يتميز د. يوسف القرضاوي عن غيره من العلماء والمربين بمواكبة قضايا العصر، مستخدماً كافة الوسائل التي تناسب تطور الحياة، وإذا تتبعنا الوسائل التي استخدمها الشيخ منذ بداية التحاقه بركب دعوة الإخوان وحتى اليوم سنجد ظاهرة زادت من أثره في الشباب؛ وهي استخدام الآليات التي تؤثر في الشباب وتناسب عقولهم واهتماماتهم، فعندما كانت المحاضرة والمقالة هي المؤثرة اقتصر الشيخ عليها، وعندما أصبح الكتاب له الأثر الأكبر ساهم في المكتبة الإسلامية بعشرات الكتب، واليوم عندما باتت الفضائيات ومواقع الإنترنت ظاهرة العصر وملتقى الشباب كان هو نجمها الأبرز وصاحب التأثير الأعظم، دون أن يهمل ما اعتاده من وسائل ضعف أثرها مع الزمن.
هذا التنوع في الوسائل والآليات، وهذه المرونة المستجيبة لحاجات العصر، وهذا الاقتراب من الشباب وطريقتهم في التواصل ومع الجمهور وتقلباته، يمثل أحد معالم شخصية الشيخ القرضاوي ومدرسته، مدرسة الوسطية والاعتدال، مدرسة الإخوان المسلمين التي تعلم فيها من حسن البنا، الذي قال في رسالة “دعوتنا” في أوائل ثلاثينيات القرن الميلادي الماضي: “والدعاة اليوم غيرهم بالأمس، فهم مثقفون مجهزون مدربون اختصاصيون -ولا سيما في البلاد الغربية– حيث تختص بكل فكرة كتيبة مدربة توضح غامضها، وتكشف عن محاسنها وتبتكر لها وسائل النشر وطرائق الدعاية، وتتلمس لها في نفوس الناس أيسر السبل وأهونها وأقربها إلى الإقناع والاتباع، ووسائل الدعاية الآن غيرها بالأمس كذلك، فقد كانت دعاية الأمس كلمة تلقى في خطبه أو اجتماع، أو كلمة تكتب في رسالة أو خطاب.. أما الآن (منذ ثلاثة أرباع القرن) فنشرات ومجلات وجرائد ورسالات ومسارح وخيالات ومذياع، وقد ذلل كله سبل الوصول إلى قلوب الناس جميعهم، نساء ورجالاً في بيوتهم ومتاجرهم ومصانعهم ومزارعهم”.
وكان القرضاوي أول المستجيبين لهذه النصيحة الثمينة، فلم يترك وسيلة إلا وانتهجها لخدمة الإسلام والمسلمين:
1- الخطابة:
كانت الخطابة وما زالت أقوى وسائل الشيخ تأثيراً، فقد بدأ تأثيره في الشباب بخطاباته في محافل الإخوان المسلمين وفي خطب الجمعة، ثم محاضراً في المعسكرات والندوات والمؤتمرات، يتحدث متدفقاً بلغة عربية سليمة فصيحة يستشهد بأشعار وأقوال مأثورة تلخص الفكرة التي يريد إيصالها، فلا يكتفي بهز المشاعر، بل ينير العقول بفكرته المؤيدة بالأدلة والبراهين.
وما زال الشيخ حريصاً رغم السن والمرض على خطبة الجمعة مواظباً عليها، واليوم تنقل الفضائيات والمواقع الإلكترونية خطب الجمع إلى مشارق الأرض ومغاربها.
2- الكتابة:
كان كتاب “الحلال والحرام في الإسلام” أول كتاب اقتنيته من كتب الشيخ القرضاوي، وما زال من أفضل كتبه، وأوسعها انتشاراً، وقد اقتنيته عام 1974م طبعة “دار الاعتصام”، التي ثار بسببها جدل شديد، وغضب الشيخ من دار النشر، بسبب قيام الناشر بإلحاق مذكرة تعترض على بعض آراء الشيخ الفقهية، مما عكس رؤية متشددة تخالف منهجه المعتدل الذي ضمنه في مقدمة الكتاب، مؤصلاً لمدرسته الفقهية وطريقته في التوفيق، والترجيح بين آراء المذاهب وأقوال العلماء، قبل أن ينتقل في مرحلة أخرى من حياته إلى الاجتهاد الفردي بجانب الاجتهاد الجماعي، كان ذلك عام 1974م، في الطبعة الثامنة للكتاب، ويعكس هذا الجدل أحد الفروق بين عقلية الشيخ الفقهية والفكرية، والعقلانية التي كانت سائدة في هذه الفترة المهمة من فترات التحول في مسيرة الحركة الإسلامية، تعرض فيها الشباب إلى مؤثرات متعددة ومتعاكسة أحياناً أو متضاربة.
