هل يرجى تقدماً ونهضة من الحركات الإسلامية التي تمارس العمل السياسي منذ عشرينيات القرن الماضي حيث كانت الشعوب تختارها دوماً في الانتخابات لتمثيلها في مؤسسات الدولة ولاسيما في السلطة التشريعية ومع استدامة هذا الاختيار إلا أننا في البلدان العربية مازلنا نعاني من ذلك الفصام النكد والصراع المستدام بين هذه الحركات الإحيائية والنخب الحاكمة التي مازالت تتحكم في مقاليد الحكم بكل الطرق والأساليب الشرعية وغير الشرعية وتتمكن في كل مرة من تأجيل طموح الشعوب في النهضة والتقدم.
هل سبب هذا الوضع يتعلق بسلوك الأنظمة السياسية وقدرتها على ضمان نصاب البقاء بحبل من الناس وحبل من المنتظم الإقليمي والدولي أم السبب يتعلق بعدم قدرة هذه الحركات على مراجعة أخطائها وصياغة رؤية استراتيجية للنهضة والتقدم تأخذ بعين الاعتبار مخرجات تقييم زهاء قرن من التجربة والفعل ورد الفعل.
ومن جهة أخرى هل الأمر يتعلق بالرؤية والاستراتيجية أم يتعلق بمراجعة جذرية ابستمولوجية للنموذج المعرفي الذي تقوم على أساسه هذه الحركات التي تستهدف التغيير السياسي بصفتها الإسلامية بدل صفتها السياسية والاجتماعية.
عندما نتحدث عن النموذج المعرفي فنحن نتحدث عن نقد المنطلقات الفكرية البنائية التي تجعل هذه الحركات تتحرك من خلفية دينية في رؤيتها للتغيير والتقدم والنهضة وليس من خلفية سياسية وهو ما يطرح أسئلة عميقة تتعلق بجذور رؤيتها إلى الحكم والدولة والتنمية والاقتصاد والشرعية والديمقراطية والمجتمع والسلطة والتعددية والأقليات والمرأة والعلاقات الدولية والمواطنة والحقوق والحريات وكل المفردات التي لها صلة بالبرنامج السياسي الذي تحمله هذه الحركات ذات المرجعية الإسلامية في عالمنا العربي وأقول العربي لأن تجارب المسلمين الاعاجم مختلفة تماماً عن التجربة العربية في العمق الفكري والمتطلبات التأسيسية لمقاربة التغيير والتقدم والتنمية بالرغم من مجالات التشابه المتعددة .
إن سؤال أزمة الجدوى السياسية في أداء الأحزاب أو الحركات ذات المرجعية الإسلامية يمثل مركز عملية التجديد والتحديث في الفكر والممارسة سيما ونحن نعيش تحت إشعاع عملية التجديد الدورية المنتظرة على رأس كل قرن (تجديد المائة عام) وآن للنخب الإسلامية المفكرة أن تضطلع بهذه الوظيفة الحضارية والتجاوب مع إشارة المفكر حامد ربيع الى أن هناك لحظات في تاريخ المجتمعات، يتعين فيها على المفكر والفيلسوف أن يخاطب رجل الشارع، يبث فيه عناصره النفسية الدفينة، ويدفع -من خلال قرع الضمير الجماعي- ذلك الرجل العادي ليحيله إلى قوة خلاقة، تنطلق في عملية إيمان بالذات لتصير فيضانًا يتحكم في مصائر الحركة، فمهمة العالم الكفاحية تتمثل في إرشاد أمته وترقيتها من حالات التخلف إلى الرقي والحضارة والتمدن.
فالمثقف موقف، والمفكر السياسي إبداع في التعامل مع الموقف، ومعنى أن تكون عربيًا اليوم، أن تعيش حياة مليئة بالمخاطر، ومعنى أن تكون مفكرًا عربيًا في زمن السقوط هو ألا يقف أي عائق بينك وبين تصميمك على مجابهة هذا كله.
