ليس لأنَّه أولى القبلتين وثالث الحرمين ومسرى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وحسب، وإن كان كل اعتبار من هذه الاعتبارات له وزنه في الحسّ والضمير الإسلاميِّ، وإنّما يعدّ المسجد الأقصى رمزَ الصراع الأكبر، وتُعَدُّ قضية القدس أمَّ القضايا؛ لهذه الاعتبارات، ولأمر آخر أشد خطراً وأبعد أثراً، له جذوره الضاربة في أعماق التاريخ، وله آثاره الممتدة إلى قرب ظهور المسيخ؛ فهل يعي المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها أنّ ما يخطط له الصهاينة اليوم تجاه المسجد الأقصى ليس مجرد هدم لمسجد وإن كانت له قدسية خاصة وإنّما هو في حقيقته التهام لكل ما من أجله احتدم الصراع بين الأمة الإسلامية والأمة الصهيونية؟
المخطط القديم
منذ اللحظة الأولى لقيام ما يسمى بدولة «إسرائيل» والصهاينة يخططون لهدم المسجد الأقصى وبناء هيكل سليمان المزعوم على أنقاضه، وبعد النكسة واحتلال العدو الصهيونيّ للضفّة بدأت محاولات تنفيذ المخطط الخبيث، ففي البداية حاولوا عبر الحفريات التي قاموا بها أن يثبتوا وجود آثار لهذا الهيكل تحت الأقصى، لكنّ محاولاتهم كلها باءت بالفشل، ولهول ما فوجئوا به بسبب انهيار النبوءات تحت مطارق البحث العلميّ؛ لم يستطع علماء الآثار «الإسرائيليين» أن يخفوا ولو قدراً ضئيلاً من الحقيقة، فهذا إسرائيل فنكلشتاين، الملقب بأبي الآثار، يصرح لصحيفة «جيروزاليم بوست»، بأنّه لا وجود لأيّ آثار تدعم الروايات التاريخية، ثم يأتي عالم الآثار «الإسرائيلي» رافاييل غرينبرغ، الأستاذ بجامعة تل أبيب؛ ليؤكد ما قاله فنكلشتاين وينفي نفياً قاطعًاً وجود أي آثار للهيكل تحت المسجد الأقصى، ثمّ جاء عالم الآثار يوني مزراحي ليستنكر بهذه الطريقة الساخرة: إنهم يواصلون التنقيب لأنَّ هذا التنقيب مدفوع بأجندة سياسية.
المخطط الجديد
وجاءت الخطة البديلة، خطة التقسيم الزماني والمكاني، إذْ يرى الصهاينة أنّه يتوجب على المسلمين أن يغادروا المسجد الأقصى من الساعة 07:30 حتى 11:00 صباحاً، ثم من الساعة 1:30 حتى 2:30، إضافة إلى فترة أخرى بعد العصر، من أجل تخصيص هذه الأوقات لليهود، وإفساح المسجد لهم لأداء ثلاث صلوات كل اليوم؛ ويتعللون بأنه لا يوجد صلاة للمسلمين في تلك الأوقات، كما يرون وجوب إخلاء المسجد الأقصى لليهود في أعيادهم، تلك التي تقارب المائة يوم في العام، إضافة إلى أيام السبت التي يجب أن تترك كاملة لليهود، هذا هو التقسيم الزماني.
أمّا التقسيم المكاني فيتمثل في تخصيص أماكن بعينها من المسجد الأقصى -الذي تبلغ مساحته 144 دونمًا- لكل طرف من الطرفين، وبذلك تخصيص أجزاء ومساحات من الأقصى للكيان الصهيونيّ؛ يختص بها لتكون معابد لليهود يؤدون فيها صلواتهم، وذلك تمهيدًا للاستيلاء الكامل على المسجد الأقصى ومنع المسلمين من دخوله، ولأجل الوصول لهذه الغاية قام الاحتلال في فترات سابقة بتحديد مسارات خاصة باليهود تمهيداً لهذا التقسيم، ومن المؤكد أنّ الاقتحامات الأخيرة لـ«الأقصى» تأتي في سياق المحاولات اليمينية لفرض واقع يمهد لهذا التقسيم الخبيث.
التأويل لاجتياز العقبات
يعارض غالبيَّة الحاخامات الأرثوذكس دخول جبل الهيكل، وموقف مركز حاراف الدّيني هو الرَّفض البات لصلاة اليهود في جبل الهيكل في الوقت الرَّاهن، بل إنّ الحاخاميَّة الكبرى في «إسرائيل» -وهي التَّشريعيَّة العليا في دولة الاحتلال- تعارِض بما يقارب الإجماع الصَّلاة في «الْأَقْصَى»؛ لكون اليهود غير طاهرين، ويتطلَّب التَّطهُّر -وفق حُكم الشَّريعة التلمودية- الاغتسال بما يُطلق عليه ماء الخطيئة، وهو عبارة عن ماء مخلوط برماد بقرة حمراء (لا شِيَةَ فيها)، لكنْ في خضمّ المعارَضة الدّينيَّة اليهوديَّة لاتّفاقيَّة أوسلو، أصدر مجلس يشا الذي يمثل حركة المستوطنين فتوى تبيح للحاخامات غير المعارضين لدخول جبل الهيكل بالذّهاب إليه لإرشاد جماعات المصلّين، وبرَّر ذلك بأنَّ الغياب اليهودي عن جبل الهيكل يغري السّياسيين بالتَّنازل عنه؛ فكان في هذه الفتوى مخرج لحكومة اليمين لتتعجل تحقيق الحلم الكبير، وخصوصًا بعد أن انتهت الْحُمَّى التي واكبت رأس الألفية الثالثة دون أن تقدم لهم مستنداً يعول عليه، فلا خيمة ولا شمعدان ولا بقرة حمراء؛ لذلك فالكيان ماضٍ في طريقه بأجندته اليمينية.
مآلات التصريح الصادم
وأخيرًا، يخرج المتطرف إيتمار بن غفير ليعلن بصراحة ووقاحة عن عزم دولة الاحتلال بناء كنيس يهوديّ في جبل الهيكل (المسجد الأقصى)، فهل سيستطيع الكيان المجرم أن يفعلها مستغلًّا الوضع المتردي في الضفة، ومستثمرًا جو الحرب الذي يخيم على فلسطين كلها؟ أم إنّ صمود المقاومة واعتصامها بالرباط المقدس في بيت المقدس سيقف حائلاً دون تحقيق ذلك؟ لا ريب أنّ الطائفة المنصورة لا ينقصها العزم ولا يعوزها الجد والحزم، ولكنّ «الأقصى» ليس مسؤولية الفلسطينيين وحدهم وإنّما هو مسئولية الأمة بأسرها.
الجذور التاريخية والعقدية للصراع
من هناك، من تلك النقطة الغائصة في أعماق التاريخ تبدأ مسيرة الصراع، حيث يتَلَقَّى إبراهيم عليه السلام الوعد بشرف الإمامة على البشرية والخلافة على منهج الله: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً) (البقرة: 124)، وبدعوة مستجابة يمتد الوعد في ذرية إبراهيم، مشروطاً بأنَّه لن ينال الظالمين: (قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة: 124)، ويتدفق نسل إبراهيم في فرعين: فرع إسحاق الذي تدفق على تؤدة في بني إسرائيل، الذين فضلوا على عالمي زمانهم، وفرع إسماعيل الذي أفضى بخلاصة عصارته في منتهى طرفه فكانت هذه الأمَّة.
والشطر الأول من سورة «البقرة» قبل أن ينتهي إلى وعد الله لإبراهيم وذريته بالإمامة ينتهي إلى نتيجة مفادها أنَّ بني إسرائيل غيّروا وبدلوا؛ بما يقضي بنزع الإمامة منهم؛ أمَّا سياق الآيات التالية لهذا الوعد الكريم فيسلط الضوء على الفرع الآخر من نسل إبراهيم عليه السلام، فيتحدث عن مكة والبيت العتيق وعن دعوة إبراهيم وإسماعيل بإخراج هذه الأمّة وبعث هذا النبيّ، وهذا يعني انتقال الوعد لهذه الأمَّة، وهذا الفضل الذي حازته الأمِّة الإسلامية بميراثها لوعد إبراهيم عليه السلام هو الذي حرك الحسد اليهودي.
وقد مارست الأمَّة حقها في وقت مبكر؛ وذلك بالإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى؛ إيذاناً بأيلولة ميراث إبراهيم كله إلى هذه الأمَّة، بما في ذلك الوعد لإبراهيم بالإمامة، والوعد له بأن يعطيه هذه الأرض المباركة له ولنسله من بعده -كما تنص على ذلك التوراة- فبالإسراء آلت القدس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبصلاته بالأنبياء إماماً في المسجد الأقصى توثق عقد الملكية الذي أوقف تنفيذه إلى أن جاء الفتح الإسلاميّ للشام.
ولئن كانت الحروب الصليبية الأولى قد تولاها النصارى بدافع الاستيلاء على القدس وأخذها من أيدي المسلمين، فإنَّ هذا الدافع قد أخذ بعداً عقدياً أعمق في الحملات الصليبية المعاصرة، بعد التحام العهد القديم مع العهد الجديد، وتحالف الصهيونية اليهودية مع الصهيونية الصليبية؛ ليبدأ الهوس الغربيّ بالوعد القديم، فيصدر وعد بلفور بوطن قومي لليهود وبعده بقرن يصدر وعد ترامب بصفقة القرن، تلك التي يسعى اليوم نتنياهو، وبن غفير في تنفيذها بالسلاح.