ومن الكتب التي درسناها وأسست طريقة خاصة للتفكير ومنهجية في تناول القضايا المتصلة بالثقافة الإسلامية كتابان ما زلت أرجع إليهما كثيراً، وهما: “الإيمان والحياة”، و”الخصائص العامة للإسلام”.
فقه الواقع
نستطيع تقسيم كتب الشيخ إلى أقسام متعلقة بالمراحل التي مرت بها حياته وتأثيره وتأثره بواقع الشباب وحاجاتهم، وهذه خاصية من خصائص الشيخ، مثل أستاذه الشيخ محمد الغزالي، فلم يكن يؤثر فقط بحديثه أو كتاباته، بل كان يتفاعل مع القضايا التي يثيرها الشباب، وتلك التي تحتاجها الأمة ويطور ما يعرضه مع الحاجات المستجدة.
هناك كتب شكلت “البنية الأساسية” لفكر الشيخ، وما زالت قادرة على العطاء، وهي كتاباته الأولى، مثل: “الإيمان والحياة”، “الحلال والحرام في الإسلام”، “الخصائص العامة للإسلام”، “العبادة في الإسلام”، “فقه الزكاة”، ومعها سلسلة “حتمية الحل الإسلامي”.
وهناك كتب شكلت استجابة لحاجات الحركة الإسلامية، مثل: “الصحوة الإسلامية بين الجمود والتطرف”، “أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة”، “الصحوة الإسلامية وهموم الوطني العربي والإسلامي”، “من أجل صحوة إسلامية راشدة”، “الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم”.
وهناك كتب عن كبرى الحركات الإسلامية “الإخوان المسلمون”، مثل: “التربية الإسلامية ومدرسة حسن البنا”، “الإخوان المسلمون 77 عاماً من الجهاد والتضحية”، وهو تاريخ مختصر للجماعة، التي قضى الشيخ فيها حياته تقريباً عاملاً مجتهداً ناصحاً.
وهناك كتب قدمت بحوثاً وحلولاً لقضايا تشغل الحركة الإسلامية، مثل: “غير المسلمين في المجتمع الإسلامي”، “ظاهرة الغلو في التكفير”، “الوقت في حياة المسلم”، “كيف نتعامل مع القرآن الكريم؟”، “كيف نتعامل مع السُّنة النبوية؟”، “الفتوى بين الانضباط والتسيب”.
كما أن هناك بحوثاً فقهية وكتباً للفتاوى بعد “الحلال والحرام”، مثل: “فتاوى معاصرة”، “تيسير الفقه”، “فقه الصيام”، “بيع المرابحة للأمر بالشراء”، “تجربة المصارف الإسلامية”، “قضايا معاصرة على بساط البحث”، “فوائد البنوك هي الربا المحرم”.
وقد زادت كتب الشيخ على 60 كتاباً، وبارك الله فيها، فتمت ترجمتها إلى عدة لغات أجنبية، كما أنه كتب ديواناً واحداً “نفحات ولفحات”، ولم يكتب عن أشخاص إلا عن أستاذه “الإمام الغزالي بين مادحيه وناقديه”.
ولم يكن الشيخ يكتب مجرد بحوث علمية مجردة أو لمجرد الكتابة وتسويد صفحات الكتب، ولكنه كان يكتب ليؤثر ويربي ويوجّه ويصحّح، وكانت كتاباته كأستاذ وعميد كلية الشريعة بقطر ليست مجرد كتابات علمية جافة، بل تنبض بالحياة وتواكب المتغيرات وترشد الشباب.
3- معايشة القرضاوي الشباب:
لقد عرفنا الشيخ كجيل منذ أكثر من ثلاثين سنة، ولم يكن تأثيره فينا بسبب خطبه وكتبه فقط، بل اللقاء المباشر معه والمعايشة له أكبر الأثر في نفوس المجموعة التي تولت قيادة الشباب المسلم بالجامعات المصرية والجاليات الإسلامية بالغرب والتجمعات والجمعيات الإسلامية في مدن وقرى مصر.
