1- المطالبة بالمساواة بين الرجل والمرأة في الميراث مطلب قديم يتجدد بين الحين والآخر، والجديد فيه اليوم صدوره لأول مرة من رئيس عربي لدولة مسلمة في سياقات وملابسات خاصة؛ والمساواة مطلب استشراقي في منشئه كما ذكر كولسون في كتابه الميراث في الأسرة المسلمة وكذلك جولدت سهير وسميث، ثم تبعهم نصر حامد أبوزيد وحسن حنفي والتيار الحداثي بشكل عام، وبالجملة فهناك قرابة 10 مسائل كل من يتحدث عن التجديد لابد أن يطرحها في مقدمتها المساواة في الميراث.
2- الأساس الذي بُني عليه القول بالمساواة هو تاريخية نصوص الأحكام بمعنى: أن فهم التشريعات الإسلامية لا يصح إلا في الإطار التاريخي والسياق الاجتماعي لها في الجزيرة العربية، فالأحكام الشرعية مرتهنة بالشروط الاجتماعية والتاريخية التي نزلت فيها، وبالتالي إذا تغير الزمن يجب أن تتغير تلك الأحكام، فإذا كانت المرأة ترث نصف الرجل فهذا سببه أن القرآن خاطب مجتمعا السيادة فيه للرجل، ولم تكن المرأة ترث فيه أصلا، واتسمت حياتهم بالحروب والاعتداءات القبلية، وغياب السلطة المنفذة للأمن والأحكام، فكان تشريع الإرث بالنصف نوع من التدرج، لأن المجتمع لن يقبل بأكثر من هذا، اليوم مع هذا التطور الذي حدث وصارت المرأة تعمل مثل الرجل فيجب أن ترث مثله. ويستدلون على ذلك بعمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث أوقف سهم المؤلفة قلوبهم، لتغير الزمن في عصره عن عصر النبي صلى الله عليه وسلم الذي أعطى فيه المؤلفة قلوبهم. وهو فهم خاطئ لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يلغ السهم ولا يملك ذلك، إنما اجتهد في تحقيق مناط الحكم، فوجد أن أبا بكر أعطى من لا ينطبق عليهم وصف المؤلفة قلوبهم فمنعهم، ولذلك فإن جمهور الفقهاء على بقاء السهم ومجالات تطبيقه اليوم كثيرة جدا.
والقول بتاريخية الأحكام قول خطير جدا لأن نتائجه لن تقف عند قضية المساواة في الميراث، وإنما تعنى نسخ كل الأحكام وتغييرها، وتعنى إقليمية رسالة الإسلام وإنهاء عالميته وخلوده، وصلاحيته لكل زمان ومكان. وبالتالي يصبح الزمان والأعراف هي الحاكمة على النصوص لا العكس، وأن شريعة الإسلام جاءت لتلك المجتمعات فقط بدليل أننا نبدل هذا التشريع اليوم لأنه لا يناسب عصرنا. كما تعني التاريخية أن التشريع الإلهي غير معصوم، وأن احتمال وجود الخلل والنقص فيه وارد بل واقع، وهذا يتناقض تماما مع حقائق الشريعة والأحكام.
3- الحديث عن أن إعطاء المرأة النصف كان من قبيل التدرج مع العرب الرافضين لمبدأ إعطاء المرأة حديث مغلوط، ومنقوض بما جاء عن ابْنِ عَبَّاسٍ في قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتِ الْفَرَائِضُ الَّتِي فَرَضَ اللَّهُ فِيهَا مَا فَرَضَ لِلْوَلَدِ الذِّكْرِ وَالأُنْثَى وَالأَبَوْينِ كَرِهَهَا النَّاسُ أَوْ بَعْضُهُمْ، وَقَالُوا : تُعْطَى الْمَرْأَةُ الرُّبُعَ وَالثُّمُنَ، وَتُعْطَى الاِبْنَةُ النِّصْفَ، وَيُعْطَى الْغُلاَمُ الصَّغِيرُ، وَلَيْسَ مِنْ هَؤُلاَءِ أَحَدٌ يُقَاتِلُ الْقَوْمَ وَلاَ يَحُوزُ الْغَنِيمَةَ اسْكُتُوا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، لَعَلَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْسَاهُ، أَوْ نَقُولُ لَهُ فَيُغَيِّرُهُ فَقَالْ بَعْضُهُمْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنُعْطِي الْجَارِيَةَ نِصْفَ مَا تَرَكَ أَبُوهَا، وَلَيْسَتْ تَرْكَبُ الْفَرَسَ، وَلاَ تُقَاتِلُ الْقَوْمَ، وَنُعْطِي الصَّبِيَّ الْمِيرَاثَ، وَلَيْسَ يُغْنِي شَيْئًا ؟ وَكَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، لاَ يُعْطُونَ الْمِيرَاثَ إِلاَّ مَنْ قَاتَلَ، وَيُعْطُونَهُ الأَكْبَرَ فَالأَكْبَرَ. فالعرب إذا اعترضوا على مبدأ إعطاء من لا يقاتل حتى الأطفال الذكور، ولو كان الأمر بالتدرج ومسايرة الناس فيما يقبلون لتركهم الإسلام على ما هم عليه، لكنه حسم الأمر بالآيات البينات قطعية الثبوت والدلالة من نزولها إلى قيام الساعة.
