إن الغفلة عن مراقبة علام الغيوب والغفلة عن الهدى، والإِعراض عن مسلك الرشد، وإتباع الهوى وإيثار الحياة الدنيا، من أشر وأخطر ما يصيب القلوب عقوبة بآفة القسوة.
إن الغفلة عن مراقبة علام الغيوب والغفلة عن الهدى، والإِعراض عن مسلك الرشد، وإتباع الهوى وإيثار الحياة الدنيا، من أشر وأخطر ما يصيب القلوب عقوبة بآفة القسوة.
فإن من أعظم العقوبات التي يُبتلى بها العبد قسوة القلب.
قال سهل بن عبدالله: “كل عقوبة طهارة، إلا عقوبة القلب فإنها قسوة”(حلية الأولياء وطبقات الأصفياء/لأبي نعيم).
قال ابن منظور: “القسوة في القلب ذهاب اللين والرحمة والخشوع منه” (لسان العرب).
وقال القرطبي: “القسوة الصلابة والشدة واليُبس، وهي عبارة عن خلوها من الإنابة والإذعان لآيات الله تعالى”.
وقال مالك بن دينار: “أربع من علم الشقاوة: قسوة القلب، وجمود العين، وطول الأمل، والحرص على الدنيا” (الزهد وصفة الزاهدين/لابن الأعرابي).
قال ابن القيم: “سبحانه الذي جعل بعض القلوب مخبتًا إليه، وبعضها قاسيًا، وجعل للقسوة آثارًا، وللإخبات آثارًا، فمن آثار القسوة:
1- ذم الله في كتابه قسوة القلب، وأخبر أنها مانع عن قبول الحق والعمل به، قال تعالى: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ {74}) (البقرة)
قال ابن عباس رضي الله عنهما – في قوله تعالى”: وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ ” : “أي من الحجارة لألين من قلوبكم، عمَّا تدعون إليه من الحق فلا تستجيبون” (تفسير ابن كثير).
2- توعَّد الله أصحاب القلوب القاسية بالعذاب الأليم، وبيَّن أن قسوة القلب سبب للضلال وانغلاق القلب: قال تعالى: (فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ {22}) (الزمر).
قوله: (فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ)؛ أي: “لا تلين لكتابه، ولا تتذكر آياته، ولا تطمئن بذكره، بل هي معرضة عن ربها، ملتفتة إلى غيره، فهؤلاء لهم الويل الشديد، والشرُّ الكبير”.
“أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ” “وأيُّ ضلال أعظم من ضلال من أعرض عن وليِّه، ومَن كلُّ السعادة في الإقبال عليه، وقسا قلبه عن ذكره، وأقبل على كلِّ ما يضرُّه؟!” (تيسير الكريم الرحمن).
3- القلب القاسي أضعف القلوب إيمانًا، وأسرعها قبولًا للشبهات، والوقوع في الفتنة والضلال، قال تعالي: (لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ {53}) (الحج: 53).
فمعنى قوله” : وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ” “أي: الغليظة، التي لا يؤثر فيها زجر ولا تذكير، ولا تفهم عن الله وعن رسوله لقسوتها، فإذا سمعوا ما ألقاه الشيطان، جعلوه حجة لهم على باطلهم، وجادلوا به وشاقوا الله ورسوله، ولهذا قال: وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ أي: مشاقة لله، ومعاندة للحق، ومخالفة له، بعيد من الصواب، فما يلقيه الشيطان، يكون فتنة لهؤلاء الطائفتين، فيظهر به ما في قلوبهم، من الخبث الكامن فيها”(تيسير الكريم الرحمن).
4-زوال النعم ونزول المصائب والنقم والهلاك:
قال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ {42} فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ {43} فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ {44}) (الأنعام: 42- 44).
معنى قوله: ” وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ أنه” “لم يكن فيها لين يوجب التضرع، ولم ينزجروا وإنما ابتلوا به وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ أي: من الشرك. فالاستدراك على المعنى لبيان الصارف لهم عن التضرع. وأنه لا مانع لهم إلا قساوة قلوبهم، وإعجابهم بأعمالهم المزينة لهم” “تفسير القاسمي”.
علاج قسوة القلب:
من أسباب لين القلب الإكثار من ذكر الله وقراءة القرآن، قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ {28})) الرعد:( 28 ، وقال تعالى):لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ {21}) (الحشر:21 (.
