هذا السؤال أو الفرضية حول طبيعة نشأة الصحافة في مصر والعالم العربي، ليس ضرباً من ضروب الهزل ولا مجافياً للواقع، كما أنه ليس محاولة لتجميله أو العبث بمفرداته والخديعة بأماني كاذبة أو تسويق لمعلومات مغلوطة، أو صناعة وهم يخالف وقائع التاريخ.
لن نطيل حتى نسرد الحقائق للإجابة عن هذا السؤال الجاد الذي فرضته محاولات التزييف والجهود المبذولة بكل قوة لصناعة حالة من الهزيمة النفسية لأبناء الأمة الإسلامية عامة، بل ولطليعة العاملين من أجل إحيائها وإعادة بنائها من جديد.
حتى إن ما يتم تسويقه وترويجه من خلال المنظومة التغريبية ويتم طرحه كأنه حقيقة مطلقة، يسير على العكس من الحقائق المستقرة والوقائع التاريخية الجازمة، وذلك في سياق محاولات للتزييف وصناعة واقع بديل لا ينتمي إلى الحقيقة ولا يعبر عنها بحال.
الوقائع والحقائق تبدأ من سرد تاريخ نشأة الصحافة في مصر -ومن ثم في المنطقة العربية- التي تعود إلى منتصف القرن التاسع عشر، حيث سبقت هذا التاريخ بدايات لم تكن –وفقاً لروايات مؤرخي الصحافة المصرية والعربية– تعبر عن المجتمع المصري كما أنها لم تصل إلى المصريين أو تستهدفهم.
صحيح أن الفرنسيين اصطحبوا معهم في حملتهم التي امتدت في الفترة من عام 1798 إلى 1801م المطبعة وأصدروا صحيفتي “كورييه دليجيبت”، و”لا يكاد إيجيبسيان”، فإن كلتا الصحيفتين كانت باللغة الفرنسية واستهدفت الجنود الفرنسيين القادمين مع الحملة، ولم تتوجه أي من الصحيفتين إلى المصريين، ناهيك أن الفرنسيين عادوا بمطبعتهم وصحفهم من حيث أتوا عندما غادروا مصر.
ولعلنا نقف في هذه الإطلالة على عدد من المحطات الأساسية في الصحافة المصرية في مرحلة النشأة والتأسيس منذ منتصف القرن التاسع عشر لتجلية الحقيقة والوقوف على الوقائع كما هي دون تزيد أو نقص.
ومن أبرز المحطات جريدة “الأهرام” الأكثر شهرة في تاريخ الصحافة المصرية التي أسسها كل من سليم، وبشارة تقلا، وكلاهما مسيحي لبناني، وانتقلا إلى مصر وعاشا بين أهلها وكانا جزءاً من نسيجها.
وقد تبنى بشارة –رغم مسيحيته– فكرة الجامعة الإسلامية التي تمثلت حينها في الدولة العثمانية، وكان يرى أن هذه الجامعة “الخلافة” هي السياق الأفضل للشرق العربي عامة ولمصر خاصة.
وقد تبنى بشارة رؤية سياسية ذات بعدين؛ الأول: يرتبط بطبيعة الحكم في مصر، والثاني: يتعلق بطبيعة الامتدادات المهمة لمصر في السياقات الإقليمية والعالمية، حيث كان يرى أن مصر ينبغي أن تكون للمصريين ولكن مع ضرورة ارتباطها بالدولة العثمانية والجامعة الإسلامية.
وتأثر بشارة في هذا الطرح -مع غيره من الصحفيين والكتاب والمفكرين- بأفكار جمال الدين الأفغاني ورؤيته الواضحة الداعمة لفكرة الجامعة الإسلامية بديلاً عن الانحياز للغرب، وهو ما أثبتته وقائع التاريخ التي نسرد جانباً منها في هذه الإطلالة.
صورة من رؤية بشارة عن الدولة العثمانية
فقد جاء في كتاب “بشارة تقلا باشا 1853 – 1901م أقوال الجرائد ومراثي الشعراء” الذي طبعته جريدة “الأهرام” عام 1902م وذلك في الذكرى الأولى لرحيل بشارة: “كانت سياسته الداخلية مصرية عثمانية وقد أراد في وصيته أن تستمر الجريدة على هذه الخطة وستلبث عليها بإشارته إلى ما شاء الله”.
أي أن منهج بشارة في دعم الخلافة العثمانية وإيمانه بفكرة الجامعة الإسلامية بديلاً عن الانخراط في الحضارة الغربية كان خطاً تحريرياً ثابتاً من ثوابت الجريدة منذ تأسيسها بل وأوصى الرجل أن يظل الخط التحريري للجريدة منسجماً مع فكرة الجامعة الإسلامية حتى بعد وفاته.
