د. محمد يوسف عدس
تبدأ القصة في عهد بن جوريون، منشئ «إسرائيل» وأول رئيس وزراء لها؛ فقد حاول أن يزّود «إسرائيل» بسلاح غير تقليدي، رادع لكل القوى العربية المحيطة به حتى لو اجتمعت كلها على غزو «إسرائيل»؛ فقد كانت عقيدته أن الدول العربية يمكن في أي صدام عسكري أن تتحمل أكثر من هزيمة ثم تنهض مرة أخرى لتستعيد قواها، ولكن «إسرائيل» مصيرها معلّق بهزيمة واحدة لتنتهي بعدها من الوجود؛ فليس لديها فرصة أخرى لإعادة البناء!
لهذا كان سعيه الحثيث وإصراره على أن تمتلك «إسرائيل» القوة النووية، ولكن الولايات المتحدة في ذلك الوقت كان رئيسها جون فيتزجرالد كينيدي، الذي رفض رفضاً قاطعاً أن تمتلك أي دولة في الشرق الأوسط قنبلة نووية بما في ذلك «إسرائيل».
ولم يكن هذا بدافع من عدائه لها؛ فقد كان جون كينيدي مؤيداً لـ«إسرائيل»، ومدافعاً عن وجودها وسلامتها وأمنها، ولم يبخل بإعلان هذا صراحة في أكثر من مناسبة، ولكنه كان يعتقد أن انفراد أمريكا بالقدرة النووية سيحافظ على سيطرتها المطلقة واستقلال إرادتها كاملة فيما يتعلق بالقرارات المصيرية في الشرق الأوسط وفي العالم، وكان يخشى أن توِّرط «إسرائيل» نفسها في مواجهات مع أعدائها، وتجرجر أمريكا للتوّرط في حروب ضد إرادة الشعب الأمريكي والإدارة الأمريكية.
وعندما ألح بن جوريون على مطلبه ولم يستجب له كينيدي، لم يشأ أن يخرج من مساوماته خالي الوفاض؛ فطالب بتزويد «إسرائيل» بأحدث المستجّدات الأمريكية من أسلحتها التقليدية، فلم يمانع كينيدي، ومع ذلك وضعت «إسرائيل» اسم جون كينيدي على صفحتها السوداء وتآمرت على قتله والتخلص منه، خصوصاً بعد أن تأكد بن جوريون أن كينيدي لن يقبل بأقل من السيطرة الأمريكية الكاملة على قرارات الحرب والسلام في الشرق الأوسط.
وكان هذا واضحاً في موقفين؛ الأول: أنه في عهده امتنعت أمريكا من استخدام حق «الفيتو» لأول مرة في تاريخها لإبطال قرار مجلس الأمن بإدانة «إسرائيل».
والثاني: عندما سعى شيمون بيريز سراً للحصول على التكنولوجيا النووية من أصدقائه في الحكومة الفرنسية، فلما ووجه بن جوريون بمعرفة أمريكا، تعلّل بأنها لأغراض سلمية بحتة؛ الأمر الذي لم تستسغه ولم تصدقه إدارة الرئيس كينيدي، وطلبت من «إسرائيل» إخضاع عملياتها في هذا المجال لتفتيش ورقابة المنظمة الدولية للطاقة النووية، وهذا ما رفضته «إسرائيل» بشدة، وتظاهرت بقبول تفتيش الولايات المتحدة فقط لمركز الطاقة النووية عندها في ديمونة، وقد عرفنا مؤخراً تفاصيل الخدعة «الإسرائيلية»؛ حيث أخفت مركز التحكم في إجراءاتها النووية وراء مبنى جديد، يظهر إجراءات تحكم، تعطي بيانات مزيفة عن عمليات طاقة نووية للأغراض السلمية فقط.
والمهم أن بن جوريون في النهاية نجح في التخلّص من جون كينيدي باغتياله في أغسطس 1963م عن طريق رجال مخابراته وعملاء «إسرائيل» الصهاينة في المخابرات الأمريكية، وبمساندة وخيانة نائب الرئيس الأمريكي جونسون الذي ورث السلطة بعد مقتل كينيدي، الذي سّخر إمكانات الولايات المتحدة لخدمة المخططات الصهيونية في منطقة الشرق الأوسط، ومنها دوره الإجرامي في حرب عام 1967م.
