يُطلق مصطلح «العلاقات الإنسانية» على أساليب التعامل بين الناس وتفاعلهم في المجتمع الذي يعيشون فيه، في شتى جوانب الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية، ومرافقه العملية والتعليمية والأسرية،
وينطبق ذلك على المؤسسة أو المنظمة التي تجمع الناس في شكلٍ من أشكال التنظيم بغرض الوصول إلى هدف معين مشترك، فالعلاقات الإنسانية تتعلق بتفاعل الأفراد في جميع أنواع المجالات، ويُشاهد هذا التفاعل بصفة عامة في تنظيمات العمل، حيث يرتبط الأفراد بنوع من البناء والنظام الشكلي في سبيل تحقيق هدف معين من خلال الترابط والانسجام والتعاون فيما بينهم(1).
العلاقات الإنسانية في المفهوم القرآني
وأما العلاقات الإنسانية في المفهوم القرآني فتتبع قواعد وضعها الله عز وجل لتوضيح وتفصيل العلاقة بين المسلمين بعضهم بعضاً على وجه الخصوص، وبين الإنسان وأخيه الإنسان على وجه العموم، تحكمها أخلاقيات قرآنية تبين قمة الكمال الإنساني حين يترك لتأثير القرآن مساحة فاعلة وكافية في نفحة الطين لتطهرها وتزكيها وتسمو بها نفحة السماء ليكون إنساناً متوازناً.
يقول سيد قطب: والإنسان في نظر الإسلام كائن مترابط، فلا انفصال بين عنصر الطين وعنصر الروح فيه، ليس جداً خالصاً، ولا روحاً خالصاً، ولا انفصال بين شعوره وسلوكه ولا عمله وأخلاقه، ولا مثله وواقعه، ولا عقيدته وشريعته ولا دنياه وآخرته، كلها مزاج واحد وحبة واحدة جسمه وروحه وحدة جسمية وروحية في آن واحد وشعوره وسلوكه وحدة شعوريه سلوكيه معاً في ذات الوقت وعمله وأخلاقه وحدة عملية خلقية بلا انفصال، وعقيدته وشريعته شيء واحد هو الدين، ودنياه وآخرته جزءان متكاملان من حياة متصلة ليس في داخلها انقطاع.
وهو كائن متوازن، لا الجسد يغلب فيه على الروح ولا الواقع على الخيال لا نزعته السلبية على نزعته الإيجابية، لا دنياه على آخرته، لا ثقلته نحو الأرض ولا رفرفته للسماء ومن هذا الكيان المتوازن يتوازن الفرد والمجتمع والتصور والسلوك، حين يستقيم هذا التصور الواضح المعين في ضمير الإنسان، تستقيم حياته كلها على الأرض(2).
محددات العلاقات الإنسانية في الثقافة الإسلامية
وترتكز العلاقات الإنسانية على عدة قواعد:
– وحدة النشأة: يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (النساء: 1)، فالله هو الخالق لكل البشر مؤمنهم وكافرهم، خلقه كريماً، حراً في اختياره، ألهم النفس فجورها وتقواها، وبمقتضى حريته وكرامته ترك له حرية الاختيار.
– وحدة المصير: ومآل كل حي هو الموت في الدنيا، والموت ليس نهاية الكائن الحي، وإنما هو انتقال من مرحلة التكليف والاختبار، لمرحلة الحساب وجني الثمار، وحين يعلم الإنسان أن الموت ليس النهاية، وأن هناك ثواباً وعقاباً، وأن المظلومية في الدنيا ليست نهاية الأمر؛ تهدأ نفسه، وتستقيم حياته، ويسهل الصبر عليه، الصبر على المحن.
– وحدة الهدف: ومن ثقافة المسلمين الجامعة وحدة الهدف الذي يتمحور حول تحرير الإنسان من عبوديته لغير الله، وتحقيق معنى الاستخلاف في الأرض بإعمارها، ونشر راية التوحيد على الأرض بتحقيق شروط الخيرية المتمثلة في قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران: 110).