4- النص الذي قرر أن المرأة ترث نصف الرجل ليس نصا أو قاعدة عامة في الميراث وإنما في حالتين اثنتين فقط: الأولي: في حالة ميراث الأبناء والبنات إذا ورثوا بالتعصيب، فيكون للذكر ضعف حظ الأنثى، يقول تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) النساء: 11 . الثانية: في حق ميراث الإخوة والأخوات، يقول تعالى: (وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) (النساء: من الآية176)، ومن درس الفرائض والمواريث يعلم أن هناك عشرات الحالات التي ترث فيها المرأة مثل الرجل، أو أكثر منه، أو ترث ولا يرث. وهذا النص قطعي الدلالة يعني أن دلالة ألفاظه لا تحتمل سوى تفسير واحد. وهذا الموضع هو الذي تنطبق عليه القاعدة الأصولية: لا اجتهاد مع النص، لا اجتهاد في معارضة النص قطعي الثبوت والدلالة، وإنما الاجتهاد في تطبيقه وتنزيله والقياس عليه.. إلخ.
5- من أهم مقاصد الشريعة في الأمور المحددة والمعينة والمقدرة، كأنصبة المواريث، وأعداد الركعات، ومقادير الزكوات وغيرها مقصد الضبط والحسم لإخراج الناس من الحيرة والاضطراب والاختلاف والتنازع، والغموض والإبهام والإفراط والتفريط عند التقدير والتنفيذ، وهذا المقصد موجود في جميع الشرائع والقوانين، فالعقوبات في القوانين محددة بطرائق مختلفة ك5 سنوات أو7 وكذا الغرامات المالية، مع أنه يمكن الزيادة عليها أو التنقيص منها، والقصد من ذلك كله الضبط والحسم بكيفية واضحة للناس يسهل عليهم ضبطها والاحتكام إليها والعمل بها كما ذكر الفقيه المقاصدي الدكتور أحمد الريسوني. ومقصد الضبط والحسم يتضح أكثر في دعاوى ومطالبات المساواة، فقد قرأت بعض الإخوة والأخوات الداعين للمساواة يقولون: سنعطى البنات أكثر من الذكور! تجاوزنا المساواة إذاً إلى الهوى والتشهي وعدم الضبط والفوضى.
6- القول بالمساواة يلزم منه تغيير المنظومة بكاملها، منظومة الإرث والأسرة، فتقرير عدم العدل في صورة لعدم تساوى الأنصبة بين الرجل والمرأة، يلزم منه وجوده في كل الصور التي تختلف فيها الأنصبة، كما يجب طرد المساواة في ملف الأسرة بكامله في المهر، والحضانة، والنفقة وهكذا.
7- تأسيس المطالبة بالمساواة على اختلاف وضعية المرأة في عصرنا من حيث عملها ودخلها وإنفاقها، يعني تغيير سبب الإرث وتعديله من القرابة كما حددها الشرع إلى التنمية أو العمل، وعليه فلابد من تعديلات أخرى في المنظومة حسب دعوى التنويريين فيُحرم المعاق والطفل مثلا من الإرث؛ لأنه لا يعمل ولا ينتج مثل المرأة اليوم! والقول به يعنى العودة إلى الجاهلية فقد حرموا الأطفال من الميراث؛ لأنهم لا يقاتلون، ثم جاء الإسلام فأعطى الطفل بمجرد الاستهلال أي الصراخ عند الولادة.
