رغم تراجع سعر الليرة التركية في ظل الصراع بين الرئيس التركي أردوغان وسعر الفائدة (الربا)، تختلف آراء المحللين حول الهدف الفعلي الذي يسعى له الرئيس التركي في إدارته للاقتصاد، وهل هو محاربة الربا للسماح بالنمو، أم أخطاء اقتصادية قد تعرض حكمه للخطر في ظل العداء الغربي له وتصاعد الدعوات لانتخابات مبكرة؟
الليرة.. شهدت انخفاضات متتالية؛ حيث تقترب من 12 ليرة مقابل الدولار بعدما كانت 5 قبل شهور قليلة، وذلك بعد أن قرر البنك المركزي خفض سعر الفائدة للمرة الثالثة.
من جانبها اعتبرت صحيفة “وول ستريت جورنال” 18 نوفمبر 2021 أن تراجع قيمة الليرة 6%، ووصولها إلى مستويات متدنية جديدة يعد “جرحا ذاتيا” لأردوغان الذي يسعى لخفض الفائدة كجزء من استراتيجية اقتصادية غير تقليدية يرى أنها ستشجع النمو. وأن أردوغان -الذي صعد إلى السلطة مناصرا للطبقة الوسطى في تركيا- يواجه تحديا خطيرا لحكمه منذ أن أصبح رئيسا للوزراء لأول مرة عام 2003، حسبما تقول الصحيفة.
لكن مؤيدي أردوغان يرون أن الرئيس التركي يواصل معركته الخطيرة ضد “الربا” رغم ضغطها على الليرة، وأنه مصرّ على رأيه بأن “الربا” خراب للاقتصاد الوطني، وأن خفض الربا يزيد من صادرات تركيا، ويضرب من يعيشون على الربا في تركيا وخارجها. ويؤكدون أنها أول خطوات العلاج والتعافي وبداية نهضة اقتصادية كبرى، مستندين لفيديوهات للرئيس أردوغان يشرح وجهة نظره الإسلامية حول الاقتصاد والربا.
معركة ضد الربا
ويبدو أن أردوغان مقتنع بضرورة تخفيض سعر الفائدة بعكس الكثير من معظم الخبراء الاقتصاديين والأكاديميين بمن فيهم بعض المقربين من الحزب الحاكم والحكومة.
مؤيدو أردوغان يرون أنه يواصل معركته الخطيرة ضد “الربا” رغم ضغطها على الليرة، وأنه مصرّ على رأيه بأن خراب للاقتصاد الوطني
وسبق أن استخدام كلمة “النص” في أحاديثه الأخيرة فيما بدا وكأنه تناول للأمر من زاوية دينية (الربا) وليس فقط اقتصادية (الفائدة)، لكن ليس واضحاً بعد ما إذا كان هذا الاستخدام نابعا من قناعة مستجدة لدى أردوغان أم في سياق تسويغ رؤيته وإقناع الآخرين بها.
لذا فحرب أردوغان هي على الربا، وسعيه إلى تخفيض الفوائد الربوية حرب عالمية انبرى لها أمام تسلط الرأسمالية المتوحشة كما فعلت دول أخرى مثل اليابان، لكن لا حديث لأعداء النجاح إلا عن سعر الليرة التركية.
وخلال كلمة له في اجتماع الكتلة النيابية لحزبه (العدالة والتنمية) في البرلمان التركي بالعاصمة أنقرة 17 نوفمبر 2021 أعلن أردوغان أن حكومته عازمة على إزالة “آفة الفائدة” المرتفعة عن عاتق شعبها، وقال: “الفائدة هي السبب، والتضخم هو النتيجة”، وأوضح أن حكومته “لن تسمح بأن يكون شعبها ضحية لمعدلات الفائدة المرتفعة”.
وأضاف: “لا يمكنني أن أمضي في هذا الطريق مع من يدافع عن الفائدة، وما دمت في هذا المنصب، فسأواصل كفاحي ضد الفائدة والتضخم حتى النهاية”.
وأبدى أردوغان مرات عدة مرات معارضته لنسب الفوائد المرتفعة التي يصفها باستمرار بأنها “أصل كل الشرور وأنها تشجع التضخم”.
