تمثل العولمة تحديًا كبيرا أمام قادة الأعمال المسلمين؛ فهي تمنحهم عبر آلياتها فرصًا أكبر لفهم السوق والتربح والانتشار، ولكنها بمرور الوقت تصبح شريكًا في تمييع الفرادة والخصوصية الثقافية وربما الدينية، لصالح النمط العالمي الأسهل في الانتشار عالميًا!
يشير د. بكر السرحان، الخبير ورئيس الجمعية الدولية للتسويق الإسلامي، في دراسته المنشورة عام 2010م، حول «البراندات الإسلامية» لتأثير ثقافة الحلال في فكرة التسويق لكل المنتجات، انطلاقاً من نمط تسويقي عالمي أصبح يستهدف الجوانب الثقافية للجمهور في ظل ثورة العولمة، وهو نمط يتخطى فكرة مجرد العرض والطلب للدخول في ثقافة المستهلك وما تحمله من عادات وتقاليد ومعتقدات دينية بل وأحلام!
مع الأخذ في الحسبان حالة المستهلك العمرية والجنسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية وجنسيته، لكن حين ننظر لآسيا والشرق الأوسط تحديداً، سنرى بوضوح كيف تؤدي الثقافة الدينية دوراً محورياً في فهم قيم السوق الحقيقية ومتطلباتها.
أسلمة «براندات» عالمية
تعد السوق الإسلامية واعدة بحق؛ حيث يبلغ تعداد المسلمين نحو 1.8 مليار نسمة، وتبلغ نسبة الشباب أو الفتية منهم نحو 60%، كما يورد السرحان في دراسته عن التسويق الإسلامي، ومقارنة بالأمم الأخرى، يقدر نسبة نمو المسلمين بنحو 35% بحلول عام 2030م، في المقابل يتوقع أن يكون أغلب العالم الغربي من فئة عمرية متقدمة في العمر، وبحسب التوقعات يبلغ حجم السوق الإسلامية بعد 6 سنوات من الآن نحو 30 تريليون دولار، في قطاعات التمويل والطعام والفندقة والموضة والإعلام والتجميل والدواء، على الترتيب من الأكبر للأقل.
وبحسب الدراسة؛ فلقد حدثت أسلمة لـ«براندات» بعينها لتتماشى مع فكرة الحلال، فلم تعد فقط الملابس الإسلامية والحجاب والمصارف الإسلامية، بل منتجات بديلة لـ«براندات» عالمية لمشروبات ومطاعم وأدوات تجميل وفنادق، وكلها تحمل رسالة مهمة للمستهلك بأن هذا المنتج أو الخدمة لا يتناقض مع معايير الشريعة الإسلامية الواضحة.
وبمرور الوقت، تحول هذا المدخل لشكل مغرٍ بشدة حتى في قلب العواصم الغربية، حيث يشكل نسبة المسلمين نحو واحد إلى خمسة من جملة مستهلكي العالم، ومع تزايد الطلب العالمي على المنتجات الحلال من قبل هؤلاء المستهلكين.
لكن الأغرب هو اتجاه «براندات» عالمية لشعار حلال داخل البلدان الإسلامية لضمان الأرباح، ومنها ماكدونالدز، بحسب دراسة تشينج، فقد استفادت الشركة بصافي أرباح يتجاوز 20% على أقرانها بيرجر كينج، وكنتاكي؛ بسبب تقديم هذا المفهوم للمستهلكين.
ألغام أمام السوق الإسلامية
يحلل كتاب تشارلز تريب، أستاذ السياسة، بعنوان «تحدي الرأسمالية.. الإسلام والاقتصاد الأخلاقي» ظهور مفهوم السوق الإسلامية، وقد اعتبر المفكرون الإسلاميون أن السوق مؤسسة ضرورية لكنها من الناحية الأخلاقية محلُّ ريبة، لأن الرغبة في تحقيق الربح عن طريق شراء الشيء بسعر زهيد ثم بيعه بسعر أعلى قد يتخذ سلوكيات حادَّة في التبادل والمقايضة، ومن ثم حاولوا ابتكار نظام اقتصادي إسلامي يجمع بين الفكرة الاشتراكية والرأسمالية بالاستفادة من قيم الشريعة التي ترفض الربا والمعاملات الحرام، ومن هنا ظهرت المصارف الإسلامية أواسط السبعينيات من القرن الماضي، لكن بمرور الوقت ورغم صعود أنساق تسويق المنتجات والخدمات الإسلامية، مع تراجع التزامها بالجوهر الإسلامي في متن التفاصيل، لصالح قيم رأسمالية بحتة تعلي الفردية والربح بأي وسيلة!
