الخطابة إحدى أهم أدوات التواصل عبر التاريخ الإسلامي بين الجمهور والدعاة والفقهاء والمفتين، حيث ارتبطت بشكل مباشر بالمنبر والمسجد الجامع، وخاصة منبر الجمعة، التي لا تزال تؤدي دورًا مهمًا في توجيه المجتمعات المسلمة دينيًا وثقافيًا واجتماعيًا، فمنبر الجمعة كان ولا يزال وسيلة لربط المسلمين بالمسجد الذي ينقل من خلاله تعاليم الدين ويعالج الأمور الفقهية وربما المجتمعية بشكل كبير.
ومن خلال التصور الحديث للعوالم التكنولوجيا، أصبح يمكن الآن الوصول إلى نطاق واسع لما نطلق عليه «التكنولوجيا المنبرية»، وذلك لمرحلة ما قبل الخطبة ومرحلة ما بعد الخطبة للمنابر؛ مما يفتح أفقًا واسعًا أمام شكل جديد للمنابر المعاصرة، وهي استخدام التكنولوجيا في توصيل الرسائل الخطابية والدينية بطرق أكثر تفاعلية وتمكنًا لجمهور المسلمين الواسع.
ويمكن القول: إن المنبر والخطبة بهذا الشكل التقليدي هي الوحيدة الباقية منذ العصر الإسلامي الأول التي لم تطور ولم يحدث لها أي تجديد حتى الآن؛ مما يجعلنا أمام إشكالية كبيرة في البناء المنبري الكبير في العالم الإسلامي بأسره.
أهمية المنبر عبر التاريخ
كانت المشاركة في منبر الجمعة واحدة من أهم المناسبات الأسبوعية التي تتسع لعدد كبير من المسلمين، حيث يستخدم الإمام المنبر لقضايا المجتمع وتفسير التعاليم الإسلامية، وشرح القضايا الشرعية بما يتناسب مع الأحداث وتوجيه الرأي العام أمام التحديات الأخلاقية التي تواجه المجتمع.
وقد خرجت كثير من الأحداث الكبرى من على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان بعضها يوم الجمعة، ومن هنا أصبح المنبر أداة توجيه كبيرة في الأعياد ورمضان ويوم الحج الأكبر، وتتشكل عبرها تغيرات تاريخية حدثت في التاريخ الإسلامي القديم منه والحديث وصولاً للتاريخ المعاصر.
من الخطب التاريخية على سبيل المثال:
1- خطبة الوداع (10هـ/ 632م):
خطبة الوداع التي ألقاها النبي محمد صلى الله عليه وسلم خلال حجة الوداع تعتبر واحدة من أهم وأشهر الخطب في تاريخ الإسلام، أُلقيت على جبل عرفات أمام مئات الآلاف من المسلمين، وكانت توجيهًا شاملًا للأمة الإسلامية.
2- خطبة الخليفة أبو بكر الصديق (11هـ / 632م):
عندما تولى أبو بكر الصديق الخلافة بعد وفاة النبي صلى اله عليه وسلم، ألقى خطبة قصيرة لكنها مؤثرة، ركزت على أهمية القيادة والخدمة، وشدد على تواضعه أمام الله وأمام الأمة.
3- خطبة عمر بن الخطاب في القدس (15هـ/ 637م):
عندما دخل الخليفة عمر بن الخطاب إلى القدس بعد فتحها، ألقى خطبة جمعة في المسجد الأقصى عبرت عن روح التسامح الإسلامي والعدالة.
4- خطبة الإمام الحسين بن علي في يوم عاشوراء (61هـ/ 680م):
في كربلاء، قبل استشهاده، ألقى الإمام الحسين بن علي خطبة مؤثرة دعا فيها إلى الحق والعدل وتحدث عن الظلم والفساد.
5- خطبة صلاح الدين الأيوبي في المسجد الأقصى بعد تحريره (583هـ/ 1187م):
بعد تحرير القدس من الصليبيين، ألقى صلاح الدين الأيوبي خطبة جمعة في المسجد الأقصى، وكانت خطبته تعبيرًا عن شكر الله على النصر والدعوة للتسامح مع غير المسلمين.
6- خطبة السلطان عبدالحميد الثاني (1889م):
في عهد الدولة العثمانية، ألقى السلطان عبدالحميد الثاني خطبة جمعة مؤثرة في وقت كانت فيه الدولة تواجه تحديات كبيرة من القوى الأوروبية، خطبته كانت دعوة إلى الوحدة الإسلامية ومواجهة التحديات الاستعمارية.
7- خطبة الملك فيصل بن عبد العزيز في المسجد الحرام (1973م):
في فترة السبعينيات، كانت الدول العربية تواجه العديد من التحديات السياسية والاقتصادية، ومنها الحرب مع «إسرائيل»، ألقى الملك فيصل بن عبدالعزيز خطبة في المسجد الحرام دعا فيها إلى الوحدة بين المسلمين والتحرك ضد العدوان الصهيوني.