لقد بات الشيخ ليلة معنا إبان السبعينيات وهو في عنفوان اكتهاله ورجولته في حجرتنا الشهيرة (25 ج) بالمبنى الثاني بالمدينة الجامعية لطلاب جامعة القاهرة، وهي الحجرة التي كنت أسكنها في مرحلة دراستي النهائية بكلية طب قصر العيني بالقاهرة، وسكن معي فيها أخي د. حلمي الجزار الذي تخرج بعدي بدفعتين، وكانت مقراً لنشاط بلغ مداه من الإسكندرية إلى أسوان، كما حضر عدة مناسبات للشباب، وكان قدوته الشيخ محمد الغزالي يرحمه الله الذي أصر على ركوب سيارة عرس أخي حلمي، معه وعروسه، للذهاب إلى بلدته سرس الليان بمحافظة المنوفية (شمال غرب مصر).
وكان الشيخ أثناء إجازته التي كان يقضيها في مصر يلقانا لساعات طوال في شقته في “حي شبرا”، ثم في مدينة نصر، نتحاور حول هموم الصحوة ومشكلات الشباب، وخطط المستقبل، وجدول زياراته ومحاضراته.
وفي الثمانينيات كان للندوة التي أدرتها في نقابة الأطباء بمصر بين الشيخ الغزالي والشيخ القرضاوي في الجانب الإسلامي، ود. فؤاد زكريا، وغاب عنها فرج فودة، كان لها أثر غير محدود في توضيح الشبهات وتنقيح الأفكار لدى الشباب، حيث دارت حول “العلمانية في مواجهة الإسلام”.
لذلك كان لمعايشة القرضاوي مع الشباب أكبر أثر؛ لأنه أبعد من التأثير البعيد بالكلام والحديث والخطابة إلى الحوار والإجابة عن الأسئلة والاستفسارات.
تجول الشيخ في معظم مدن وجامعات مصر، حينما كانت حرية الحركة مسموحاً بها، وعندما كانت صحته وظروفه تسمح له بذلك من الإسكندرية إلى سوهاج بصعيد مصر.
4- الفضائيات والإنترنت:
كان الشيخ أسبق الجميع إلى الحديث الدوري في فضائية “الجزيرة” وغيرها من القنوات الفضائية، وكان لبرنامجه الأسبوعي “الشريعة والحياة” تأثير هائل في الشباب خاصة، ومع أن بعض الشباب من الاتجاهات المغالية تعمدوا التشويش عليه بأسئلتهم وانتقادهم، فإنه استطاع من خلال الحلقات أن يكون عقلية وسطية متسامحة في مواجهة الإفراط والتفريط، أو التساهل والتشديد.
كما بذل الشيخ جهداً هائلاً في إطلاق موقع “إسلام أون لاين” الذي تحول إلى شبكة واسعة لنشر الثقافة الإسلامية ومتابعة أخبار العالم الإسلامي، وأنشأ الشيخ لنفسه موقعاً شخصياً كان من أسبق المواقع الشخصية ليتعرف الجميع على كتبه وخطبه وبرامجه وأحاديثه ويجيب من خلاله على الفتاوى والأسئلة.
5- المشاركة في الندوات والمؤتمرات العالمية في مختلف بلاد الدنيا.
6- عضوية عدد كبير من المجامع الفقهية، بجانب تأسيس ما يحتاجه المسلمون منها، مثل: المجلس الأوروبي للإفتاء، والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
7- المشاركة في الهيئات الإغاثية الخيرية، مثل: الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية بالكويت.. وغيرها.
8- تشجيع الشباب ودفعهم للنشاط العلمي والحركي والانحياز إليهم باستمرار والإشادة بجهودهم وأعمالهم.
جزى الله الشيخ عنا خير الجزاء، ووفقه الله تعالى لإنفاق ما تبقى من العمر في كل ما يفيد الأجيال والصحوة الإسلامية التي انتقلت من مرحلة الانتشار والذيوع والدفاع والهجوم، إلى مرحة المسؤولية والاختبار لأفكارها وبرامجها، وما أدقها من مرحلة، وما أصعبها من تبعات، وما أشقه من اختبار!
____________________________________________________
العدد: 1767، 19 شعبان 1428هـ / 1 سبتمبر 2007م، ص34–36
كاتب المقال: د. عصام العريان