ويتساءل المراقبون: من ينتصر.. أردوغان ونظريته الاقتصادية التي تتصادم مع آراء الاقتصاد الرأسمالي وداعميه في تركيا، أم أعداء تركيا الذين يسعون لهدم الاقتصاد التركي وسحب الاستثمارات الأجنبية للضغط عليه ضمن أهداف سياسية تستغل الليرة في المعركة؟
ما سبق يطرح تساؤلا وهو: هل الانخفاض الحاد في الليرة يرجع لاستهداف سياسي داخلي وخارجي ضد تركيا من لوبيات الفساد العالمية أم ماذا؟ وكيف يؤثر هذا على أردوغان سياسيا؟
ويلاحظ هنا أن صحيفة فايننشال تايمز البريطانية نقلت عن رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاجارد (رئيسة صندوق النقد السابقة) قولها 18 نوفمبر 2021 إنها ترفض رفع أسعار الفائدة بالرغم من التضخم الذي تشهده أوروبا وترى الزيادة تضر ولا تنفع
وهو ما يطرح سؤالا حول أسباب الصراخ من قرارات أردوغان بخفض الفائدة والربا بينما أوروبا نفسها ترفض زيادة أسعار الفائدة كعلاج للتضخم، صحافتها ومحللوها الماليون يجلدون أردوغان لتبنيه نفس الموقف؟
هل الانخفاض الحاد في الليرة يرجع لاستهداف سياسي داخلي وخارجي ضد تركيا من لوبيات الفساد العالمية أم ماذا؟
أزمة الليرة الأخيرة
كان خفض سعر الفائدة على الليرة يوم 18 نوفمبر 2021 هو الثالث في غضون ثلاثة أشهر، وجاء بعد أن أقال الرئيس عددا من كبار المسؤولين الذين عارضوا رؤيته الاقتصادية غير التقليدية.
وفقا لـ “وول ستريت جورنال فإن “خسارة الليرة أكثر من ثلث قيمتها خلال الشهور الثمانية الماضية، وصعود التضخم ليقترب من 20% وتأثيره على الأجور، وارتفاع تكلفة السلع الأساسية مثل الغذاء والدواء والطاقة قد يؤدي إلى تآكل تأييد أردوغان، وإبعاد الناخبين الذين كانوا يدعمونه”.
ففي السنوات الأخيرة، شهد الاقتصاد التركي اضطرابات بسبب الانقلاب العسكري الفاشل عام 2016، وعدم الاستقرار الناتج عن الحروب في العراق وسوريا المجاورتين، وتراجع السياحة أثناء الوباء “لكن الاضطرابات الحالية تشكل مجموعة فريدة من المخاطر لأردوغان”، بحسب الصحيفة.
ووفقا لمؤسسة ميتروبول التركية لاستطلاعات الرأي، انخفضت نسبة تأييد الرئيس إلى 38.9% في أكتوبر بانخفاض 2.5 نقطة مئوية عن الشهر السابق ودعا هذا زعماء المعارضة، إلى إجراء انتخابات مبكرة فورا.
تنص المادة 101 من الدستور التركي على تحديد المدد الرئاسية بفترتين غير قابلتين للتجديد، وهو ما يعني عدم تأهل أردوغان للترشح مرة أخرى لمنصب الرئاسة في تركيا، بعد انتخابه مرتين في 2014 و2018.
وتنص المادة 106 على أنه في حالة حل البرلمان والتحرك لإجراء انتخابات مبكرة فإن ولاية الرئيس الجارية لا تحسب، ويمكن للرئيس الحالي الذي يمضي فترة ولاية ثانية أن يترشح مجددا، ولم يقل إردوغان ما إذا كان يرشح نفسه مرة أخرى أم لا.
وحول أسباب انهيار الليرة تحدث عبد الله العمري -مؤسس ومدير مجموعة SAJA والاستثمارات التابعة لها في تركيا- في سلسلة تغريدات على تويتر عن تكهنات متعددة لانهيار الليرة، منها “استهداف سياسي ضد تركيا من لوبيات الفساد العالمية”. ومنها من يرون أنه ضعف بنيوي في الاقتصاد التركي أو أنها أخطاء اقتصادية للرئيس أردوغان.
وأوضح أن الاقتصاد التركي اعتمد منذ 2003 على مشاريع تنموية قوية جعلت الحكومة تسدد ديونها الخارجية، لكنها سمحت بالاقتراض والاستثمار الخارجي للقطاع الخاص والبنوك؛ لأنها أعطتها حقوق تنفيذ المشاريع، وكان لذلك أسباب سياسية واتفاقات اضطرت الحكومة لإبرامها لتحقيق هدف تنموي معين؛ وهو ما جعل الاقتصاد رهين الاستثمار والدين الخارجي.
لكن عندما أظهرت تركيا تمردا معينا على اللعبة الدولية منذ 2014 جاءت محاولة الانقلاب الفاشلة 2016 ثم بدأ سحب الاستثمارات، وظهر أثر الديون الذي بلغ أشده عام 2018.
وأوضح أن الخطة نفذت وبدأ سحب الاستثمارات وضغط الديون التي سببت شبه انهيار في سعر الليرة؛ لأنه كان في بنية الاقتصاد التركي ما قبل تلك الفترة خلل مالي خطير سواء كانت الحكومة مرغمة عليه لبلوغ أهدافها أم.
