في ظل احتياج الأمة لإعداد الداعية المعاصر الناجح (الشامل) الذي يستطيع العبور إلى قلوب المدعوين على اختلاف ثقافاتهم وطرق تربيتهم ومختلف بيئاتهم بسلاسة ويسر، نقدم في هذا المقال رؤية مصغرة عن جانب من الأدوات اللازمة لنجاح الداعية في مهمته الخطيرة لمساعدته في تحويل مسار أبناء الأمة إلى الوسطية السمحاء المعتدلة والمتوازنة، وذلك في محاولة لإعادة الأمة إلى مسارها الصحيح وثقافتها الأصيلة ومنبعها الصافي.
وحتى يقوم الداعية بتلك المهمة فيلزمه مجموعة من الأدوات والعوامل المساعدة، وتتطلب المهمة منه فهماً أعمق مما قد يتصور البعض، ويتطلب سعة اطلاع ومعارف تعينه على استيعاب المشكلات المتجددة من حوله، مع وجود العديد من الأفكار والمتغيرات المستمرة والتيارات العديدة، وكل منها يدعي أنه يملك مفاتيح الأمر، وأنه يملك الحقيقة الكاملة وحده، علاوة على الشبهات والأفكار المشوهة والانحرافات المعقدة والمؤامرات اليومية والإعلام الموجه.
فعلى الداعية المعاصر بين كل تلك الأمواج أن يمتلك الأدوات اللازمة لمواجهة كل هذا، والأمر لا يتوقف عند القراءات المتعددة في مجالات مختلفة، وإنما على الداعية أن يحيط بكل ما حوله من أفكار ومعلومات ومستجدات وقضايا تخص الأمة والعالم من حوله.
العلم والأرقام لغة العصر
الإسلام دين هداية بفروعها الأربعة؛ عقيدة وعبادة وأخلاق ومعاملات، فالقرآن ليس كتاب علوم، ولا كتاب جغرافيا أو تاريخ، ولا كتاب كيمياء، وليس مطلوباً من الدعاة أن يهرولوا لفهم كل نظرية علمية لإثبات وجودها بكتاب الله تدليلاً على صحته أو ربانية مصدره، ومع هذا، فقد أشار الله عز وجل بآيات علمية وكونية وأرقام ذات دلالات كبيرة لا يمكن التغافل عنها.
والداعية الناجح المتمرس يجب أن يفهم تلك الإشارات الربانية والمتناغمة مع الكون من حولنا، ولأن لغة العصر من حولنا اليوم لغة العلم والمادة والأرقام، فقد أصبح لزاماً على الداعية أن يؤتى بشيء من تلك العلوم، وأن تحوي ثقافته جانباً من أحدث ما وصل إليه العلم.
ومن هنا، ومن باب مخاطبة الناس على قدر عقولهم حتى تؤتي الدعوة أكلها، فيجب مخاطبة الناس والشباب خاصة باللغة التي يفهمونها، فالدين والعلم والخلق والإنسان مصدره واحد وهو الله عز وجل، فلا تعارض بين العلم المثبت المحقق والإسلام.
يقول د. زغلول النجار(1): ولكن الله تعالى يعلم بعلمه المحيط أن الإنسان سوف يصل في يوم من الأيام إلى زمن كزمننا الراهن يفتح فيه على الإنسان من أبواب المعرفة بالكون وسننه ما لم يفتح من قبل، فيغتر بالعلم ومعطياته وتطبيقاته في مختلف المجالات وبما يوصله ذلك إلى عدد من التقنيات المتقدمة التي تغرقه في ماديات الحياة فتنسيه الموت والحساب، والآخرة، والجنة، والنار، خاصة وأن هذه المفاهيم وغيرها من ركائز العقيدة قد اهترأت اهتراءً شديداً في معتقدات غير المسلمين؛ مما دفع كثيراً من علمائهم إلى إنكارها والسخرية منها.
ولكي يقيم الله تعالى الحجة على أهل عصر العلم والتقنية الذي نعيشه، أبقى لنا في محكم كتابه أكثر من ألف كونية صريحة، بالإضافة إلى آيات أخرى عديدة، تقترب دلالتها من الصراحة، وهذه الآيات القرآنية تحوي من الإشارات الكونية ما لم يكن معروفاً لأحد من الخلق في زمن الوحي، ولا لقرون متطاولة بعد زمن الوحي؛ مما يؤكد أن القرآن الكريم لا يمكن أن يكون صناعة بشرية، بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله، وحفظه بعهده في نفس لغة وحيه(2)، وصدق الله تعالى إذ يقول: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) (فصلت: 53).
لقد سقطت الأمة في كثير من الملفات التي تضمن وجودها واستمراريتها، منها القوة والإعداد التي أمر الله بها عباده، لكن الدعوة باقية إلى يوم الدين، وسيظل للدين دعاة لا يفتُرون، لكن مع النشاط والهمة والحماسة يجب أن تكون لغة الخطاب تناسب المدعو، أو يكون الداعية نفسه عاملاً من عوامل النفور، وإتقان بعض لغة العلم والإعجاز القرآني سوف يكون أداة قوية من أدوات الداعية عليه أن يغذي بها ثقافته.