وينبغي الانتباه الى أن في تاريخ كل أمة تمر لحظة معينة، فإذا بها تصاب بنوع من الغشاوة الحقيقية، تضطرب مفاهيمها، ويصيب مدركاتها عدم الوضوح، ويسيطر على عقلها عدم الصلاحية، أما قياداتها بجميع مستوياتها فهي مهلهلة لا تدري أين الطريق الصحيح، قيادات سياسية فقدت الوعي، وقيادات عسكرية يصيبها الترهل، أما عن القيادات الثقافية فهي لم تعد سوى أبواق تهلل وترقص وتطبل.
ولا خروج من هذه اللحظة إلا بالتمسك بتراث الأمة وقيمها، والقيام بوظيفتها التي تحتمها عليها قيمها، والانطلاق من إرادة واثقة في الله والناس للتغيير، وقدرتنا على تحويل أنفسنا وعالمنا من رعب الضياع والتفكك الذي تعيشه أمتنا الى واقع جديد ،على اعتبار أن حالة الانتظار أصبحت سببا رئيسيا في انحباس الرؤية والمجال والمسؤولية تقع على تلك النخب التي مارست العمل السياسي والفكري طيلة ستين سنة على الأقل اتحدث هنا عن الجزائر (ثلاثون سنة في زمن السرية وثلاثون أخرى في زمن التعددية) وهو ما يعني تسليم الرسالة الحضارية من جيل إلى جيل وما يزيد في حجم المسؤولية الحضارية هو حالة الضعف الثقافي والفكري في إدراك الجيل الجديد لعمق الفكرة والرسالة واكتفائه بمناقشات القشور وتلاسنات الشرفات الإلكترونية ..وهو ما يطرح سؤالاً مركزيا ومركباً يتعلق بقدرة الجيل الجديد على صناعة الفرق والانجاز والتميز الحضاري وامتلاكه للإمكان والإرادة الحضارية على التجديد والنهضة واستلام رسالة الاستئناف الحضاري للأمة.
هذا الجيل الذي عليه أن يعتبر من نصيحة المفكر حامد ربيع عندما قال:” أن المحنة التي تمر بها أمتنا ليست محنة جيل واحد، ومشددًا على أهمية أن تعي الأجيال الجديدة أن الآباء بذلوا جهودهم للنهوض بالأمة، وأنهم أصابوا وأخطأوا، ودور الأجيال الجديدة أن تتعلم من الأخطاء، وأن تبني ممارساتها الجديدة على هدي من العلم والإيمان والثقة بالذات الحضارية والاعتقاد في رسالة أمتنا ووظيفتها الحضارية. ودعاه الى خوض المعارك القادمة بقوله “أن هناك معارك كثيرة على الأمة أن تخوضها لتحقق نهضتها وتبدأ في بنائها الجديد، ومسؤولية قيادة هذه المعارك تقع على عاتق الرجال الذين يجب أن يحملوا إيمانهم وعلمهم ويشقوا طريقهم وسط جماهير الأمة، يعلمونهم تقاليدهم وقيمهم وتراثهم، مكونين جيش التحرير الفكري الذي من عنده تبدأ مسيرة الأمة نحو مستقبلها المأمول”.
وأعتقد أننا في حاجة ماسة إلى التفكير الجاد قبل الإجابة على تساؤلات المرحلة إلى التخلص من حالة الارتهان لا كراهاتها المتجددة و الاستطباب من علل الماضي وما يحمله من أورام خطيرة رسختها و جذرتها جراحات واخفاقات المرحلة السابقة والتي كتبت أحكاما مسبقة اصبحت تتحكم في رسم وتصميم خطة المستقبل.
