الحياء خلق عظيم من أخلاق الإسلام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (أخرجه البيهقي)، والحياء من أكثر الأخلاق التي تقي صاحبها السقوط أو الوقوع فيما قد يغضب الله عز وجل حياء منه سبحانه، وينفر النفس من الظهور بمظهر يعيبها أو ينقص منها، لذلك فقد جعله النبي صلى الله عليه وسلم شعبة من شعب الإيمان.
والحياء هو انقباض النفس من شيء وتركه حذراً عن اللوم فيه(1)، وقال ابن حجر: الحياء خلق يبعث على صاحبه اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من شعب الإيمان» (متفق عليه).
وقد رغب القرآن الكريم والسُّنة المطهرة في خلق الحياء بالكثير من الآيات وذكر المواقف التي تحبب المسلم فيه وتعلقه به، وتعد أصحابه بالخير والبركة، وتشيد بأهله، فقال تعالى: (فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (القصص 25)، قال الطبري: فأتته تمشي على استحياء؛ وهي تستحي منه(2).
وقال تعالى يصف حياء النبي صلى الله عليه وسلم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَٰكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ ۖ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ۚ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ۚ ذَٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ۚ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا) (الأحزاب: 53).
وعن ابن مسعود البدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت» (رواه البخاري)، وعن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحياء لا يأتي إلا بخير» (رواه البخاري ومسلم).
أنواع الحياء
قسم الفقهاء خلق الحياء لأربع أقسام، هي:
1- الحياء من الله:
الحياء من الله يقي صاحبه الانزلاق في المعاصي، فكلما تذكر العبد أن الله يطلع عليه ويراه ويسمعه، فيستحي منه ويعود عن فعله، فعنْ سَعِيدِ بن يَزِيدَ الأَزْدِيِّ، أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْصِنِي، قَالَ: «أُوصِيكَ أَنْ تَسْتَحِيَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا تَسْتَحِي مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ» (رواه الإمام أحمد في «الزهد»).
وعن أبي عبدالرحمن عبد الله بن مسعود الهذلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «استحيوا من الله حق الحياء»، قال: قلنا: يا رسول الله، إنا لنستحيي والحمد لله، فقال صلى الله عليه وسلم: «ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله أن تحفظ الرأس وما وعى، وأن تحفظ البطن وما حوى، وأن تذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحيا» (رواه الترمذي في جامعه وهو حديث حسن)، فالحياء من الله ليس مجرد قول، وإنما هو فعل وعمل وسلوك مع الله عز وجل يحفظ الإنسان من غضبه سبحانه.
2- الحياء من الملائكة:
الملائكة يحيطون بالإنسان وفي معيته دوماً، فهناك ملكان يلازمانه عن اليمين وعن الشمال يسجلون ما يفعل، وقد نبه الله سبحانه على وجود الملائكة حول الإنسان بقوله: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ {10} كِرَاماً كَاتِبِينَ {11} يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) (الانفطار)؛ يقول ابن القيم: «أي: استحيوا من هؤلاء الحافظين الكرام، وأكرموهم، وأجلُّوهم أن يروا منكم ما تستحيون أن يراكم عليه مَنْ هو مثلكم، والملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم، فإذا كان ابن آدم يتأذى ممن يفجر ويعصي بين يديه، وإن كان قد يعمل مثل عمله، فما الظن بإيذاء الملائكة الكرام الكاتبين؟!».
3- الحياء من الناس:
إنه لمن المحزن أن تجد بعض الشباب أو الفتيات يجاهرون بالمعاصي أمام خلق الله مستهينين بتلك المعصية، فمن التدخين، للتعرض لأعراض المسلمين، لإطلاق الأبصار في النساء، للتبسط في خلع الحجاب وإظهار مفاتن يجب على الفتاة إخفاءها، كل هذا بلا حياء أو خوف من رب العالمين، هذا غير الإفطار في نهار رمضان جهاراً نهاراً، والوقوف على قارعة الطريق ونواصي الشوارع وقت الجُمع وأثناء الجماعات، والمجاهرة بألفاظ تحمل السب والقذف، وقد رُوي أن حذيفة بن اليمان أتى الجمعة، فوجد الناس قد انصرفوا، فتنكب الطريق عن الناس، وقال: «لا خير فيمن لا يستحي من الناس»(3)، والحياء من الناس يقي صاحبه الغيبة والطعن والنميمة، فيقيها شر الذنوب.
4- الاستحياء من النفس:
ومن مظاهر احتقار النفس والتقليل منها أن يستحي المرء من الناس فلا يفعل ما يحقر من نفسه أمامهم، ثم هو لا يستحي من نفسه ويفعل القبيح إن كان بمفرده، ومن يفعل ذلك فهو يرى نفسه أقل من الخلق وأخس عند نفسه منهم، وصدق الإيمان إنما يختبر في الخلوات وليس في جمع من الخلق.
وسائل تحقيق خلق الحياء
الحياء خُلق بعضه فطري، لكن معظمه مكتسب يأتي بتدريب الإنسان نفسه عليه وإجبارها على التحلي بها، وفي سبيل الوصول لذلك الخلق العظيم هناك وسائل معينة للإنسان على نفسه:
– تقوية وتنمية آصرة الإيمان بالله تبارك تعالى، فكلما قوي إيمان العبد قوي حياءه، فعَنْ عَبْدِاللَّهِ بنِ عُمَر أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنْ الْإِيمَانِ» (رواه البخاري ومسلم).
– مراقبة الله عز وجل، فيقول الله تعالى: (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الحديد: 4)، والذي يستحضر مراقبة الله عز وجل في السر والعلن لا يجرؤ على الخطأ متعمداً، وهي أقوى وقاية من الذنوب والمعاصي ما كبر منها وما دق.
– مصاحبة أهل الحياء والتقى والصالحين من خلق الله، فالمرء على دين خليله، وعن أبي موسى أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: «إنّما مثلُ الجليسُ الصالحُ والجليسُ السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إمّا أن يُحذيَك، وإمّا أن تبتاع منه، وإمّا أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكيرِ إمّا أن يحرق ثيابك، وإمّا أن تجد منه ريحاً خبيثه» (رواه البخاري، ومسلم).
– تعهد الأبناء وتربيتهم على خلق الحياء، فمن شب على شيء شاب عليه، وما يغرس في الصغر يحفر في ذاكرة الإنسان، ومهما ابتعد فسوف يعود إليه يوماً، والحياء المطلوب من الأبناء ليس هو الخجل الذي يدعو للانزواء والخوف من ملاقاة الناس، فيخرج الولد ضعيفاً هزيلاً لا يجرؤ على اتخاذ مواقف جادة في حياته، وإنما المطلوب هو الحياء المحمود الذي يحترم فيه الصغير الكبير ويوقره، لكن يتحدث في الوقت المناسب، ويتخير الكلمات المناسبة.
__________________________
(1) التعريفات، الجرجاني، ص 94.
(2) جامع البيان، الطبي (18/ 221).
(3) أدب الدنيا والدين، الماوردي.