بين الفينة والأخرى تظهر علينا بعض الأصوات التي تتبع الفكر الصهيوني، حتى وإن كان بعض هذه الأصوات يتكلم بلساننا ومن أبناء جلدتنا، بشبهات تحاول أن تهز علاقتنا بفلسطين والقدس والمسجد الأقصى المبارك، وتحاول أن تثبت أن هذه الأرض ليست مقدسة لنا، وأن أمتنا أخطأت في رسم علاقتها العميقة بهذه الأرض على مدى أربعة عشر قرناً من الزمان، ليأتي بعض فطاحل عصرنا اليوم و«يصححوا» الخطأ التاريخي الذي مر على مئات آلاف، بل ملايين العقول على امتداد أكثر من ألف وأربعمائة عام!
في منتصف عام 2020م، نشر موقع «رصيف 22» مقالاً للكاتب المصري محمد وهبة بعنوان «هل المسجد الأقصى هو نفسه الهيكل اليهودي؟»، أثار يومها زوبعة من ردود الفعل؛ نظراً لحشده عدداً كبيراً من الأسماء والمصادر التي اعتمد عليها الكاتب ليثبت أن الأصل في المسجد الأقصى المبارك هو ما يعرف باسم «الهيكل» منسوباً للديانة اليهودية، وكانت بعض الرسائل تصلني بهذا الخصوص تشير إلى ضرورة وجود مادة مرجعية تبحث في مثل هذه الشبهات وطبيعتها ومدى قوتها أو تهافتها.
وللحق، فإنني لدى قراءتي المقال لم أتبين سبب الضجة التي قامت لأجله، فالرد على كل نقطة وردت فيه كانت مسألة أحسبها سهلة واضحة، لولا أن أحد الأصدقاء الكرام أشار إلى أن هذه الردود قد تكون واضحة للمتعمقين في هذا المجال، ولكنها قد تشتبه على كثير من غير المختصين وغير القراء، خاصة عندما تكون الكتابة موجهة باتجاهات محددة مسبقاً ومسبوكة بطريقة توهم القارئ غير المتبحر أنها علمية.
وبناء على ذلك، فإنني أنوي في هذه السلسلة أن أشير إلى بعض هذه الشبهات التي تجدها مبثوثة على صفحات شبكة الإنترنت والصحف من قبل شخصيات بعضها أكاديمي وبعضها ينتحل الأكاديمية بينما هو مجرد كاتب أو أديب أو صحفي.
وأجمل هنا الردود على هذه الشبهات ابتداء ضمن هذه السلسلة بإذن الله رب العالمين.
ومع أن العادة درجت على ألا يهتم الأكاديميون بأطروحات غير الأكاديميين، فإني هنا اخترت الرد على بعض من يشتبه القراء بكتاباتهم أو لقاءاتهم ومحاضراتهم ويظنونها أكاديمية علمية تبعاً لأسلوب عرض الشخص مادته أمام الناس، وذلك مثل الأديب المصري يوسف زيدان الذي خرج عام 2015م على وسائل الإعلام المصرية ليهاجم تاريخ القدس ومكانتها الإسلامية ومكانة بل هوية المسجد الأقصى المبارك، ويهاجم صلاح الدين وتاريخ أمتنا.
أو بعض السياسيين مثل رئيس الوزراء «الإسرائيلي» بنيامين نتنياهو الذي خرج أكثر من مرة بأطروحات وادعاءات تاريخية في خطاباته الشعبوية السياسية.
هذا إضافة إلى البحث والرد على الأكاديميين من أمثال أمنون كوهين، ودانييل ساهاس، وشلومو دوف غويتين، وعوفير ليفني كافري، وهافا لاتسروس يافيه.. وغيرهم بما هو متعارف عليه في المجتمع العلمي الأكاديمي.
وسنتناول في كل مقال شبهة معينة يطرحها البعض ونرد عليها رداً مبسطاً سهلاً يبين ضعفها وتهافتها بإذنه تعالى، ويتبين معنا فعلاً كم هذه الأرض عميقة في تاريخنا وعقيدتنا ومفاهيمنا.
ففلسطين مهما ادعى البعض كانت لها على امتداد التاريخ الإسلامي أهمية كبرى، بدأت تترسخ منذ اللحظة الأولى التي صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم باتجاه المسجد الأقصى المبارك، وامتدت على طول حياته عليه الصلاة والسلام، ثم أبرزها أبو بكر الصديق رضي الله عنه خليفة رسول الله، وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب مع فتوح فلسطين، ثم ثبت الخلفاء والأمراء والقادة حقيقة ارتباط هذه الأمة بهذه البقعة الشريفة، من معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، مروراً بعبدالملك بن مروان، والوليد بن عبدالملك، وصولاً إلى أبي جعفر المنصور، والمأمون.
ثم ثبت صلاح الدين هذه الحقيقة بتحرير هذه الأرض، وتتابع التسابق بين الملوك في إبراز مكانتها من المماليك حتى العثمانيين إلى اليوم في ظل الاحتلال.
وهذه السلسلة ستتناول بعض الأفكار التي يحاول صهاينة الاحتلال وصهاينة أمتنا على حد سواء أن يغيروا بها هذه الحقائق، لتكون علاقتنا بهذه الأرض على أساس متين لا يتزحزح بدعوى من هذا أو كذبة من ذاك.