إن التحرر من الأحكام المسبقة التي اورثتها المرحلة السابقة هو البداية الصحيحة لفرز التساؤلات الصحيحة عن التساؤلات الخاطئة لننشغل بتحضير اجابات صحيحة وصادقة تساعد الأجيال القادمة على الخروج من حالة الارتهان الى حروب وصراعات واختلافات لا يستطيعون إدراك ومعرفة خلفياتها النفسية والسياسية لأنها أصبحت مغلفة بمبررات وأسباب الاستغراق فيها قد يكرس حالة إرهاق فكري يصيب العقل الاستراتيجي المفكر في المقتل فيدخل في مربع الانتصار لمراحل ماضوية عنوانها الإخفاق.
وهذا التحليل لا يعني ابدا التنكر للإنجازات التي تحققت والمكتسبات التي بنيت فقد عملت اجيال وأجيال وحاولت صادقة أن تحقق إنجاز الاستئناف الحضاري ووصلت إلى مراتب وعتبات تمثل ادراج للجيل الجديد فما قدمه مؤسسوا الموجة الأولى للحركات التغييرية في عالمنا العربي كان مسجلا ومكتوبا بحروف من ذهب ونذكر منهم الشيوخ رشيد رضا وجمال الدين الافغاني ومحمد عبده وحسن البنا وابن باديس وغيرهم ممن كان فارسا لفكرة الشهود الحضاري وما قدمه شيوخ ورواد التجديد في الموجة الثانية كان أيضا مؤثرا ومراجعا وموضحا وناقدا من أمثال الشيوخ محمد الغزالي و يوسف القرضاوي و طه جابر العلواني وحامد ربيع و رمضان البوطي واحمد ياسين ومحمد عمارة ومحفوظ نحناح و احمد الراشد و راشد الغنوشي وطارق البشري و عبد الوهاب المسيري وتوفيق الشاوي وما يقدمه اليوم رواد التجديد في الموجة الثالثة التي ماتزال لم تكتمل حلقاتها ونحتاج إلى مراكمة كل هذه الجهود لبناء منصة مرافعة جديدة تتطلع إلى مستقبل ناهض وصاعد للأمة سيما وأن كل الظروف الذاتية والداخلية والخارجية متاحة ومواتية لتحقيق هذا الهدف .
وسنحاول في هذه المساحة أن نعرض باكورة جهد متراكم لمراجعة النموذج المعرفي(برادايم) للأداء السياسي للحركات ذات المرجعية الإسلامية بهدف مناقشة عشرين فكرة رئيسية قد تمثل بداية ومقدمة لرؤية تجديدية للفكر السياسي قد تصلح لتكون أصولا للممارسة السياسية المستقبلية تقف على قاعدة تقييمية لتجارب الحركات الإسلامية المغاربية التي أصبحت اليوم تمثل رافدا أساسيا للأداء السياسي في المنطقة العربية حيث لا نقر فكرة النموذجية في الأداء السياسي ولكن نعتبر أن العقل الاستراتيجي للنخب القائدة لها يمثل فرصة لتجميع مثابات الانجاز لبناء رؤية متكاملة ، أقول أصولا رئيسية لتصويب الفقه والفهم السياسي لعملية المدافعة والمرافعة السياسية اقتداء بما فعله الامام الشهيد حسن البنا في عشرينيات القرن الماضي عندما صك وكتب رسالة التعاليم وحدد أركان العقد النضالي العشرة لمن يكون معه في جماعته وبدأها بركن الفهم كمرادف للعلم لان الفهم هو المقصود من العلم فليس العلم بكثرة الرواية بقدر ماهو بعمق الدراية ،وأطره بعشرين أصلا عرفت بعدها بالأصول العشرين وكانت بحق دستورا للوحدة الثقافية بين المسلمين كما شرحها وفسرها وعمقها الشيخ محمد الغزالي في كتابه “دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين” او تحت عنوان