فلم يكن هدفه تدمير القوة العسكرية لمصر فقط؛ فقد قامت «إسرائيل» بهذه المهمة بكفاءة عالية في 6 ساعات لا 6 أيام! وإنما كان الغرض هو تدمير مصر وتدمير مستقبلها لعشرات من السنين القادمة بحيث لا يخرج منها قيادات ذات تأثير في جماهير الأمة العربية والإسلامية، تجد فيها شعوب العالم الثالث أملاً ووسيلة للتلاحم والنهوض من كبوة التخلّف وبناء قوى موحدة ومتآزرة ضد المخططات الأمريكية الصهيونية في العالم، ووضع العراقيل في طريق حريتها وحركتها في تشكيل العالم ونهب ثرواته وإخضاع شعوبه كما تشاء وتهوى.
وقد بدأت تظهر بالفعل -في عهد عبدالناصر- صنوف من العراقيل في وجه الزحف الأمريكي، من قبيل: الوحدة العربية، وحركة الحياد الإيجابّي وعدم الانحياز، التي كانت تحظى بدعم من الكتلة السوفييتية، بينما تجني ثمارها بانتشار أيديولوجيتها الاشتراكية، وقواعد عسكرية على سواحل البحر المتوسط، مما لم تكن تحلم به روسيا لولا ظهور حليفها عبدالناصر في المنطقة.
كانت أطماع ليندون جونسون أوسع من مجرد استئصال مصر من معادلة القوة في الحرب الباردة؛ إذ كان يتوقع أن تتدخل روسيا لحماية مصالحها المهددة في المنطقة لو نجحت أمريكا في خطتها الاستئصالية، ولذلك كان جونسون قد استعد لهذا الاحتمال ووضع قواته النووية في حالة استعداد للانطلاق إلى أهداف عسكرية في الاتحاد السوفييتي.
وهنا يأتي دور الهجوم «الإسرائيلي» على السفينة «ليبرتي»، إذ كان الاتفاق قائماً بين جونسون، وبن جوريون على أن يتم تدمير السفينة وإغراقها بضربة واحدة وإنهاء حياة كل من كان على متنها حتى لا يبقى شاهد واحد يحكي قصتها، وبذلك يسهل اتهام مصر بأنها هي التي أغرقت السفينة، وتجد أمريكا حجتها سهلة في ردع مصر بسلاحها النووي، ثم لتستدير بعد ذلك إلى العدّو السوفييتي للقضاء عليه.
وكان هذا يتوافق تماماً مع أحلام «إسرائيل» التلمودية، في الوصول إلى السيطرة على العالم بعد أن تقضي القوتان العظميين كل منهما على الأخرى، حتى ولو تدفقت الدماء أنهاراً من ملايين البشر على الجانبين، فكل هذا مقبول في الوعود التلمودية لبنى إسرائيل.
ولكن يشاء الله أن تفشل «إسرائيل» في إغراق السفينة «ليبرتي»، ويضطر جونسون للتراجع -في آخر لحظة- عن تنفيذ خطته الجهنمية في ضرب القاهرة بالقنابل النووية؛ وذلك لأن الخبر الحقيقي تفشى بين قادة القوات المسلحة الأمريكية؛ من الطاقم الأمريكي على ظهر «ليبرتي» الذين شاهدوا الطائرات والزوارق «الإسرائيلية» المهاجمة، وسجلوا صورها.
وبقيت الخسائر وأرواح الضحايا في رقبة «إسرائيل» لتعتذر عنها، ويتم تلفيق القضية في أمريكا، وتكميم أفواه من أرادوا الإفصاح عما شاهدوه بأعينهم، ولكن مع مرور الزمن، بقي من شهود العيان عدد من رجال الحرب والمخابرات والكتَّاب والصحفيين أدلوا بشهاداتهم.
______________________________
المصدر: الموقع الرسمي للمفكر المصري الراحل محمد يوسف عدس.