هذه دعوة من الله سبحانه وتعالى لعباده بتدبر القرآن “وإن كانوا في القسوة وصلابة القلوب كالجبال الرواسي، فإنَّ هذا القرآن لو أنزل على جبل لرأيته خاشعًا متصدعًا من خشية الله، لكمال تأثيره في القلوب، فإنَّ مواعظ القرآن أعظم المواعظ على الإطلاق، وأوامره ونواهيه محتوية على الحكم والمصالح المقرونة بها، وهي من أسهل شيء على النفوس، وأيسرها على الأبدان، خالية من التكلف لا تناقض فيها ولا اختلاف ولا صعوبة فيها ولا اعتساف، تصلح لكل زمان ومكان، ولا أنفع للعبد من التفكر في القرآن والتدبر لمعانيه، فإن التفكر فيها يفتح للعبد خزائن العلم، ويبين له طرق الخير والشر، ويحثه على مكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم، ويزجره عن مساوئ الأخلاق”.)تيسير الكريم الرحمن/للسعدي(.
زيارة المقابر والمرضى، والزهد في الدنيا وتذكر الموت والآخرة، روى مسلم في صحيحه وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة».
وروى الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أكثروا ذكر هادم اللذات يعني الموت.
قال المناوي: “من أعظم أدوية قسوة القلوب، زيارة القبور، وتأمل حال المقبور، وما بعده من البعث والنشور، الباعث على ذكر هادم اللذات، ومفرق الجماعات، وكذا مشاهدة المحتضرين، وتغسيل الموتى والصلاة على الجنائز، فإن في ذلك موعظة بليغة”.
إطعام المسكين ومسح رأس اليتيم:
عن أبي الدرداء قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل يشكو قسوة قلبه، قال:
“أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم وامسح رأسه وأطعمه من طعامك، يلن قلبك وتدرك حاجتك” (رواه الطبراني). قال الملا علي القاري في شرحه للحديث: “أي: قساوته، وشدته، وقلة رقته، وعدم ألفته، ورحمته، قال: امسح رأس اليتيم، لتتذكر الموت، فيغتنم الحياة، فإنَّ القسوة منشؤها الغفلة، وأطعم المسكين لترى آثار نعمة الله عليك حيث أغناك، وأحوج إليك سواك، فيرق قلبك، ويزول قسوته، ولعل وجه تخصيصهما بالذكر أنَّ الرحمة على الصغير والكبير موجبة لرحمة الله تعالى على عبده، المتخلق ببعض صفاته، فينزل عليه الرحمة، ويرتفع عنه القسوة، وحاصله أنَّه لا بد من ارتكاب أسباب تحصيل الأخلاق بالمعالجة العلمية، أو بالعملية، أو بالمعجون المركب منهما .”
الإكثار من الدعاء والالتجاء لله سبحانه فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان كثيراً ما يدعوا فيقول ” يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ” يقول ثابِت البُنَاني رحمه الله قال: إني لأعلم متى يستجاب لي. قالوا: ومن أين تعلم ذلك؟ قال: إذا اقْشَعَرّ جلدي، ووَجِل قلبي، وفاضت عيناي، فذلك حينئذ يُستَجاب لي.
يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “اطلب قلبك في أربعة مواطن عند سماع القرآن وفي مجالس الذكر وفي أوقات الصلاة وفي الخلوات, فإذا لم تجده فسل الله تعالى أن يمن عليك بقلب فإنه لا قلب لك” فالقلب يمرض كما يمرض البدن وشفاؤه التوبة ويجوع كما يجوع البدن وطعامه وشرابه المحبة والإنابة ويعرى كما يعرى البدن ولباسه التقوى ﴿ وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ﴾ ويصدأ كما يصدأ الحديد وجلاؤه الاستغفار.
وقال ابن القيم: “القلب يمرض كما يمرض البدن، وشفاؤه في التوبة، والحمية، ويصدأ كما تصدأ المرآة، وجلاؤه بالذكر، ويعري كما يعري الجسم وزينته التقوى، ويجوع ويظمأ كما يجوع البدن، وطعامه وشرابه المعرفة والمحبة، والتوكل، والإنابة، والخدمة” (الفوائد).