المرجعية العليا لأصول الفهم التي أبدع فيها الشيخ يوسف القرضاوي في سلسة نحو وحدة فكرية للعاملين للإسلام ،تلك الأصول الفكرية والثقافية التي كانت الحاجة اليها ماسة في أجواء انشطارية فقهية وشرعية خطيرة في فهم النصوص وتنزيلها ،فمن عرف طبيعة تلك المرحلة سواء على مستوى البيئة الخارجية من استعمار وحالة تغريب وعلمنة وهيمنة شاملة او على مستوى البيئة الداخلية من جدل و فرقة وتنازع واستغراق في التفاصيل وذهاب الريح، وقرأ تلك الأصول وتدبرها حق التدبر وكان له إطلاع على مصادر العلم والمعرفة الإسلامية أيقن أنها تمثل خلاصة مركزة لقراءات طويلة ودراسات عميقة في علوم القرآن والسنة والأصوليين :أصول الفقه وأصول الدين والفقه والتصوف مع عقلية هاضمة مستوعبة قادرة على التأصيل والترجيح ،وصرنا اليوم نحتاج الى دستور للوحدة السياسية كمرجعية عليا لحركات التغيير والإصلاح بعد أن صارت العملية السياسية مدخلا أساسيا ورئيسيا لتجسيد تطلعات الاستئناف الحضاري للامة وتحولت أغلب حركات الاحياء الإسلامي الى أحزاب سياسية تتنافس على الوصول الي السلطة بالطرق القانونية والديمقراطية .
فالتجربة التي عاصرناها ونعرفها عن قرب ونسوق لبعض مخرجاتها لا يعني اكتمال التجربة والوصول الى النموذجية ولكن يعني حيوية التجربة وصحة المسار والتقدم بخطى ثابتة ومتلاحقة باتجاه الإصلاح والنهوض، مدفوعة بمشروع وطني واضح في مقابل وجود سنن صارمة تحكم نجاح التجارب وفشلها وصعود الأمم وسقوطها وتجنب المطبات التي أطاحت بالتجارب الأخرى أو أعاقتها بل ونفيها وسجنها بعشرات الالاف. ودخول الدول والجماعات في حالة عنف وعسكرة واحتراب ولا أمن ضربت فيه المواطنة والوجود الإنساني فضلا على ممارسة السياسة والتدافع.
الأصول التأسيسية العشرون
سنتعرض في هذه المقالة العلمية بإيجاز وتركيز الى عشرين فكرة رئيسية يمكنها أن تطلق العقول المفكرة في الأمة للمساهمة في التأسيس لمرحلة جديدة تقعد للفقه السياسي الإسلامي بما يعضد عملية التجديد والتجسيد، وهي:
الاصل الأول : إن حضور فقه مواكبة التحولات والتغيرات والتطبيق العملي لنظرية المآل في اتخاذ القرارات مسار طبيعي ضروري دأبت عليه حركات التغيير والإصلاح حيث لا يمكن التناغم بين فقه الواقع وفقع الشرع الا بتلازم الفهم الصحيح والسليم للنص الشرعي في سياق قوله او فعله او تقريره او نزوله مع مصاحبة ومرافقة الفهم الإسلامي المتراكم عبر العصور لتحقيق القراءة الصحيحة والتنزيل السليم بعيدا عن حالة الغفلة عن الربط بين متغيرات الواقع المتطور والانحباس في لحظة تاريخية فخرية ناجحة لكنها لا تكفي لصناعة تقدم او نجاح ليس بسبب التشكيك في كون اللحظة حازت النجاح في زمنها ولكن بسبب أن للتقدم أسباب ومثابات تتغير من زمن الى آخر ،واصبح الوعي بفقه النوازل الذي يُمثل الدّراية المعرفية في مقابل الدّراية السّياسية واتقان الوعي بمستويات هذه النظرية (الواقع – الأولويات – الموازنات – المآلات – المقاصد – السنن ) أكثر من ضرورة.
