أحد الأشكال الأساسية للعنف الصهيوني هو رفض الصهاينة قبول الواقع والتاريخ العربي في فلسطين، باعتبار أن الذات الصهيونية واليهودية هي مركز هذا الواقع ومرجعيته الوحيدة؛ ولذا يستبعد الصهاينة العناصر الأساسية (غير اليهودية) المكونة لواقع فلسطين وتاريخها من وجدانهم ورؤيتهم وخريطتهم الإدراكية، والإرهاب الصهيوني إن هو إلا محاولة تستهدف فرض الرؤية الصهيونية الاختزالية على الواقع المركب، ولذا يمكن القول بأن الإرهاب هو العنف المسلح (مقابل العنف الإدراكي).
والعنف النظري والإدراكي سمة عامة في الفكر العلماني الشامل الإمبريالي الذي حول العالم (أي حوله إلى وسيلة ونظر إليه باعتباره مجرد مادة استعمالية)، والصهيونية لا تمثل أي استثناء من القاعدة، فقد نشأت في تربة أوروبا الإمبريالية التي سادت فيها الفلسفات النيتشوية والداروينية والرؤية المعرفية الإمبريالية التي تتخطى الخير والشر التي تحول العالم والناس بحيث يصبح الآخر مجرد أداة أو شيئاً يستخدم.
ومع هذا يظل العنف الصهيوني ذا جذور خاصة تمنحه بعض السمات المميزة:
1- لم تكن الصهيونية حركة استعمارية وحسب، وإنما هي حركة استيطانية إحلالية (أرض بلا شعب)؛ وهو ما يعني ضرورة أن تُخلي الأرض التي سيُنفذ فيها المشروع الصهيوني من السكان الأصليين، ولا يمكن أن يتم هذا إلا من خلال أقصى درجات العنف النظري والإرهاب الفعلي.
2- من السمات الأساسية للأيديولوجيات العلمانية الشاملة، الحلولية العضوية، أنها تحوي مركزهاً أو مرجعيتها (أو مطلقها) داخلها، ومن ثم فهي تشكل نسقاً مغلقاً ملتفاً حول نفسه يخلع القداسة على الذات ويجعلها موضع الحلول والكمون ويحجبها عن الآخرين (الذين يقعون خارج دائرة القداسة) فيهدر حقوقهم ويبيدهم، فهم ليسوا موضع الحلول.
والصهيونية وريثة الطبقة الحلولية اليهودية (داخل التركيب الجيولوجي اليهودي) هي عقيدة علمانية حلولية كمونية تجعل اليهود شعباً عضوياً ذا علاقة عضوية خاصة بالأرض (إرتس يسرائيل) أي فلسطين، وهي علاقة تمنحهم حقوقاً مطلقة فيها، الأمر الذي يعني طرد السكان الأصليين الذين لا تربطهم بأرضهم رابطة عضوية حلولية مماثلة.
وقد حوّلت الصهيونية العهد القديم إلى فلكلور للشعب اليهودي، وهو كتاب تفيض صفحاته بوصف حروب كثيرة خاضتها جماعة يسرائيل أو العبرانيون مع الكنعانيين وغيرهم من الشعوب، فقاموا بطرد بعضهم وإبادة البعض الآخر، وجماعة يسرائيل يحل فيها الإله الذي يوحي لها بما تريد أن تفعل، ويبارك يدها التي تقوم بالقتل والنهب، فكل أفعال الشعب مباركة مقدسة لأن الإله يحل فيه.
3- ورثت الصهيونية ميراث الجماعة الوظيفية اليهودية بفصلها الحاد بين الشعب المقدس والأغيار وبما يتسم به ذلك من ازدواجية في المعايير تجعل الآخر مباحاً تماماً وتجعل استخدام العنف تجاهه أمراً مقبولاً.
