أصبحت فيديوهات التعري النسائي في مجتمعاتنا العربية ظاهرة مقلقة يتوالى انتشارها، إذ تنشر بعض الفتيات مقاطع فيديو تحتوي على تعرية أجسادهن مقابل زيادة عدد المشاهدات، ومن ثم جني المزيد من الأرباح، خاصة على منصة «تيك توك»، التي تحولت إلى «مستنقع دياثة» بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
هذه الظاهرة تنم عن انحلال أخلاقي وثقافي، وتؤثر سلباً على الفتيات نفسهن وعلى مجتمعاتنا بأسرها، وسأحاول في مقالي هذا الإجابة عن 3 أسئلة مهمة: لماذا تعكس وسائل التواصل الاجتماعي عن انزلاق نحو مستنقع الدياثة؟ وما الأثر التربوي لذلك على مقدمات هذا المحتوى؟ وكيف يمكن مواجهة ثقافة التطبيع مع العري والدياثة في مجتمعاتنا؟
إذا كانت وسائل التواصل الاجتماعي أدوات حديثة وفعالة للتواصل والتفاعل بين الأفراد والجماعات، إلا أنها في الوقت نفسه تحمل أخطاراً وتحديات كبيرة، خاصة عندما تستخدم بشكل يمثل انزلاقاً أخلاقياً، وتخلياً عن شرف الأسرة واحتشام الشرع، والانصياع للشهوات والغرائز التي سماها القرآن «خطوات الشيطان».
سيل فاضح
ويكشف تقرير الشفافية الثاني، الذي نشرته شركة «تيك توك»، في عام 2020م، مدى ما وصلت إليه الظاهرة، إذ أورد أن الشركة أزالت أكثر من 49 مليون مقطع فيديو تضمن محتوى جنسيًا أو إباحيًا وتعريًا؛ أي أن سيل محتوى التعري على المنصة لا يعبر عن كل المعروض، بل عن بعضه.
وتدل ظاهرة كتلك على فقدان الفتيات، من مقدمات هذا المحتوى، لقيمهن وثقافتهن، وانخداعهن بالأفكار والصور الغربية المغرية التي تروج لها بعض الجهات المعادية للأمة الإسلامية، بهدف إضعاف هويتها.
وفي المقابل، تعبر هذه الظاهرة عن انتشار «التطبيع مع الدياثة» لأسباب ثقافية، تتعلق بالتحلل من القيم الدينية، أو اقتصادية واجتماعية، تتعلق بحالة العوز في بعض المجتمعات، التي تلجأ فيها بعض الأسر إلى عرض لحوم نسائهن للتكسب.
وبحسب قاموس المعاني، فإن الديوث في اللغة العربية هو الرجل الذي لا يغار على أهله، وفعل «داث» يشير إلى التساهل، فنقول: «داث عليه الأمر»؛ أي سهل عليه، والمصدر دياثة.
وباللغة الإنجليزية الدياثة (Cuckoldry)، والديوث (cuckold)، وقد دخلت هذه الكلمة في قاموس المصطلحات السياسية كإشارة للسياسي الذليل أو الضعيف، حسب قاموس أوكسفورد، كما تستخدم هذه الكلمة لوصف الديوث بنفس المعنى العربي.
فشل قيمي
وينم تفشي محتوى الدياثة على «تيك توك» بالذات عن حالة فشل قيمي ناتج عن الانسحاب الرسمي عن صيانة القيم وعن حماية حرمة الفتيات وحفظ كرامتهن في غالب بلداننا العربية، وانحدار المستوى الأخلاقي والثقافي لدى بعض فئات المجتمع، التي تشارك في إنتاج أو نشر أو مشاهدة هذه الفيديوهات.
ويعزز من التطبيع مع هذا المحتوى رواج ثقافة العري في أعمال الدراما والسينما، ليس فقط في مشاهدها، بل في حفلات ومهرجانات أبطالها وبطلاتها، مع ما يؤدي تراكمياً إلى «حالة تطبيع بصري» مع العري، ومن ثم يتحول التطبيع البصري إلى ثقافة ثم تتحول الثقافة إلى سلوك، سواء من جانب المتعرية، أو من جانب أولياء أمور باتوا يشجعون محتوى التعري، بل ويظهرون فيه مع بناتهم أحياناً!