الأصل الثاني: التطبيق الذكي لنظرية اغتنام الفرص ورفض ثقافة الكرسي الشاغر، على اعتبار ان السياسة هي فن وفقه الممكن وليست إرادة تحقيق الكل أو اللاشيئ، فهي تراكمية الإنجاز لا يتحقق فيها النصر بالضربة القاضية بل بالنقاط في كل جولة، وصولة الحق التي نملكها ونتقنها لا تغني عن ضرورة قطع مسيرة التغيير خطوة خطوة فالقفز العالي على الحقائق قد يقود الى الرجوع الى نقطة الانطلاق أو يرمي في اتجاه الفراغ والمجهول .
الأصل الثالث : توظيف التراث الإسلامي العريق والمتنوع ولاسيما في مغربنا الإسلامي الذي أرسى وحدة دينية ومذهبية فريدة على مدى قرون وقرون (قراءة الامام نافع للقرآن الكريم – مذهب الامام مالك في الفقه – مذهب الامام الاشعري في العقيدة- طريقة الامام الجنيد في التصوف )،فحسم معارك فقهية وعقائدية متشابكة من شانها أن تزيدنا فرقة وتنازعا و تلهينا عن مقصد الاستثمار في هذا المنجز الوحدوي المهم وجعله في خدمة الاوطان ومصالحها والدفاع عن القيم الحضارية للامة واستنباتها في الواقع السياسي والثقافي والاقتصادي ،هو الطريق نحو الاستئناف الحضاري ،حيث يساهم فيه جميع افراد الأمة ولو لم يكون لهم انتماء سياسي تنظيمي ،وهو فهم متجدد منفتح يقدم لنا كنوز لا يحجبها عنا الا الفقر المعرفي والتصحر الفكري وحالة الاغتراب التي تجعلنا اقرب الى استخدام التراث والقيم والمصطلحات الغربية بشعور وبغير شعور والاستغناء عن توظيف موروثنا الإسلامي السياسي الذي ضمر انتاجه وتحقيقه بغياب دولته التي كانت تغذيه وترعاه، فتاريخنا السياسي حافل ومميز يحتاج منا الى تغيير معادلات ومناهج التعامل معه انفتاحا وليس انحباسا وفق الرؤية المقاصدية وإرادة بناء النموذج الذاتي الوطني في مقابل الرؤية العرفانية في فكر وبناء النموذج الاممي.
الأصل الرابع: استخدام نظرية المقاصد والتوسع في الاخذ بالوسائل مادامت غير مقصودة في ذاتها وانما تتبع لمقاصدها طريق نحو التحديث والتنمية والتقدم بطلبها ولو بالصين كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم ،وكل إعاقة أو تردد في اتخاذ قرار الاستخدام المتقن لوسائل العصر وادواته تجعلنا نعيش خارج الزمن على اعتبار ان معامل التوقيت والتحديث عنصر رئيسي في اكتساب ملكات العصر وتوظيفها للاستئناف الحضاري والسبق في انتاج النموذج الذاتي الذي يوفر لنا السيادة والاستقلال ،
الأصل الخامس: ونحن نتفاعل مع الاحداث والأزمات بالفعل ورد الفعل ، ولاسيما في عملية التدافع السياسي مع الأنظمة السياسية مما قد يحدث جراح ونتوءات نفسية عميقة لا ينبغي ان تتحول من مربع الفعل ورد الفعل الى مربع الصراع الصفري بخلفية نفسية قاعدتها رد الشر بخلفية انتقامية بل باستخدام فقه الطلقاء الذين حرر الرسول الكريم منهم مكة اثناء فتحها أو أن تتحول إرادة ابعاد الظلم والظالمين الى كتلة من العدمية والقسوة السياسية التي تتغذي بأسباب نفسية عميقة وليدة مرحلة الاستضعاف قبل التمكين .