صورة من غلاف كتاب الاهرام عن بشارة
وقد ورد في الموسوعة العربية ما يؤكد أن الخط الذي ارتضاه بشارة كان أصيلاً في فكر الرجل حيث ذكرت أن بشارة، وسليم تقلا خصصا نصف دخلهما من جريدة “صدى الأهرام” لمساعدة الجنود العثمانيين في حربهم مع الروس التي امتدت في الفترة من سنة 1877 حتى 1880م.
والتأكيد نفسه جاء من موقع “دار الوثائق الرقمية التاريخية” الذي أرخ لجريدة “الأهرام” مؤكداً أنها تميزت “بصغر خطها لكي تستطيع استيعاب أكبر عدد من الموضوعات دون زيادة في عدد صفحاتها، وكانت موالية للسلطان عبدالحميد”.
وقبل أن نغادر الحديث عن بشارة نجد أن ما طرحه من أفكار وتوجهات ساهمت بشكل كبير في فك عدد من الإشكالات التي حاول التيار التغريبي صناعتها على غير الحقيقة ولعل من أبرزها:
إشكالية موقف غير المسلمين من مشروع الجامعة الإسلامية (الخلافة) حيث تبنى الرجل منهجاً واضحاً في الانحياز للجامعة الإسلامية، ولم يجد تعارضاً يذكر بين اختلافه الديني وبين انتمائه الوطني الذي يوجب عليه الالتئام مع المكون الإسلامي إقليمياً ودولياً حفاظاً على مصلحة الأمة التي ينتمي لحضارتها وإن لم ينتمِ إلى عقيدتها.
ولعل هذا هو ذات المنهج الذي اقتنع به عدد من مسيحيي الشرق، كان من أبرزهم في المدى التاريخي هذه الثلة الشريفة التي اتسقت مع أفكار جمال الدين الأفغاني، ثم كان مكرم عبيد الذي ارتبط بعلاقة وطيدة مع حسن البنا وهو صاحب مقولة: “نحن مسلمون وطناً ونصارى ديناً”، ولم يكن آخرهم د. رفيق حبيب، نائب رئيس حزب “الحرية والعدالة” في مصر، الذي يؤمن بحاجة المنطقة العربية والإسلامية إلى مشروع “الجامعة الإسلامية” الذي تتبناه جماعة الإخوان المسلمين باعتباره ينتمي لهذه الحضارة رغم اختلاف معتقده الديني.
الإشكالية الثانية هي فك الاشتباك والتعارض بين الانتماء للوطن والانتماء للجامعة الإسلامية، وهي إشكالية صنعت على يد الغرب وعينه، فأفرزت واقعاً متطرفاً ضيق الأفق، يسعى البعض لفرضه على الأمة، ويفرض نوعاً من القطيعة بين الوطن وامتداداته الإسلامية، ولكن هذه الإشكالية لم تكن يوماً حاضرة لدى الشرفاء أمثال بشارة تقلا وغيرهم ممن أدركوا أنه لا تعارض بين أن تكون “مصر للمصريين” مع ضرورة ارتباطها بالجامعة الإسلامية.
الأفغاني صانع الصحافة
وإذا كانت تجربة “الأهرام” وبشارة تعد من أبرز التجارب التي تكشف الخلل في نقل وقائع التاريخ كما كانت تحدث، فقد كانت الانطلاقة الحقيقية مع الأفغاني الذي كان له دور بالغ في تأسيس الصحافة المصرية والعربية، حيث يذكر رامي عطا صديق في كتابه “تاريخ الصحافة المصرية في القرن التاسع عشر تاريخها وافتتاحياتها”: “أن وجود السيد جمال الدين الأفغاني في مصر خلال سبعينيات القرن التاسع عشر كان سبباً أساسياً في نشأة الصحافة الشعبية بداية من عام 1857م حيث كان الرجل محركا للمياه الراكدة وأثار تياراً من التفكير الحر وتتلمذ على يديه الكثيرون من طلاب العلم المتعطشون لكل ما هو جديد، كما أنه قد تبنى عدداً من الصحفيين مشجعاً إياهم على إصدار الصحف”.
ويذكر عطا أيضاً أن صحيفة “العروة الوثقى” التي أصدرها السيد الأفغاني مع الشيخ محمد عبده تعد أول صحيفة قاومت الاحتلال في عهده الأول، إذ كانت تدعو إلى الجامعة الإسلامية ومكافحة التسلط الأجنبي ومقاومة الطغيان الداخلي.
