل إقالة محافظ نينوى الأسبق، وضبط عدد من المسؤولين والموظفين في ديوان المحافظة بتهمة الاختلاس وتبديد أموال الدولة”، منوهةً إلى أن الأموال التي تم ضبطتها تجاوزت 76 مليار دينار عراقي؛ أي ما يعادل 61 مليون دولار أمريكي.
الفساد والإرهاب
وكان مصدر أمني مطلع كشف لـ”المجتمع”، في سبتمبر الماضي، أن قوة أمنية اعتقلت 6 مسؤولين سابقين وحاليين كبار، من بينهم مدير هيئة التقاعد السابق أحمد عبدالجليل الساعدي، في أولى عمليات لجنة التحقيق بملفات الفساد التي شكلها رئيس الوزراء، وهو الأمر الذي تأكد لاحقاً بعد نشر الإعلام العراقي تفاصيل العملية.
ذات المصدر ذكر لـ”المجتمع” أن تحقيقات اللجنة المعمقة أفضت إلى وجود صلة وثيقة بين شخصيات كبيرة فاسدة، وعصابات جريمة منظمة ومليشيات خارجة عن القانون، تتقاضى مبالغ مالية من الأطراف الفاسدة مقابل تنفيذ عمليات اعتقال واغتيال واختطاف منظمة.
وقال المصدر، مفضلاً عدم ذكر اسمه: إن الأسابيع القليلة القادمة ستكشف عن مفاجآت صادمة للرأي العام العراقي، حيث تدرس الحكومة حالياً عشرات الملفات السرية المرتبطة بشخصيات سياسية تبين خلال التحقيق ارتباطها بملفات فساد كبيرة ومليشيات خارجة على القانون.
وأوضح المصدر أن حسابات سياسية وأمنية وراء تأخر الإعلان عن بعض النتائج التي توصلت إليها التحقيقات، ويقوم رئيس الوزراء الكاظمي مع فريق مستشاريه بمراجعة للتداعيات التي قد تفضي إليها مسألة الكشف عن المتورطين الكبار، خصوصاً أن ذلك يتزامن مع الحديث عن موعد الانتخابات المبكرة التي حددتها الحكومة منتصف العام القادم.
وسبق أن نفذت السلطات العراقية أوامر قبض بحق مسؤولين سابقين وحاليين، كما أصدرت أوامر منع سفر بحق آخرين، ضمن حملة الحكومة لمحاربة الفساد.
وكان الرئيس العراقي برهم صالح، قد حذر خلال استقباله الخميس الماضي، علاء جواد حميد، رئيس هيئة النزاهة العراقي، من خطر الفساد في تغذية الإرهاب وأعمال العنف بالبلاد، داعياً إلى “سد منافذ الفساد واسترداد الأموال المنهوبة”.
وقال صالح: إن الحفاظ على أموال الدولة وغلق منافذ الفساد واسترداد الأموال المنهوبة وإيقاف الهدر العام بات اليوم مهمة وطنية ملحة، ومرتكزاً أساسيا لدولة مقتدرة خادمة لمواطنيها.
وحذر من خطر الفساد في تغذية أعمال العنف والإرهاب، وإضعاف دور المؤسسات في تلبية احتياجات المواطنين، والتأثير سلباً على فرص الاستثمار.
وشدد الرئيس العراقي على أهمية تفعيل كافة الإجراءات القانونية والعملية في مكافحة الفساد عبر التنسيق مع البلدان ومؤسسات المجتمع الدولي ذات العلاقة.
يشار إلى أن العراق من بين أكثر دول العالم التي تشهد فساداً، وفق مؤشر منظمة الشفافية الدولية على مدى السنوات الماضية، وهو ما تسبب بفشل الحكومات العراقية المتعاقبة في تحسين الخدمات العامة الأساسية من قبيل التعليم والكهرباء ومياه الشرب وقطاع الصحة وغيرها.
ويحتج العراقيون منذ سنوات طويلة على الفساد، إلا أن احتجاجات غير مسبوقة شهدتها البلاد على مدى أشهر بدءاً من أكتوبر 2019، ولا تزال الاحتجاجات متواصلة على نحو محدود للضغط على حكومة الكاظمي للإيفاء بتعهداتها الخاصة بمحاربة الفساد.