الأصل السادس : مركزية الدين والمجتمع في الرؤية السياسية العامة مقدم على مركزية الدنيا والدولة في التفكير ،على اعتبار أن فقهنا السياسي يتأسس على أولوية الدين على الدنيا والمجتمع على الدولة، دونما معادلة صراعية بين الدولة والمجتمع ،مما يفرض توفير أدوات ووسائل حراسة الدين وتبليغه وبناء أدوات تقوية المجتمع في مقابل تغول مؤسسات الدولة ،على اعتبار ان حل إشكالية تغول الدولة على المجتمع بسبب أبنيتها وتشريعاتها المستوردة هو حجز الزاوية في معالجة مخرجاتها المعيقة للتنمية بشكل مستدام ،حتى نيسر الإجابة على سؤال النهضة.
الأصل السابع : استثمار الفرص مقدم على دفع التهديدات، وجلب المصالح مقدم على درأ المفاسد ،حيث وجب التحول من حركات وجماعات رد فعل الى دوائر ومؤسسات للفعل ،فالفساد السياسي يقابله الإصلاح السياسي وكلما اتسع الإصلاح ومشاريعه انحسر الفساد وادواته والعكس صحيح ،والفرصة ينبغي ان تستثمر بذكاء كي تتوسع وينخرط فيها عدد لابأس به من الذين يحوزون ملكات توسيع مساحاتها وبرامجها في مقابلة التهديدات التي تحيط بالمشروع العام ،ولا ينبغي الاهتمام بحجم ونوع التهديدات وصرف أوقات متزايدة في الكتابة عنها ونشرها عند من لم يدركها ونضيع الفرص المتاحة في البيئة الخارجية لنصنع منها قلاع وحصون لمواجهة تلك التهديدات وبناء مؤسسات النفع العام لتحقيق مصالح العباد بما يدرأ المفاسد ويقلص من حجمها وانتشارها بأفعال مجتمعية مؤسسية يسندها خطاب النهي عن المنكر بعد الامر بالمعروف .
الاصل الثامن: تمتين نقاط القوة ورعايتها بتأسيس المؤسسات المتخصصة التي تتكفل بالرفع من منسوبها وتوزيع الكفاءات والموارد عليها بشكل منظومي مقدم على الاستغراق في وصف نقاط الضعف وسيادة الشكوى والفشل في معالجتها، لان رعاية الأول (نقاط القوة) سيحل إشكالية الثاني (نقاط الضعف) فدائرة الفعل هي دائرة القوة.
الأصل التاسع: انجاز البدائل والمشاريع وتقديم الخدمة وبذل الوسع في توسيع مساحات العمل والانجاز مقدم على الاشتغال فقط بمقاومة الرذائل، ووصفها وتقريع أصحابها فخدمة المجتمع وتنميته تتطلب بناء النموذج الأخلاقي الصالح الذي يؤثر ويغير وعند توسع دائرته وانتشار فكرته ستنحصر الرذائل بالبدائل الواقعية التي تصبح معالم للاقتداء ويتحقق بموجبها الشهود الحضاري.
الأصل العاشر: عدم الارتهان الى منجزات مرحلة التأسيس، وواجب الاجتهاد والتجديد، حيث تتأسس مرحلة الاجتهاد والتجديد على مكتسبات مرحلة التأسيس ،لان البناء ذا ميزة تراكمية حيث لامجال للقطيعة المؤسسية او لصراع الأجيال ،فالإنجاز السياسي والاجتماعي هو صنيعة الاحياء وليس الأموات ،وعلى كل جيل تحمل مسؤولية التجديد والتجسيد واستفراغ الجهد الفكري والعملي لمراكمة الفعل قصد مراغمة ومقاومة التحدي الجديد باستجابيه تتميز بالمعرفة والذكاء الجماعي الذي يضمن نصاب البقاء ويبني عليه قاعدة المنجزات المتجددة.