8- القائلون بالمساواة لم يختبروها ولم يدرسوا هل هي أكثر تحقيقا للعدل من منظومة الإرث في الإسلام أم لا؟ هل قمتم بمقارنات عملية بين أنظمة الإرث في أكثر الدول تحضرا وتمكينا للمرأة وبين نظام الإرث في الإسلام فوجدتم ظلما هنا، وعدلا هناك، وأين هى نتائج هذه المقارنات؟. طالبت طلابي في قسم الدراسات العليا بالمعهد الأوربي للعلوم الإنسانية بباريس وأنا أدرس لهم نظرية المواريث بعقد مقارنة بين إرث المرأة في الإسلام وإرثها في القانون الفرنسي، فقال لي طالب نجيب: قمتُ بهذا لا على سبيل الاستقراء التام، لكثرة سؤال الفرنسيين في هذه المسألة، وعرضت نتائج مقارنتي على باحثة فرنسية غير مسلمة فقالت لي: أنا أفضل المنظومة الإسلامية لكونها أربح لي من غيرها.
9- وظيفة الإجماع الأصولي -إذا ثبت بشروطه- كدليل من الأدلة النصية المتفق عليها، نقل الأحكام من الظنية إلى القطعية، ونفي الاحتمالات الواردة على النص، ولهذا شُرط في المجتهد أن يعرف المسائل المجمع عليها، حتى يخرجها من حسابه في الاجتهاد والنظر.
فإذا أجمع الفقهاء قديما وحديثا على حرمة زواج المسلمة من الكتابي، أو على أنصبة الوارثين رجالا ونساء، فدائرة الاجتهاد والنظر في الحكمين أغلقت بالإجماع السابق، وانحصر الاجتهاد في فهم فلسفة الحكم وحكمته، وكيفية تنزيله في الواقع، لا في نقضه وتغييره، ولهذا فإن بعض الأصوليين قدم الإجماع كدليل على الكتاب والسنة، والسبب أنه اعتمد في مستنده على الكتاب والسنة، لكن بحث ونظر واجتهاد في دلالة النص على الحكم.
10- والقضايا الإجماعية المستقرة على الأقل نظريا في تاريخ الأمة تمثل الثوابت التي لا يجوز الخروج عليها، وهى تجسد الوحدة الفكرية والشعورية والعملية للأمة وتعصمها من التفكك والذوبان.
عندما يقول الله عز وجل في آيات المواريث: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11) } [النساء: 11]، ويقول: {وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} [النساء: 12]، ويقول {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 13، 14]، ويقول: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176]، ويقول: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176) ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله أعطى كل ذي حق حقه) بعد كل هذا البيان والتأكيد والتشديد يأتي من يقول: إن الحكم لا يناسب عصرنا ولابد من المساواة بين الرجل والمرأة في الميراث! هذا اتهام للشريعة بالنقص، وللمولى الجليل بالظلم وعدم العدل، أفكلما غابت عنا حكمة تشريعية أو بعد فلسفي لحكم من الأحكام نادينا بإلغائه، وطالبنا بتعديله؟! على أن التوارث قائم على فلسفة مقاصدية ومصلحية، وقد فتح بابها وبين بعضها الدكتورين: محمد عمارة، وصلاح سلطان، ويقيني أن الدراسة الفلسفية المتعمقة لمنظومة الإرث في الإسلام ستنتج تصورات مذهلة عندها سيرتد بصر المطالب بالمساواة خاسئا وهو حسير.
11- لقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على تعلم الفرائض، واختص بإتقانها وإجادتها بعض الصحابة كزيد بن ثابت، وجاءت آياتها حاسمة قاطعة لمنع التبديل والتحريف والتغيير بمرور الزمن، ولمنع التنازع والتقاتل والاختلاف بشأنها، وهى من الأحكام النادرة التي فُصلت تفصيلا دقيقا وشاملا محكما في القرآن الكريم.
لقد كشف الجدال بشأن المساواة بين الرجل والمرأة في الميراث عن خلل كبير في خطابنا الديني، ومناهج وعمل مؤسسات ومعاهد التعليم الشرعي في العالم العربي والإسلامي في مقدمتها الأزهر الشريف الذي عارض توجه المساواة بوضوح، إذ لم تنجح هذه المؤسسات في تحصين المسلمين ثقافيا، وتوعيتهم إلى ثوابت ومحكمات دينهم، بالبيان المقاصدي والفلسفي المعمق، وجاءت مناهج الفقه والمواريث خالية من بيان المقصد والعلة والحكمة، فلاقت تلك الدعوات قبولا عند شرائح من الناس، ومن الطريف أنه لم يخل بيان علمائي رافض للمساواة من الاستشهاد بما أنتجه الدكتورين العالِمين: محمد عمارة، وصلاح سلطان وهما ليسا بأزهريين!
فهل يوقظ الحدث الرموز العلمائية، والمؤسسات الدينية لإصلاح الخلل، وتصحيح مسار العمل، أرجو وآمل.
(*) رئيس لجنة الفتوى بألمانيا، وعضو المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث.