لم يدر في مخيلة أحد أن عصا الشهيد يحيى السنوار ستصبح أيقونة حول العالم، وأن مقطع فيديو لا يتجاوز دقائق، يعرب فيه عن أمنيته بأن يموت بـ«الأباتشي» سيغزو منصات التواصل، وأن قضيته العادلة ستتصدر «التريند» على مدار أكثر من عام، وكأنه امتلك منابر الدنيا، يخاطب الناس بالعمل لا بالعمل، وبالجهاد لا بالقعود.
إنها منابر القرن الحادي والعشرين؛ فيديو، مقطع صوتي، صورة، تدوينة، رسم كاريكاتيري، لحظة صدق وإخلاص، يمكن أن تكون خيراً من ألف رسول، وأقوى من ألف مدفع، وأفتك من ألف صاروخ، بل ربما تحقق ما لم تحققه الشعوب والأمم، أو ما يخطط له ملاك وأصحاب شبكات التلفزة والميديا.
الواقع يؤكد أن وسائل وأدوات جديدة فرضت نفسها على خارطة المنابر، في عالم يعج كل يوم بالجديد على صعيد وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة والإلكترونية، وسط تسارع هائل في عالم التكنولوجيا والاتصال، جعل من العالم قرية صغيرة، وصنع من هاتف صغير بحجم اليد، مدفعية ثقيلة، يحسب لها ألف حساب.
أذكر كيف تحول «بوست» من 3 أسطر، كتبته عبر صفحتي الشخصية على «فيسبوك»، إلى مشروع دراسة بحثية، سرعان ما تطورت إلى كتاب يجوب معارض الدنيا، لتزداد قناعاتي بأن في يد كل منا منبراً حقيقياً، يستطيع من خلاله أن يغرس ويربي وينتج ويغير ويصلح، بل ويقود الجميع نحو الأفضل، وما كلمات السنوار وعصاه عنا ببعيد.
إن من الخطأ التقليل من شأن فيديو، أو صورة، أو رسالة، أو «هاشتاج»، أو «تريند»، بعد أن باتت منصات التواصل منبراً عظيماً يفد إليه الناس من شتى بقاع الأرض، أكثر من 5 مليارات شخص؛ أي نحو 62.3% من سكان العالم، وفق بيانات صادرة عن شركة الاستشارات الرقمية «كيبيوس»، العام 2023م.
في ثوانٍ، يمكن لتطبيقات، مثل: «فيسبوك»، «واتساب»، «إنستغرام»، «تويتر»، «تليجرام»، «وي تشات»، «تيك توك»، «دويين»، أن تصل إلى ملايين الأشخاص حول العالم، وأن تغزو جميع الطبقات والفئات والجنسيات، وأن تتجاوز حدود الجغرافيا والتاريخ والدين.
وسائل دعوية
أنت تمتلك منبراً في يدك، هاتفك الذكي، الذي يمكن أن تجعل منه وسيلة دعوية، ومصحفاً متنقلاً، وأرشيفاً يحوي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، تذكر من تشاء بخير الكلام، أو تنشر أطايب القول، وقد توقظ به أصدقاءك لصلاة الفجر، وقد تقدم من خلاله الموعظة في أي مناسبة من خلال الاستفادة من المواقع المخصصة للخطابة والمحاضرات، كذلك يمكن أن تجعل من هاتفك عبر تطبيقات عدة مؤذناً للصلاة، وقارئاً للأذكار، ومذكراً بالخير والطاعات.
وعبر وسائل التواصل، يمكن للمرء، إذا خلصت النوايا، أن يجعل من صفحاته منابر حية، لنشر كل ما هو نافع للناس، ناصحاً بالخير، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، وأن يوظف البث المباشر لنقل فعاليات هادفة، ومواقف نبيلة، إضافة إلى تفعيل المقاطع المرئية القصيرة، والمساحات الصوتية و«البودكاست» كأنها مساجد متنقلة عبر الإنترنت.
وهناك بالفعل من نجح في توظيف برامج مثل «زووم» كمنصة تؤدي دور الكتاتيب لتحفيظ القرآن الكريم، بل مدارس إلكترونية لمدارسة علوم الدين بلغات أجنبية مختلفة، فتجد من المؤثرين من يحفظ أهل الغرب كتاب الله، أو يعلم غير الناطقين بالعربية لغة الضاد، أو ينشر الإسلام بين الأوروبيين، أو يصل بقيم الإسلام إلى الأمريكيتين، وكأنه سفير للإسلام.
وعلى المنوال ذاته، هناك من غزا «تيك توك» فأبدع وأنتج مقاطع هادفة، وهناك من أطلق قنوات على «يوتيوب» لخدمة الدين والعلم ونشر الفضيلة، أو فتح أبواب الاستشارات والفتاوى عبر التطبيقات الإلكترونية، وأنشأ مكتبات علمية وفقهية ضخمة عبر الإنترنت، وأتاح أمهات الكتب لعلوم التفسير والفقه والحديث والسير والتراث لكل ذي حاجة.
وعبر تقنية الذكاء الاصطناعي، يتم حالياً إطلاق داعية متخصص في الحوار مع غير المسلمين؛ للرد على استفساراتهم حول الإسلام، وتفنيد الشبهات المثارة حول دين الله، وإجراء محادثات متعددة بلغات مختلفة، ليكون منبراً ذكياً، وسفيراً عصرياً ينشر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها.
قبل شهور، نجح مدرس إيراني في تطوير «روبوت» يعلم الطلاب في المدارس الابتدائية كيفية تأدية الصلاة، وقراءة القرآن، في تجربة ممتعة، اجتذبت الصغار، ونالت إعجابهم، بل ساعدت على تصويب أدائهم للصلاة بالطريقة الصحيحة، بحسب وكالة «أسوشيتد برس».
وفي اليابان، تمكن باحثون من تطوير راهب آلي يقدم التعاليم البوذية، ويوفر إجابات مباشرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كمحاولة لاستعادة شغف اليابانيين بانتمائهم الديني، واستيعاب مشكلاتهم الروحية والأخلاقية، بواسطة آلة تجمع بين العلم والدين.
إن رقمنة الدعوة باتت أمراً واقعياً وحتمياً، في ضوء تكالب الناس على وسائل التواصل، والتفاف الشباب حول هواتفهم الذكية، وتغول التكنولوجيا على كافة جوانب الحياة، وهو ما يستلزم منا تطويعاً لتلك التقنيات في خدمة الإسلام، وتوظيف الذكاء الاصطناعي في الدعوة إلى الله تعالى، وهذا لن يتم بالمنابر التقليدية التي لا نقلل من شأنها، أو ندعو لمغادرتها، بل نطالب بالمزيد من التطوير، وتجييش خبراء الذكاء الاصطناعي لدعم الدعاة، وتقديم الإسناد لهم في معارك العولمة والتغريب والإلحاد والشذوذ والغزو الثقافي، وغيره؛ لنخرج البشرية من الظلمات إلى النور.