في كتاب مهم لباحث سويسري مخضرم في مجال الاجتماع، وهو باتريك هايني، بعنوان «إسلام السوق» الصادر عام 2005م، سنرى الوجه الآخر لفكرة إسلام السوق حيث جرى تعليب المفهوم الديني ليتماشى مع طبائع الاستهلاك، وتوغل ذلك حتى في مجال الموسيقى والمأكولات والملابس، فانتشرت أغاني الراب الإسلامية والحجاب الموضة، والدعاة الجدد الذين سيخبرونك كيف تصبح مليونيراً على سُنة الله ورسوله؟!
يقول المؤلف: أصحاب وممثلو إسلام السوق هم إسلاميون تنظيميون سابقون محبطون من فشل الإسلام السياسي، وإسلاميون تنظيميون حاليون وجدوا في تنظيماتهم بيئة خصبة لنشر فكر «المنجمنت» وتوفير المورد البشري لمشاريعهم، ودعاة جدد، ومثقفون متصالحون مع مفاهيم الحداثة، ومجموعات موسيقية تمثل الأغنية الحلال/ الفن النظيف.
قد لا نتفق مع الكتاب حين لا يتعاطف مع حملات دعاة إسلاميين في مجالات الملابس والطعام ونحوها، فهو من خلفيته الغربية ينظر بريبة لتحول تلك الأنشطة لمزيد من الربحية العالية باستخدام الدعاية الدينية، ولكن يمكن الاتفاق معه في جزئيات تتعلق بالقيم التي أهدرتها «براندات» إسلامية، وقد ضرب مثلاً بشركات الحجاب التي تنتج حجاب موضة بألوان فاقعة لا علاقة له بفلسفة الحجاب الشرعية.
يؤكد هايني: لقد فهم رجل أعمال فرنسي تونسي يدعى توفيق المثلوثي تلك المعادلة الرابحة، فأنتج خط «مكة كولا» وحقق انتشاراً أوروبياً، فشعاره لا تشرب كالأحمق.. اشرب ملتزماً! ويعني ملتزما بقضية، وقد وزعت الشركة بالفعل 10% من عائداتها لصالح أطفال فلسطين، وأخرى لصالح اليمن، ودعمت حملة مقاطعة المشروبات الأمريكية خاصة خلال الحرب على العراق عام 2003م.
ويرى المؤلف أن هناك دولاً بأكملها قد استفادت من فكرة الاقتصاد الإسلامي، ومنها ماليزيا وإندونيسيا وتركيا وكثير من دول الخليج، وقد استفاد رجال أعمال مصريون من حالة الانفتاح والتراكم المالي التي أتاحها نظام السادات ووجدوا بـإسلام السوق هروباً من التقشف الذي فرضته القوى الدينية التقليدية، وقد بحث هؤلاء عن تدين عملي غير مُسيَّس ولا يتصادم مع الدولة ما بعد الكولونيالية التي خرجت منتصرة من كل معاركها مع الحركة الإسلاميَّة تقريبًا!
وبرغم ملاحظاتها على بعض النماذج المتحيزة، تؤكد د. هبة رؤوف، أستاذ العلوم السياسية والحضارة، في تقديمها للطبعة العربية لكتاب هايني، أنه يبشر بظاهرة تحول الخطاب الإسلامي لسلعة أقرب ما تكون للرأسمالية الأمريكية في ظل هيمنة العولمة، وأبعد ما تكون عن جوهر الإسلام!
وتربط رؤوف بين انغماس الشباب بمواجهة الاستبداد والتحول الديمقراطي خلال الحقب الماضية، إذا بمشروع علماني خفي يدفعهم اليوم للانغماس في صحوة الاستهلاك ودعم الذات والتخلي عن الأفكار الكبرى كالأمة الواحدة والجهاد ومجريات السياسة بأوطانهم، وجرى التباس كبير بمفاهيم كالحشمة والستر وهي فلسفة الحجاب ليصبح مجرداً من كل ذلك ووسيلة للظهور الاجتماعي بماركات أحدث بيوت الموضة، بل تأثرت التنظيمات الإسلامية ذاتها بعوارض عولمية حداثية فأصبح تركيزها على السياسة والحشد الجماهيري كهدف لا وسيلة!