– التكافل الاجتماعي الإسلامي: والله عز وجل خلق الناس وهو قادر على أن يغنيهم جميعاً عن بعضهم بعضاً، لكنه سبحانه قد اختبرهم بما يقوي الروابط الاجتماعية بينهم، فلا يستطيع أحد أن يعيش في الأرض بمفرده، ولا يقدر على تحقيق معاني العبودية لله، أو تحقيق شروط الاستخلاف إلا من خلال جماعة إنسانية، حتى العبادات المفروضة على المسلمين لا تتحقق إلا من خلال جماعة واصطفاف وتكامل وتكافل.
فشرع الزكاة، والصدقات، والإقراض الحسن، وحرم الربا والسرقة، يقول تعالى: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا) (الإسراء: 26)، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم واصفا علاقة المؤمنين بعضهم بعضاً: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً» (رواه البخاري).
– المساواة: والأصل في الثقافة الإسلامية أن الناس متساوون في الحقوق، كما هم متساوون في الواجبات، ولا تمييز بينهم إلا بالتقوى والعمل الصالح، فلا أصل لتمييز الإنسان حسب لونه، ولا يعرف الإنسان العنصرية المقيتة التي دفعت الإنسانية للتحارب على مدى آلاف السنوات، يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13).
أدب العلاقات الإنسانية في ظلال الثقافة الإسلامية
لم يترك الله عز وجل العلاقات الإنسانية للهوى الإنساني الذي يتعرض للمتغيرات حسب الظرف القائم، وإنما حدده بمجموعة من القيم يتم تطبيقها مع كل فئة إنسانية يثاب عليها ويعاقب حسب تعاطيه معها، فأمر الله عباده قائلاً: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنـزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا) (الإسراء: 53).
– الأدب مع الوالدين: يقول تعالى: (وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ حُسۡنٗاۖ) (البقرة: 83)، وقد جعل برهما والإحسان لهما وطاعتهما في غير معصية واجباً شرعياً على كل مسلم.
– الأدب مع النفس: يقول الله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا {9} وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) (الشمس)، فيزكي نفسه ولا يوقعها في المعاصي، وينزهها عما قد يخجلها يوما وذلك بالطاعة وحسن التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم.
– الأدب مع ذوي الرحم: بالتودد لهم وصلة أرحامهم، وعدم منعهم حقوقهم التي شرعها الله عز وجل.
– الأدب مع الأبناء: تربيتهم وتقوى الله فيهم، وهم جزء من مسؤولية المسلم والمسلمة بموجب حديث عبدالله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته..» (رواه البخاري)، ومن حقوقهم الإنفاق عليهم وتعليمهم أمور دينهم وتهذيب أخلاقهم والعدل بينهم
– الأدب بين الزوجين: أن تكون العشرة بالمعروف، ووازن الإسلام في العلاقة بين الزوجين من حيث الحقوق والواجبات، فكل طرف له حقوق وعليه واجبات.
– أدب التعامل مع المسلمين: يستند التعامل بين المسلمين إلى خلق الرحمة والعدل والمساواة والتكافل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «حقُّ المسلم على المسلم ستٌّ: إذا لقيته فسلّم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعُده، وإذا مات فاتَّبعه» (رواه مسلم)، وقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم، كلُ المسلم على المسلم حرامٌ: دمه وماله وعرضه» (رواه مسلم).
– أدب التعامل مع غير المسلمين: لغير المسلم في المجتمع الإسلامي جملة من الحقوق تستند إلى مبدأ المعايشة التي لا تخل بالقيم الإسلامية ومظهر مجتمع المسلمين، ومن هذه الحقوق حق حفظ كرامته الإنسانية كإنسان، ومنها حق العدل والمساواة في المعاملات الاقتصادية والاجتماعية والأدبية، فيقول تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة: 8)، ومنها حقوق الاعتقاد والفكر استناداً لقول الله تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة: 256).
______________________
(1) أدب المعاملة في بناء العلاقات الإنسانية من منظور قرآني، ص3.
(2) سيد قطب، جاهلية القرن العشرين، ص 195.