تحديات تواجه خطبة الجمعة اليوم
على الرغم من الأهمية الكبيرة لمنبر الجمعة، فإن هناك تحديات تواجه استخدام المنبر التقليدي اليوم مقارنة بعالم التكنولوجيا الحديثة:
– الحدود الجغرافية: فما زال الخط العام لخطبة الجمعة هو النطاق الجغرافي العام المحيط بالمدينة أو القرية أو المنطقة السكنية المراد إقامة الشعائر بها، بالإضافة للعدد الذي بلغ به صحة قيام الجمعة.
– قصر الوقت: تكون في الغالب الخطبة قصيرة حيث فيها جلسة استراحة ومقدمة وخاتمة، وبها الدعاء، والدعاء هنا جانب تربوي ونفسي في غاية الأهمية، وبعض الخطباء يكثر من الدعاء في نهاية الخطبة الثانية مما يؤثر في نفوس المصلين لما في الدعاء من راحة نفسية عميقة تتخلل النفس بعد إفراغ جهد الدعاء وربما البكاء أثناء الدعاء.
– التفاعل المحدود: يستحيل التفاعل بين الجمهور والخطيب، سوى بترديد «آمين» أثناء الخطبة، وهي الوسيلة الوحيدة لقياس التفاعل، وهي وسيلة تفاعلية تظهر ارتباط الجمهور بالخطبة والخطيب.
أمثلة حديثة لتطوير خطبة الجمعة
– تجربة المملكة العربية السعودية: قامت المملكة بتطوير خطب الجمعة من خلال تنظيمها عبر هيئة رسمية تُعنى بتوحيد موضوع الخطبة على مستوى الدولة، كما تم استخدام التكنولوجيا لبث الخطب عبر الإنترنت للوصول إلى أكبر عدد ممكن من الناس.
– التجربة التركية: تم تطوير نظام الخطابة في تركيا عبر إنشاء منصات إلكترونية تحتوي على أرشيف خطب الجمعة، وإتاحة تطبيقات هواتف ذكية تقدم نصوص الخطبة مترجمة إلى عدة لغات.
مقترحات لما يمكن وصفة بالتحول نحو تكنولوجيا المنبر
بظهور التكنولوجيا الحديثة، تغيرت طرق التواصل بشكل جذري، مما أتاح للإمام قدرات تأثيرية أكثر فعالية في الوصول إلى الجماهير بشكل أوسع، ومن هنا يمكن تعريف «تكنولوجيا المنبرية الحديثة» بأنها وسيلة أكثر للانتشار والتفاعل والتأثير في توصيل الرسائل الخطابية بطرق متعددة، ومن أهمها:
1- البث المباشر عبر الإنترنت:
يمكن اليوم نقل خطب الجمعة وغيرها من المناسبات الدينية عبر الإنترنت؛ مما يسمح للجمهور في جميع أنحاء العالم بمتابعة المشاركة الفورية لحظة بالحظة هذا يتيح:
– توسع نطاق الجمهور حتى ولم يأخذ الثواب المباشر في النطاق الجغرافي المحدد فيها الصلاة.
– المشاركة في العمل الفعلي من خلال كتابة التعليقات.
– التوثيق والأرشفة لخطبة الجمعة والحدث وتاريخ المسجد الذي ألقيت فيه الخطبة.
2- استخدام الوسائط المتعددة في الخطبة:
يمكن للخطيب اليوم الاستفادة من وسائل بصرية وسمعية متعددة لتوضيح أفكاره وإيصالها بطرق مبتكرة ومفيدة، منها:
– العروض التقديمية: على الشاشات المحيطة في المسجد وداخلة باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي.
– الفيديوهات: المقاطع المبسطة التي تشرح بعض جوانب الخطبة بطريقة الجراف.
3- التطبيقات الذكية والتفاعل الرقمي:
هناك اليوم العديد من تطبيقات الذكية التي تسهل عملية الاستماع إلى الخطبة، بل وقراءة نصوص الخطبة، أو حتى الاشتراك في مناقشات دينية مع أئمة المسجد سحابياً من خلال هذه التطبيقات:
– الذكاء الاصطناعي في إعداد الخطب وتوثيقها؛ حيث يمكن أن تساهم تقنيات الذكاء الاصطناعي الحديثة في إعداد الخطب بشكل أسرع وأكثر تميزًا، واستدعاء خطب مماثلة عبر التاريخ تخدم الفكرة الهدف وذلك من خلال تحليل الواقع الاجتماعي الذي تلقي فيه الخطبة، وتقديم معلومات دقيقة عن كثير من الأحداث والتفسيرات القديمة ومقارنتها بالتفسيرات الحديثة، وإدراك سيكولوجية التعامل مع جمهور المستمعين.
يعد تطوير خطبة الجمعة ضرورة ملحة في العصر الحديث نظرًا للتغيرات التي يشهدها العالم، فبات واجب الوقت الاستفادة من التكنولوجيا الحديثة، مع تحديث المضمون وطرق التقديم، يمكن أن يسهم في جعل الخطبة أكثر تأثيرًا وفاعلية في حياة المسلمين اليومية، ومع ذلك، يجب أن يتم هذا التطوير بحذر، وبما يضمن الحفاظ على قدسية الخطبة ودورها المحوري في توجيه المجتمع والعباد.