الأصل الحادي عشر: العمل المؤسسي الوظيفي وإقامة الشراكات الاستراتيجية والتمايز في مجالات العمل والخطاب والرموز و بناء المشروع المجتمعي المندمج ضرورة وحتمية ينبغي أن تتحول اليها حركات التغيير والإصلاح على اعتبار أن الاشكال التنظيمية السابقة استنفذت اغراضها وأصبحت معيقة للتطوير والانجاز، حيث نمت فيها الامراض التنظيمية المزمنة والاصنام الجديدة التي أصبحت تقدس الوسيلة وتضرب الغاية والفكرة في عمقها وصارت هذه الممارسات حجة على المشروع وعالة عليه.
الأصل الثاني عشر : مراعاة سنة التدرج والتراكم في الإصلاح والصبر على تجسيد الاستراتيجية وعدم التراجع بسبب الاعراض الجانبية التي تظهر اثناء الممارسة ،فالرؤية والاستراتيجية تتصف بالاستدامة مع المرونة والواقعية ،وهي تتعرض الى المقاومة الداخلية قبل الخارجية وقد تنتج عن الممارسات الخاطئة للرؤية وسوء التدبير والتقدير والتسيير اعراض جانبية لا ينبغي أن تؤدي الى تنكب الطريق نحو صياغة رؤى مؤقتة تستجيب للواقع المتغير او فخ الخصوم ،فتضرب الاستراتيجيات التي بذل في صياغتها استشارات واسعة ،فالأعراض التي ترافق التطبيق تعالج اثناء العمل ليس بالاستدارة ولكن بالإصرار على المضي في التجسيد مع حتمية التقييم والتصحيح الموضعي والاستدراك السريع .
الأصل الثالث عشر : الخروج من الثنائيات اثناء الاختلاف الى البدائل المتعددة في اتخاذ القرار وبناء العلاقات مع المخالفين ،فحالة الاستقطاب التي أصبحت تميز أداءات حركات التغيير والإصلاح سببها المباشر قصور في إدارة الاجتماع ومجالس الرأي بالانحباس في الثنائيات القاتلة للتنظيمات بدخولها في عالم عمى الألوان لتختصر الكون في لونين (ابيض واسود) واما قول لا او نعم ،فيحصل الصراع ثم الفرقة والفشل وذهاب الريح بعد التنازع ،في الوقت الذي تطورت فيه اليوم وسائل وأساليب وطرق اتخاذ القرار بدراسة كل زوايا النظر في مستوى وصف الاشكاليات وجمع جميع معطياتها ثم وصف الحلول كل الحلول والمفاضلة بينها وتقريب واختزال المتشابه منها وفق نظرية 360 درجة وليس الانحباس في الزوايا الحادة التي تعزل البعض وتخرج البعض الاخر وتدفعهم الى الزوايا المنفرجة بما يتيح الفرصة للشللية وجماعات النجوى ،ففي طرح البدائل المتعددة مندوحة للاستغراق في الثنائيات والاضداد .
الأصل الرابع عشر : التفريق بين انفتاح الاستاذية وانفتاح الحشد والتعبئة وانفتاح المشاركة والتعاون، فحركات التغيير والاصلاح مازالت الى اليوم عندما تفكر في توسيع دوائر تأثيرها تحت مسمى الانفتاح على الناس بهدف استيعابهم في التنظيمات المتنوعة، تقع تحت طائلة معضلة التقوقع التنظيمي ولوائحه فتنظر الى القادمين الجدد اليها بنظرة الاستاذية و تخاطبهم بلغة التعبئة والتجنيد ولاسيما في الاستحقاقات السياسية في حين لا يمكن تحقيق حالة الانفتاح المستهدفة الا بعنوان الشراكة والتعاون على تقوية الفكرة واستيعاب القدرات والكفاءات المجتمعية فهم شركاء وليسوا أجراء.
