مرت على بني إسرائيل حقبة من الزمن، هاجروا فيها من مصر، وتاهوا فيها أربعين عاماً، ومات فيها موسى، وهارون، ويوشع بن نون، ثم خلفهم رجل يقال له كالب بن يوفنا.
يقول ابن جرير: لا خلاف بين أهل العلم بأخبار الماضين أن القائم بأمور بني إسرائيل بعد يوشع بن نون هو كالب بن يوفنا، وهو أحد الرجلين من اللذين يخافون أنعم الله عليهما، ثم كان من بعدهم حزقيل بن بوذى، وهو الذي دعا الله فأحيا؛ (الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ) (البقرة: 243)(1).
هل تثبت نبوة حزقيل؟
لم يثبت في نبوة حزقيل أثر صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكل ما نقل في كتب التاريخ وأهل التفسير إنما هو من الإسرائيليات.
عبادة الأصنام طبع أصيل
ثم بعث الله نبيه إلياس إلى بني إسرائيل في فترة من الزمن، وكانوا يعبدون صنماً يقال له «بعل»، وكأن الشرك بالله وعبادة الأوثان غريزة فيهم، فبالأمس البعيد عبد أسلافهم العجل الذهبي من دون الله، فزجرهم هارون، وموسى، فلما جاوزوا البحر مروا على قوم يعكفون على أصنام لهم، فطلبوا من موسى أن يتخذ لهم إلهاً صنماً؛ فأنكر عليهم موسى أشد الإنكار، وهذا ما فعله نبي الله إلياس حيث أنكر عليهم عبادة هذا الصنم؛ (أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ {125} اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) (الصافات)، وظل يدعوهم إلى عبادة الله وحده حتى لقي ربه.
قتْلُ بني إسرائيل للأنبياء أشنع فعالهم وأعظم أسباب غضب الله عليهم ووقوع الفساد فيهم
فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون
ثم بعث الله تعالى نبيه اليسع عليه السلام، قال الحسن: كان بعد إلياس اليسع، فمكث يدعوهم إلى عبادة الله وحده متمسكاً بمنهاج إلياس وشريعته حتى لحق بالرفيق الأعلى، ثم خلف فيهم الخلوف، وعظمت فيهم الأحداث والخطايا وكثرت الجبابرة حتى قتلوا الأنبياء(3).
وقتْلُ بني إسرائيل للأنبياء من أشنع فعالهم، وأسوأ أحوالهم، ومن أعظم أسباب غضب الله عليهم ووقوع الفساد فيهم، وقد تكرر في القرآن ذكر قتل بني إسرائيل للأنبياء بغير حق، كما في قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ) (آل عمران: 112)، وفي قوله تعالى: (أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) (البقرة:87).
ثم ولي الأمر بعدهم قضاة يحكمونهم بشرائع الأنبياء، وكان من شأنهم أنهم هزموا في معركة دامية مع الفلسطينيين، فسبَوا منهم نساءهم وأخرجوهم من ديارهم وسلبوا منهم تابوت العهد، وظلوا على تلك الحال من الذل والهوان حتى ذهب أشرافهم إلى قاضيهم صمويل يطلبون منه أن يختار لهم ملكاً يجتمعون تحت رايته في قتال عدوهم الذين طالما أغاروا عليهم وساموهم سوء العذاب(4).
شجاعة زائفة وجبن أصيل
يقول عفيف طبارة: وكان صمويل يعرف حقيقة قومه ويعلم تخاذلهم في القتال، فسألهم: (هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ) (البقرة: 246)، فأجابوه مؤكدين جديتهم في القتال مبررين له ذلك قائلين: (وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا) (البقرة: 246)، لكن الواقع كان على خلاف ما زعموا، فلقد حصل ما كان يتوقعه منهم من النكوص والجبن عن القتال، قال تعالى: (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ) (البقرة: 246)(5).
نعم لقد انكشف الإسرائيليون على حقيقتهم في هذا الموقف، فطالما عاهدوا ونقضوا، ولطالما واعدوا وأخلفوا، فما وفّى اليهود بعهد قط، فهم أحقر وأجبن من أن يَصْدُقوا فيما عاهدوا أحداً عليه، فعلى الرغم من أنهم قد هُزموا وأخرجوا من ديارهم وأُسِرت نساؤهم وأبناؤهم، فإنهم جبنوا عن تحرير أسراهم وتولوا عن قتال عدوهم إلا قلة قليلة منهم، وهذا ليس بغريب عنهم فأجدادهم هم الذين تخلوا عن القتال مع موسى حين قالوا له: (فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) (المائدة: 24).
بنو إسرائيل اعترضوا على اختيار الله لطالوت ملكاً عليهم متعللين بفقره وقلة وجاهته
قوم متخصصون في المراوغة
أخبر صمويل قومه أن الله تعالى قد استجاب لرغبتهم واختار لهم طالوت ملكاً عليهم يقودهم في القتال، وهنا اعترضوا على اختيار الله لطالوت بحجة أنه رجل فقير ومن عامة الشعب لا من الصفوة، وهي حجج واهية، وحيل مفضوحة من قوم متخصصين في التحايل والمراوغة.
