صحيح وحق أن آيات الميراث، في القرآن الكريم، قد جاء فيها قول الله، سبحانه وتعالى: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ) (النساء:11)، لكن كثيرين من الذين يثيرون الشبهات حول أهلية المرأة في الإسلام، متخذين من التمايز في الميراث سبيلاً إلى ذلك، لا يفقهون أن توريث المرأة على النصف من الرجل ليس موقفًا عامًّا ولا قاعدة مطردة في توريث الإسلام لكل الذكور وكل الإناث.. فالقرآن الكريم لم يقل: يوصيكم الله في المواريث والوارثين للذكر مثل حظ الأنثيين، وإنما قال: (يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ) (النساء:11)، أي أن هذا التمييز ليس قاعدة مطردة في كل حالات الميراث، وإنما هو في حالات خاصة، بل ومحدودة، من بين حالات الميراث.
بل إن الفقه الحقيقي لفلسفة الإسلام في الميراث تكشف عن أن التمايز في أنصبة الوارثين والوارثات لا يرجع إلى معيار الذكورة والأنوثة.. وإنما لهذه الفلسفة الإسلامية في التوريث حِكَم إلهية ومقاصد ربانية قد خفيت عن الذين جعلوا التفاوت بين الذكور والإناث في بعض مسائل الميراث وحالاته شبهة على كمال أهلية المرأة في الإسلام، ذلك أن التفاوت بين أنصبة الوارثين والوارثات – في فلسفة الميراث الإسلامي – إنما تحكمه ثلاثة معايير:
أولها: درجـة القرابة بين الوارث – ذكر أو أنثى – وبين الـمُوَرَّث – المتوفى – فكلما اقتربت الصلة زاد النصيب في الميراث، وكلما ابتعدت الصلة قل النصيب في الميراث، دونما اعتبار لجنس الوارثين.
وثانيها: موقع الجيل الوارث من التتابع الزمنى للأجيال، فالأجيال التي تستقبل الحياة، وتستعد لتحمّل أعبائها، عادة يكون نصيبها في الميراث أكبر من نصيب الأجيال التي تستدبر الحياة، وتتخفف من أعبائهـا، وتصبح أعباؤها – عادة – مفروضة على غيرها، وذلك بصرف النظر عن الذكورة والأنوثة للوارثين والوارثات.
فبنت المتوفَّىّ ترث أكثر من أمه (وكلتاهما أنثى)، بل وترث البنت أكثر من الأب (حتى لو كانت رضيعة لم تدرك شكل أبيها، وحتى ولو كان الأب هو مصدر الثروة التي للابن، والتي تنفرد البنت بنصفها)، وكذلك يرث الابن أكثر من الأب (وكلاهما من الذكور)!
وفي هذا المعيار من معايير فلسفة الميراث في الإسلام حِكَم إلهية بالغة ومقاصد ربانية سامية تخفى على الكثيرين! وهي معايير لا علاقة لها بالذكورة والأنوثة على الإطلاق..
ثالثها: العبء المالي الذي يوجب الشرع الإسلامي على الوارث تحمله والقيام به حيال الآخرين، وهذا هو المعيار الوحيد الذي يثمر تفاوتًا بين الذكر والأنثى، لكنه تفاوت لا يفضى إلى أي ظلم للأنثى أو انتقاص من إنصافها، بل ربما كان العكس هو الصحيح!
ففي حالة ما إذا اتفق وتساوى الوارثون في درجة القرابة، واتفقوا وتساووا في موقع الجيل الوارث من تتابع الأجيال – مثل أولاد المتوفى، ذكورًا وإناثًا – يكون تفاوت العبء المالي هو السبب في التفاوت في أنصبة الميراث؛ ولذلك لم يعمم القرآن الكريم هذا التفاوت بين الذكر والأنثى في عموم الوارثين، وإنما حصره في هذه الحالة بالذات، فقالت الآية القرآنية: (يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ)، ولم يقل يوصيكم الله في “عموم الوارثين”.
والحكمة في هذا التفاوت ، في هذه الحالة بالذات، هي:
– أن الذكر هنا مكلف بإعالة أنثى – هي زوجه – مع أولادهما.. – بينما الأنثى الوارثة – أخت الذكر – إعالتها، مع أولادها، فريضة على الذكر المقترن بها، فهي – مع هذا النقص في ميراثها – بالنسبة لأخيها الذي ورث ضعف ميراثها، أكثر حظًّا وامتيازًا منه في الميراث، فميراثها – مع إعفائها من الإنفاق الواجب – هو ذمة مالية خالصة ومدخرة، لجبر الاستضعاف الأنثوي، ولتأمين حياتها ضد المخاطر والتقلبات.. وتلك حكمة إلهية قد تخفى على الكثيرين ..
وإذا كانت هذه هي الفلسفة الإسلامية في تفاوت أنصبة الوارثين والوارثات – وهي التي يغفل عنها طرفا الغلو، الديني واللاديني، الذين يحسبون هذا التفاوت الجزئي شبهة تلحق بأهلية المرأة في الإسلام – فإن استقراء حالات ومسائل الميراث – كما جاءت في علم الفرائض (المواريث) – يكشف عن حقيقة قد تذهل الكثيرين عن أفكارهم المسبقة والمغلوطة في هذا الموضوع، فهذا الاستقراء لحالات ومسائل الميراث، يقول لنا (كما ورد في دراسةٍ د. صلاح سلطان):
1- إن هناك أربع حالات فقط ترث فيها المرأة نصف الرجل.
2- وهناك حالات أضعاف هذه الحالات الأربع ترث فيها المرأة مثل الرجل تمامًا.
3- وهناك حالات عشر أو تزيد ترث فيها المرأة أكثر من الرجل.
4- وهناك حالات ترث فيها المرأة ولا يرث نظيرها من الرجال.
أي أن هناك أكثر من ثلاثين حالة تأخذ فيها المرأة مثل الرجل، أو أكثر منه أو ترث هي ولا يرث نظيرها من الرجال، في مقابلة أربع حالات محددة ترث فيها المرأة نصف الرجل.
تلك هي ثمرات استقراء حالات ومســائل الميراث – في علــم الفرائــض (المواريث)، التي حكمتها المعايير الإسلامية التي حددتها فلسفة الإسلام في التوريث، والتي لم تقف عند معيار الذكورة والأنوثة، كما يحسب الكثيرون الذين لا يعلمون!
المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.