الرفق هو ذلك الشعور الذي يدفع الإنسان للعطف وبذل الحنان إلى الآخرين.. والترفق فعل الأمر بشيء من التلطف والعناية.
وحقيقة الرفق جامعة لكل هذه المعاني: فهو العطف والعناية وبذل الحنان والوصول في تلطف إلى ما فيه المصلحة للآخرين ولو بدا لهم الأمر على خلاف ما يشتهون.
وبعض الناس يخطئ في تصويره للرفق، سواء تصوراً عقلياً أو سلوكياً، فينطلق من تصور عقلي خاطئ بأن اللين قد يُطمع فيه الآخرين، وقد يجعله لقمة سائغة لأصحاب المطامع وفريسة سهلة للمتربصين، فتراه يقسو سلوكياً في معاملته، لا غرض له إلا الردع وفرض الأمر الواقع الذي يريد.
وهذا لمن لا يتأمل الحقائق ويدرك العواقب منطق قد يبدو مستقيماً مقبولاً.. أما النظر الشرعي فيقرر التالي:
أولاً: الرفق فضيلة في كل حال ولا يمكن أبداً أن ينتج إلا خيراً، واستبدال العنف والقسوة بالرفق لا يمكن أن ينتج خيراً.
ثانياً: أن الرفق لا ينافي بحال الحسم في مواضعه.
ثالثاً: أن الرفق قد يبدو لضعاف البصيرة غاية القسوة، وهذا يحتاج لتأمل.
أما أن الرفق فضيلة تنتج الخير دائماً، فقد قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: «ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه» (متفق عليه عن أم المؤمنين عائشة).
وقصة الحديث أن أم المؤمنين عائشة ركبت بعيراً، فكانت فيه صعوبة، فجعلت تردده (أي تشتد عليه وتقسو)، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليك بالرفق، إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه».
ولا يخفى ما في هذا من التأدب بالرفق حتى مع الحيوان، وهذا المعنى مبثوث كثيراً جداً في السُّنة النبوية، وهو أجلى من أن نفصل فيه.
وهناك قصة أخرى للحديث أوردها الشيخان، وهي أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السام عليك، قال: «عليكم»، فقالت عائشة: السام عليكم، ولعنكم الله وغضب عليكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مهلاً يا عائشة، عليك بالرفق، وإياك والعنف، أو الفحش»، قالت: أولم تسمع ما قالوا؟! قال: «أولم تسمعي ما قلت؟ رددت عليهم، فيستجاب لي فيهم، ولا يستجاب لهم فيّ» (متفق عليه عن عائشة أم المؤمنين).
وهذه القصة الثانية تشير بوضوح للمعنى الثاني من أن الرفق لا ينافي بحال الحسم في مواضعه، فقد أجاب النبي صلى الله عليه وسلم بمنتهى الحسم عن قولهم، ورد دعاءهم عليهم، لكنه لم يفحش ولم يلعن، حاشاه صلى الله عليه وسلم.
وهذا المعنى أيضاً نجده كثيراً في السُّنة النبوية، فعن أبي مسعود الأنصاري عقبة بن عمرو قال: كنت أضرب غلاماً لي، فسمعت من خلفي صوتاً: اعلم أبا مسعود، لله أقدر عليك منك عليه، فالتفت فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، هو حر لوجه الله، فقال: «أما لو لم تفعل للفحتك النار، أو لمستك النار» (أخرجه مسلم عن أبي مسعود).
فهذا ردع في منتهى الحسم ومنتهى الترفق واللين في الوقت ذاته.
ولما ساب أبو ذر رجلاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعيَّره بأمه، فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يديه، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم» (متفق عليه عن أبي ذر).
وبنفس المنطق النبوي الكريم، منتهى الحسم ومنتهى الرفق واللين في النصيحة.
وهكذا يحمل الإسلام في تعاليمه الربط الدقيق بين الرفق كمبدأ عام في كل الأمور، والحسم والحزم، الأمر الذي قد يخفى على ضعاف البصائر.
بل إن الرفق يتمثل في أعلى معانيه حين يتوجه للجماعة العامة بتشريعات غايتها حفظ الأمة وحمايتها، الأمر الذي يبدو لضعاف البصائر غاية القسوة، والمثال الظاهر على هذا الحدود والعقوبات المقررة على جرائم معينة، فالسارق حين تقطع يده ففي ذلك عين الرحمة بالمجتمع، والقاتل حين يقتل ففي ذلك عين الرحمة بالمجتمع، وصدق الله: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 179).
والذين يهاجمون هذه التشريعات بدعوى قسوتها، انظر إلى أحدهم حين يرى زوجته في فراش غيره، أو حين تمتد يد لص إلى ماله الخاص، أو حين يعتدي معتد على ولده بالقتل.. إنه لا يكفيه في هذه الأحوال إلا أن يقتل هذه الخائنة وعشيقها، وأن يقطع يد هذا السارق، وأن يقطّع إرباً من قتل ولده، وهذا فقط ما يطفئ ناره ويشفي غليله.
ذلك هو الاختبار الحق، بعيداً عن التنظير الفارغ والفلسفة المؤدلجة التي تضاد الدين.
إنه، إن صدق طلب الحق، فسيعلم أن هذه التشريعات هي عين الرحمة والرفق بأمة تريد الخير لعمومها، ولا تحابي، ولا تفرق بين الناس إلا بالعمل الصالح النافع، ولن يملك إلا التسليم لمنطقها.
وأخيراً، لا أجد دعوة للرفق أوضح من دعاء النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: «اللهمَّ مَن ولِيَ من أمر أُمَّتي شيئاً فَشَقَّ عليهم فاشقُق علَيه، ومَن ولِيَ من أمر أُمَّتي شيئاً فَرَفَقَ بهم فارفُق به» (أخرجه مسلم عن عائشة أم المؤمنين).