يقول د. صلاح الخالدي: اليهود يتحايلون أولاً على أوامر الله، فإن عجزوا عن التحايل وألزموا بالتنفيذ والأداء، فإنهم يستخدمون أسلوباً آخر ليس أقل سوءاً من التحايل، إنها المراوغة والتلكؤ، ثم قال: وإن قصة سورة «البقرة» مثال واضح لمراوغة اليهود، ودليل بارز على تمكن هذا الخلق البغيض من نفوسهم، فأول مراوغة حين اتهموا نبيهم بأنه يستهزئ بهم وهو الذي يبلغهم ما أمرهم الله بفعله، وثاني مراوغة حين طلبوا أن يبين لهم البقرة المطلوبة، وثالث مراوغة حين طلبوا بيان لون البقرة، ورابع مراوغة حين زعموا تشابه البقر عليهم، وبعد كل هذه التحديدات والمراوغات قال الله عنهم: (فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ) (البقرة: 71)(6).
لقد اعترضت بنو إسرائيل على اختيار الله لطالوت ملكاً عليهم متعللين بفقره وقلة وجاهته، فأخبرهم قائلاً: (إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ) (البقرة: 247)، ثم أخبرهم أن علامة ملك طالوت أنه سيقودهم إلى النصر، وأن الملائكة ستأتيهم بالتابوت الذي سُلب منهم.
وبعد كل هذه الحيل والمراوغات قبلت بنو إسرائيل مُلْك طالوت وقيادَته عليهم، فلما دعاهم إلى الجهاد ضد جالوت المتجبر وجيشه الجرار تجمع تحت لوائه منهم خلق كثير.
سار طالوت بجشيه من بني إسرائيل وأراد أن يختبر صدقهم وصبرهم وشجاعتهم في الحرب، إلا أنه فوجئ بعكس ما كان يتمنى، حيث ظهر منهم ما يكرهه كل قائد ومسؤول، من مخالفة الأوامر، والجبن عند ملاقاة الأعداء.
الأول: عندما مروا على النهر وقد أصابهم العطش، حيث خالفوا أوامر الله وأوامر قائدهم بمجرد رؤية الماء، فرسب أكثرهم في هذا الاختبار؛ (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ) (البقرة: 249).
الثاني: أنه لما توجه بالقلة المؤمنة المتبقية من جيشه تلقاء أرض المعركة، وظهر لهم جالوت بجيشه الجرار، بدا عليهم الخوف وبرز الجبن الملازم لهم والكامن في نفوسهم، فقالوا لطالوت: (لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ) (البقرة: 249)، وما أشبه الليلة بالبارحة! وما أشبه موقفهم هذا بموقف أجدادهم مع نبي الله موسى عندما كانوا على مشارف الأرض المقدسة، وقد دعاهم موسى إلى دخولها فقالوا: (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا) (المائدة: 22)! وكأنهم من جبنهم وشدة مذلتهم يريدون فتحاً دون عناء، ونصراً دون ملاقاة الأعداء.
يقول د. صلاح الخالدي: ولولا بقية من إيمان ورجولة وثبات عند بعض اليهود زمن طالوت، لهزم جيش طالوت وانتصر خصمه جالوت، لكن القلة القليلة هذه هي التي أنقذت الموقف، وهي دائماً التي ترفع الراية وتقود للنصر، فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة(7).
داود يتولى ملك بني إسرائيل
يقول د. الطيب النجار: سمع داود، طالوت يحرّض بني إسرائيل على قتال جالوت وجيشه، وهو يقول: من قتل جالوت زوجته ابنتي وأشركته في ملكي، وكان داود رامياً، فلما كانت الحرب وضع حجراً في المقلاع ورمى به جالوت ففلق رأسه، ثم أجهز عليه بسيفه، ففر جيشه منهزماً، فوفَّى طالوت بوعده لداود فزوّجه ابنته، وقلده الحكم(8).
نرى في مقالنا القادم، بإذن الله، كيف كان حال اليهود زمان داود، وسليمان، عليهما وعلى نبينا محمد أفضل الصلاة والسلام.
______________________
(1) تاريخ الطبري (1/ 460)، أقول: لا يوجد دليل صحيح على نبوة حزقيل إلا ما أورده أهل التفسير والأخبار، ولعلها من الإسرائيليات التي لا يمكن القطع بشيء منها، قال ابن عطية: وهذا القصص كله لين الأسانيد.
(2) مختصر تفسير ابن كثير.
(3) قصص الأنبياء، محمود المصري.
(4) تاريخ الأنبياء، محمد الطيب النجار.
(5) مع الأنبياء، عفيف طباره.
(6) الشخصية اليهودية، صلاح الخالدي.
(7) المرجع السابق.
(8) تاريخ الأنبياء، محمد الطيب النجار.