المذاهب الفكرية المعاصرة
وقد تعددت المذاهب الفكرية الاجتماعية والعقدية والاقتصادية والسياسية وغيرها من المذاهب التي تتخذ الدين عدواً في منهجيتها، بل وحدث بينها وبين الشرائع السماوية كالمسيحية، على سبيل المثال، شقاق كبير، وذلك يعود لأسباب كثيرة، منها العداء القائم بالفعل بين الكنيسة والدين منذ عدة قرون؛ وذلك لموقف الكنيسة نفسها من العلم، فتكونت المذاهب ووضعت النظريات وتشكلت الجماعات لتطلق الدين للأبد ولتحدث الهوة السحيقة بين الدين والعلم.
وحين انتقلت العولمة لبلادنا حملت معها هذا العداء غير المبرر بالنسبة لنا كمسلمين، وسيظل كلام الله كما هو بغير تبديل أو تشويه إلى قيام الساعة مهما جرت المحاولات في هذا الشأن، واضطر الإنسان هناك أن يجد بديلاً يؤمن به عن الدين ليملأ به نفسه المجبولة على أن تعبد إلهاً قادراً على حمايتها، وبما أن الدين هناك يناقض العلم، فنشأت نظريات وحركات مثل الشيوعية والرأسمالية والقومية ليجد الإنسان ما يعبده من دون الله.
ويعلق على ذلك محمد قطب قائلاً: تسيطر اليوم أوروبا بكل قوتها على العالم كله، ومع السيطرة تتسرب مجموعة من الأفكار والمذاهب والمعتقدات، بل الخرافات كذلك -كخرافة الطبيعة الخالقة، والمادة الأزلية الأبدية المتطورة- فتنصب في أذهان الشعوب التي غلبت عليها أوروبا، إما عن طريق التسرب التلقائي الذي ينشأ من تقليد المغلوب للغالب، وإما عن طريق الغزو الفكري المتعمد، الذي يبثه الغالب في فكر المغلوب ليضمن تبعيته له وعدم خروجه على طاعته.
ولم تكن سيطرة أوروبا السبب الوحيد في الحقيقة لهذا التسرب التلقائي أو ذلك الغزو الفكري، إنما كان هناك سبب لا يقل أهمية عن هذه السيطرة؛ هو غياب البديل الذي يمكن أن يأخذ مكان هذه الأفكار والمذاهب والخرافات إذا تبين عدم جدارتها بالاتباع، بل الذي يحول أصلاً دون التوجه إليها واتباعها في حالة وجوده، وتعني به الإسلام؛ ذلك أن غيابه يعطي هذه المذاهب والأفكار في نفوس الناس حجية الأمر الواقع وثقل الأمر الواقع؛ أي أنها تصبح في حس الناس جديرة بالاتباع لا لجدارتها الذاتية، ولا لأنها في ذاتها صحيحة، ولكن فقط لأنها موجودة بالفعل، والبديل غير موجود(3).
ومن غير المعقول أن يكون مطلوباً من الداعية أن يواجه تلك الأفكار الغريبة بمخاطبة العقل والمنطق وليس الوجدان الغائب أساساً، وهو لا يعلم عنها شيئاً، بل يجب عليه أن يكون ملماً بمدخلاتها، وبالرد عليها كي يكون مقنعاً لمعتنقيها دون علم أو خبرة أو لمجرد التقليد الأعمى لثقافة واردة.
دراسة الواقع المعاصر ومتابعة الأحداث الجارية
والواقع المعاصر له فروع متعددة، منه ما يتعلق بمسائل العولمة والغزو الفكري والعلمانية ومخططات الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي والبرامج الموجهة، ومنها ما يتعلق بحال الأمة الداخلي من صراعات وحروب تكاد تشتعل بين كافة الأقطار المسلمة، وبين المذاهب القائمة فيها، وتشتيت جهد المسلمين في قضايا جانبية، بينما مقدساتهم ما زالت ترزح تحت الاحتلال.
كذلك على الداعية أن يعرف أخبار المسلمين في كل مكان خاصة في الدول التي يمثلون فيها أقلية للحديث عنهم والتعريف بهم، وكلما توسعت ثقافة الداعية في تلك المجالات؛ كان جهده أقرب للنجاح والتوفيق.
إن من أعظم المهمات على الإطلاق وظيفة الدعوة إلى الله، وإعداد الداعية لذاته كي يكون مؤهلاً للقيام بمهمته، وهي مهمة شاقة وعليه أن يحتسب وقته وجهده لله، فليعد ما استطاع للإعداد سبيلاً متوكلاً على الله تعالى.
______________________
(1) عالم جيولوجي مصري، ولد عام 1933م، نبغ في أبحاث علوم الأرض، ودرّس في كثير الجامعات العربية والدولية، واشتهر بكتبه ودراساته وبرامجه التلفزيونية التي كرسها لكشف أوجه الإعجاز العلمي في القرآن والسُّنة.
(2) من آيات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، ص15.
(3) مذاهب فكرية معاصرة، محمد قطب، ص5.