ويشرح د. عبداللطيف حمزة، مؤرخ الصحافة العربية، في كتابه “قصة الصحافة العربية في مصر”، منطلقات الأفغاني، وعبده الفكرية ،مؤكداً أنهما يريا أنه “لا حياة للمسلمين إلا في دينهم، وأن فكرة الجامعة الإسلامية يجب أن تقوم مقام الروابط الأخرى، ومتى فهم المسلمون دينهم على الوجه الصحيح وصلوا المرتبة اللائقة بهم بين الأمم”، مؤكداً أن السلطات الإنجليزية منعت -لهذا السبب- وصول الصحيفة لعدد من البلدان في مقدمتها مصر والسودان والهند ولا سيما أنها كانت تصل إلى كبار العلماء والزعماء والأمراء في جميع الأقطار الإسلامية”.
ويقول حمزة في ذات المصدر أن الأفغاني أوحى في أثناء مقامه في مصر إلى كثير من المصريين والسوريين بإنشاء الصحف منها صحيفة “مصر” التي أصدرها الشاب السوري أديب إسحق، واشترك الأفغاني، وعبده، في تحريرها، وصحيفة “التجارة” التي سارت على نفس النهج وكتب فيها الأفغاني وتلميذه محمد عبده وتلميذه عبدالله النديم، بالإضافة إلى صحيفة “مرآة الشرق” وصاحبها سوري اسمه سليم غنخوري، وقد ترك أمر تحريرها لإبراهيم اللقاني، وهو من تلاميذ الأفغاني.
مدرسة التحرير الصحفي
أما الشيخ محمد عبده فقد كانت له بصمات واضحة على الصحافة في وقت نشأتها، فقد عاشت صحيفة “الوقائع المصرية” في ظل رئاسته لتحريرها أزهى عصورها في الفترة من عام 1880 وحتى 1881م بعد أن وضع –وفقاً لما ذكر عبداللطيف حمزة- “نظاماً حديثاً من حيث التحرير والإدارة وجعلها تصدر باللغة العربية وحدها، وابتعد بها عن الطابع الرسمي وقربها كثيراً من الصحف الأهلية”، إضافة إلى الدور الواسع لكتابات محمد عبده التي انتشرت -مع أستاذه الأفغاني- في عدد من المطبوعات وكان من أبرزها صحيفة “العروة الوثقى” و”جريدة الأهرام” وغيرها من عشرات المطبوعات.
صحافة ما قبل الحرب الأولى
واستمر الطابع الإسلامي المتمثل في الدعوة للتمسك بالجامعة الإسلامية ومقاومة الاستعمار والحفاظ على الهوية الإسلامية ومقاومة الاستبداد هو الغالب على الصحافة حتى قيام الحرب العالمية الأولى، وإعلان الأحكام العرفية والحماية البريطانية عام 1914م.
وخلال هذه المرحلة التي سبقت الحرب العالمية ظهرت صحيفة “المؤيد” لعلي يوسف التي كان من أهدافها الحملة ضد الاحتلال البريطاني بشيء من الهدوء تخوفاً من التعطيل والدفاع عن الدين الإسلامي الذي كان غرضاً للاحتلال الإنجليزي.
كما ظهرت مجلة “المنار” لرشيد رضا، وصحيفة “اللواء” للزعيم مصطفى كامل عام 1900م وهو من مؤيدي الجامعة الإسلامية، وصحيفة “العلم”، وهي لسان حال الحزب الوطني 1910م، وصحيفة “الشعب” عام 1913م والتابعة أيضاً للحزب الوطني الذي كان يتبنى فكرة الجامعة الإسلامية ويدافع عنها بكل قوة.
وأخيراً، إذا كانت هذه هي حقائق التاريخ التي يتم تغييبها عمداً ومع سبق الإصرار والقصد، فنحن بحاجة –ونحن في طريقنا لاستئناف ما قدمه السابقون- أن نستكمل قراءة المشهد الصحفي والإعلامي في المراحل التاريخية الحديثة والمعاصرة خاصة بعد انطلاق المشروع الإسلامي الذي ارتبط بتأسيس جماعة الإخوان المسلمين عام 1928م، ثم نستخلص الدروس من هذا التاريخ ونسعى لقراءته قراءة واعية ترفع عنا محاولات الحصار المضروبة حول هذا المشروع والرامية إلى إضعاف ثقة أبنائه به ودفعهم إلى الانفضاض عنه أو البحث عن بديل له، وهو ما يحتاج إلى قراءة واعية لدروس التاريخ جنباً إلى جنب مع قراءة واعية للواقع المعيش.