ومع ظهور الأفلام الإباحية وانتشارها، خاصة بين الرجال، ازدادت السلوكيات المنحرفة بشكل ملحوظ، نتيجة الرغبة بتجربة ما يشاهدونه على أرض الواقع، بحسب دراسة أجرتها جامعة بريغام يونغ الأمريكية، في مارس الماضي.
ولانتشار هذه الفيديوهات أثر تربوي شديد السلبية على البنات، سواء كان ذلك على المستوى الفردي أو الاجتماعي، فعلى المستوى الفردي تؤثر هذه الظاهرة على نفسية وشخصية وسلوك البنات، فتسبب لهن الإحباط والاكتئاب والانعزال والخجل والندم، وتقلل من ثقتهن بأنفسهن وبقدراتهن وإمكانياتهن، وتجعلهن عرضة للتعرض للعنف أو الاستغلال أو الابتزاز من قبل الآخرين، حسبما أوردت دراسة أجرتها الباحثة بجامعة الجزائر حيمر سعيدة، ونشرتها مجلة «آفاق» للعلوم، في سبتمبر 2022م.
واستخدمت الدراسة أداة الملاحظة المنتظمة والمقابلة مع 30 مراهقة، وخلصت إلى أن تطبيق «تيك توك» يؤثر سلباً على المنظومة القيمية للمراهقات، ويسبب لهن الشرود، والقلق، والنسيان.
كما يؤثر هذا النوع من المحتوى على مستوى التحصيل الدراسي والمهني للبنات، فتقلل من اهتمامهن بالعلم والمعرفة والتطور، وتحول دون تحقيق طموحاتهن وأحلامهن، بحسب الدراسة.
وعلى المستوى الاجتماعي، تؤثر هذه الظاهرة على علاقة البنات بأسرهن ومجتمعهن، فتضعف من رابطة الأسرة، كما تؤثر على مستقبل البنات في الزواج والإنجاب، فتقلل من فرصهن في إيجاد شريك حياة ملائم ومحب.
جهود مشتركة
ولمواجهة ثقافة التطبيع مع العري والدياثة في مجتمعاتنا، نحتاج إلى جهود مشتركة من كافة المؤسسات والفاعلين في المجتمع، بدءاً من الأسرة وانتهاء بالدولة، ومن أهم هذه الجهود توعية الفتيات بخطورة هذه الظاهرة على دينهن وشرفهن وحياتهن، وبضرورة حفظ حدود الله في سلوكهن ومظهرهن، وبأحكام التزام المحافظة على ستر المسلمات.
كما أن تشجيع الفتيات على اكتساب المعارف والمهارات التي تؤهلهن للانخراط في المجالات التعليمية والمهنية بشكل فعال له أثر مهم في إبعادهن عن استسهال طرق الربح غير الشريفة، فضلاً عن أهمية توفير بيئة آمنة وصحية للفتيات في المدارس والجامعات والأماكن العامة، تحميهن من التغرير بهن.
وفي إطار معالجة شاملة للظاهرة، فإن تقديم الدعم والمساعدة للفتيات المتضررات من ظاهرة الدياثة الإلكترونية ضروري، سواء كان ذلك على صعيد العلاج النفسي أو الاجتماعي، وتأهيلهن للعودة إلى حياة طبيعية وكريمة.
ولا سبيل إلى ذلك كله إلا بتعزيز دور المؤسسات التربوية والثقافية والإعلامية في نشر الوعي والثقافة الإسلامية، ومواجهة التأثيرات السلبية للثقافة الغربية، وتصحيح المفاهيم الخاطئة عن الحرية والحداثة والتحرر، وتفعيل دور الأئمة والدعاة والمرشدين في تبصير الناس بأحكام الله وحكمته، وبيان مفاسد ظاهرة العري والتطبيع مع الدياثة على دينهم ودنياهم، وحثهم على التزام التقوى والحياء والستر.
إن خلاصة الحل في عودة علاقة التكامل بين المسجد والأسرة والمدرسة، لتربية جيل مؤمن يحب ربه ويرضى به، ويخدم أمته ويرفع شأنها.