الأصل الخامس عشر: تبنى منهجية الإصلاح في إطار الاستقرار مع إعلاء المصلحة الوطنية، واعتماد العمل العلني القانوني، والوضوح في الطرح والمبدئية والحسم في المواقف، والتخلص من هواجس المفردات القديمة التي شوهتها الدعاية الإعلامية وربطتها بممارسات خاطئة لبعض آحاد المسلمين كهدف إقامة الدولة أو الخلافة الإسلامية الذي طبع فكر وخطط وعمل الحركات الإسلامية لعقود، واقتصر التنوع والتجديد بينها على الوسائل والتكتيكات والخطاب، وابداع مصطلحات متجددة لاتقف عند الشكل بل تعمق المضمون بصك مفردات جاذبة تستفيد من التجربة البشرية في بناء الدولة وتحقيق الوحدة الفوق قطرية .
الأصل السادس عشر: التركيز على الروح الوطنية وعلى الوطن والتجذر في التربة المحلية وتناغم المشروع والخطاب وحتى المظاهر مع الثقافة والرموز المحلية التي أثرت في المسارات التاريخية والثقافية، وفق منهاج سياسي وثقافي يوازن بين غلبة البعد الوطني على البعد العالمي مع اعتبار التنسيق والتعاون وظيفة وسياسة وليس تبعية ووصاية.
الأصل السابع عشر: الحسم في قضايا الثنائيات (العالمية والوطنية- الشمولية والتخصص – التدافع الكلي والجزئي – فكر الحركة وحركة الفكر … يعتبر وظيفة المفكرين والنخب السياسية التي تتوفر داخل حركات التغيير والإصلاح ودورها في مراحل الانتقال السياسي محوري لان الاستسلام لحالات الاستقطاب التي تفضلها الجماهير ستجعل من التقدم في المشروع السياسي غير ممكنة بل قد تدخله في معادلات صفرية تؤجل تحقيق الرؤية العامة بل وقد تنهار بشكل سريع ومريع.
الأصل الثامن عشر: ادخار الجهود المضنية التي تستنزف التنظيم الحديدي تجنيدا وصهرا وصيانة وتحصينا، وتركيز الاهتمام والخطاب على الوطن والشعب والأمة، وبذل المزيد من الجهود على إقناع الناس بالمشروع وبالمنهجية من خلال المشروع المجتمعي المندمج على اعتبار أن المجتمع هو الحاضنة الرئيسية للفكرة، فمنه تبرز الطاقات والكفاءات التي قد تبدأ برؤية جزئية ومع مر السنين ستكتمل عندما الصورة الكلية للمشروع العام.
الأصل التاسع عشر :الممارسة المؤسسية الديمقراطية الداخلية ، بتداول حقيقي على المسؤولية على قاعدة الاختيار الحر طريق نحو معالجة الامراض التنظيمية ووسيلة لتثبيت حالة الاستقرار ، حيث تكون كل القرارات والإجراءات خاضعة للوائح صارمة لا يملك أحد أن يلتف عليها، فلا آليات موازية للقرار ولا معطيات تحجب عن المؤسسات والقيادات فيصبح دورها في صنع القرار شكليا، ولا علاقات مع المسؤولين تتيح فرص التولية والترقية والتنحية ،ولا خلود في المسؤوليات ،كلها مسارات تحفظ البناء المؤسسي وتزيد في حالة الاحترام لدى النخب وتعطي نموذجية مؤثرة في البيئة الخارجية التي لا يصلح حالها الا بتحقيق القدوة والريادة السياسية الداخلية والخارجية.
الأصل العشرين: النجاح في صياغة خطط التحول الديمقراطي وإدارة المرحلة الانتقالية، ضرورة ملحة في وضعية الانتقال والأزمات والابداع في صناعة الكتلة التاريخية ورعاية التوافقات من خلال فضاءات مشتركة مرنة ومستدامة يوفر فرص العبور الآمن نحو مستويات افضل لتجسيد سياسات المشروع وبرامجه المتنوعة والمتناغمة، والتي تسندها كتلة اجتماعية واعية وداعمة وثابتة.
يتبع …………./……………..