ولكن الاقتصاد التركي تلقى الضربة المؤلمة التي أزالت أكثر من 35% من قيمة الليرة ووصلت 7 أمام الدولار وعاد للوقوف عام 2019 وعادت الليرة لمستويات 5.5 قبل نهاية العام.
ثم جاءت أزمة كورونا وما تبعها، وكان حل البنك المركزي التركي هو رفع نسب الفائدة للسيطرة على التضخم وسعر الليرة؛ وهو ما كان يتمناه كبار المستثمرين الأجانب والرأسماليين وطبقة كبار أصحاب الأموال الفاسدين؛ حيث كان يمكنهم الحصول من أموالهم المودعة في البنوك على فائدة قدرها 24% بسهولة.
وقد كرس هذا الوضع التضخم ومنع الاقتصاد من النمو الحقيقي، وقلص الوظائف، وجعل الليرة تراوح مكانها، ولا تعود لوضعها وقيمتها الحقيقية؛ فزيادة الفائدة ماهي إلا مسكن للألم يترك المرض يفتك بالجسد وليس في صالح الأعمال والاقتصاد والناس على المدى الطويل.
يبدو أن السبب الرئيس في تراجع الليرة أمام الدولار هو الاقتراض الربوي الذي أقدمت عليه الشركات التركية 2008م، وما زالت تدور في فلكه لسداد الديون
لذا دخل الرئيس في خلاف مع محافظي البنك المركزي، وأبدى إصراره على خفض الفائدة، ولو كلفه ذلك سياسيا في الداخل مؤقتا؛ لأن الرئيس والمتفقين معه يراهنون أن خفض الفائدة رغم خفضه المباشر لليرة سيعيدها والاقتصاد معا في المدى المتوسط والبعيد.
وقد أشار لذلك أحد المحللين الماليين منذ أشهر حيث قال: “لا بد لليرة حتى ترتد للصعود مرة اخرى أن تصل أولا لما فوق 10 مقابل الدولار”، وتوقع ذلك البنك المركزي منذ أول العام.
الاقتراض سبب
مشكلة الليرة التركية -كما يرى خبراء- تتمثل في اقتراض الشركات الخاصة بكثرة من البنوك الأجنبية.
فالبنك المركزي التركي أعلن أواخر عام 2016 أن ديون الشركات التركية بالعملة الأجنبية بلغت نحو 210 مليارات دولار، بينما بلغ معدل التدوير (rollover ratio) أكثر من 160%، وهذه النسبة معناها أن الشركات التركية غير قادرة على التوقف عن الاقتراض، وإلا فإنها ستواجه الإفلاس؛ لأن معدل التدوير يعني أن كل 100 دولار مستحقة على تلك الشركات تم اقتراض 100 دولار أخرى لتمويل دفعها، بالإضافة إلى 60 دولارا أخرى إضافية عليها.
لذلك يبدو أن السبب الرئيس في تراجع الليرة أمام الدولار هو الاقتراض الربوي الذي أقدمت عليه الشركات التركية في أعقاب 2008م، وما زالت تدور في فلكه لسداد الديون والفوائد.
ضد تركيا
خبراء اقتصاد آخرون يرون أن ارتفاع الدولار الحالي ليس متعلقًا فقط بالهجمة الاقتصادية على تركيا؛ بل يعود جزء منه لسياسة مالية تنتهجها تركيا؛ إذ تقوم بخفض الفائدة لتقليل سعر العملة التركية أمام الدولار، لتشجيع التصدير.
انخفاض القدرة الشرائية يؤثر كثيراً على الناخب التركي وقراراته، وهو رهان صعب يعمل أردوغان على موازنته
والدليل على هذا أن نسبة التجارة التركية من التجارة العالمية بلغت 1% من التجارة العالمية لأول مرة أكتوبر 2021؛ وهو أمر مشجّع لهذه السياسية التي ينتهجها أردوغان، ويقولون إنه بعد خفض الفائدة وارتفاع الدولار رفعت “فيتش” توقعها للنمو في تركيا من 7.9% إلى 9.2%، لكن هناك مخاطر لهذه السياسية، وهي التضخم الكبير، والذي تفكر الحكومة بمواجهته من خلال رفع الحد الأدنى للرواتب إلى 4 آلاف ليرة، ومن خلال تقليل الضرائب.
أما انخفاض القدرة الشرائية فهو يؤثر كثيراً على الناخب التركي وقراراته، وهو رهان صعب يعمل أردوغان على موازنته.
لذا فمن الأسباب الرئيسة لارتفاع الدولار مقابل الليرة التركية، إصرار أردوغان على عدم رفع نسبة الربا ومحاربة هذه الآفة، واستمرار مضاربة قوى داخلية وخارجية على الديون التركية بغرض هدم اقتصادها لأسباب سياسية لمنع الدولة العثمانية الجديدة من العودة لقوتها.