لكل هذا، أصبح العنف إحدى المقولات الأساسية للإدراك الصهيوني للواقع والتاريخ، وقد أعاد الصهاينة كتابة ما يسمونه «التاريخ اليهودي»، فبعثوا العناصر الحلولية الوثنية مؤكدين جوانب العنف فيه، فصوروا الأمة اليهودية في نشأتها جماعة محاربة من الرعاة الوثنيين الغزاة، فميخا جوزيف بيردشفسكي (1865 – 1921م) المفكر الصهيوني، الروسي اليهودي، على سبيل المثال، ينظر إلى الوراء إلى الأيام التي كانت فيها رايات اليهود مرتفعة، وينظر إلى الأبطال المحاربين (اليهود الأوائل)، كما أنه يكتشف أن ثمة تياراً عسكرياً في التراث اليهودي، فالحاخام أليعازر قد بيّن أن السيف والقوس هما زينة الإنسان، ومن المسموح به أن يظهر اليهودي بهما يوم السبت، هذا الرؤية للتاريخ تتضح في دعوة فلاديمير جابوتنسكي (1880 – 1940م) زعيم الحركة التصحيحية لليهودي أن يتعلم الذبح من الأغيار، وفي خطاب له إلى بعض الطلاب اليهود في فيينا، أوصاهم بالاحتفاظ بالسيف لأن الاقتتال بالسيف ليس ابتكاراً ألمانياً، بل إنه ملك (لأجدادنا الأوائل.. إن التوراة والسيف أنزلا علينا من السماء)، أي أن السيف يكاد يكون المطلق، أصل الكون وكل الظواهر، ولهذا لا يتردد جابوتنسكي في رفض التاريخ اليهودي الذي يسيطر عليه الحاخامات والمفكرون اليهود.
ويبدو أن هذا السيف المقدس (رمز الذكورة والقوة والعنف) كان محط إعجاب كل الصهاينة الذين كثيراً ما عبّروا عن إعجابهم وانبهارهم بالعسكرية البروسية الرائعة (هذا بالطبع قبل أن يهوى هذا السيف البروسي على الرقاب اليهودية في أوشفتس)، وتمتلئ كتابات تيودور هرتزل، بعبارات الإعجاب بهذا السيف، إذ كتب في مذكراته يشيد ببسمارك الذي أجبر الألمان على شن عدة حروب، الواحدة تلو الأخرى، وبذلك فرض عليهم الوحدة وبدأ تاريخهم الحديث كدولة موحدة، فالعنف العسكري هو وحدة محرك التاريخ الحقيقي، (إن شعبنا كان نائماً زمن السلم، رحب بالوحدة في ابتهاج في زمن الحرب)، وبينما كان هرتزل ينظر من نافذة أحد المسؤولين الألمان شاهد مجموعات من الضباط الألمان يسيرون بخطى عسكرية، فعبّر عن انبهاره بهم في يومياته وذهب إلى أن هؤلاء هم صناع تاريخ ألمانيا: (ضباط المستقبل لألمانيا التي لا تقهر)، بل إنهم قد يكونون أيضاً صناع التاريخ الصهيوني نفسه، إذ يشير هرتزل إلى تلك (الدولة التي تريد وضعنا تحت حمايتها).
وتغنى الزعيم الصهيوني ناحوم جولدمان (1894 – 1980م) أيضاً بهذه الروح العسكرية البروسية في شبابه: «ألمانيا تجسد مبدأ التقدم ونجدها واثقة من النصر، ألمانيا ستنتصر وستحكم الروح العسكرية العالم، ومن يريد أن يندم على هذه الحقيقة ويعبر عن حزنه فله أن يفعل، ولكن محاولة إعاقة هذه الحقيقة هي شيء من قبيل العناد وجريمة ضد عبقرية التاريخ الذي تحركه السيوف وقعقعة السلاح».
وقد تبع مناحيم بيجن (مؤسس جماعة حيروت (الليكود فيما بعد) ورئيس وزراء إسرائيل الأسبق) أستاذه جابوتنسكي، وكل الصهاينة من قبله، في تأكيد أهمية السيف باعتباره محركاً للتاريخ إذ يقول: «إن قوة التقدم في تاريخ العالم ليست السلام، بل السيف».
وغني عن القول، إن العنف الصهيوني الإدراكي يصل إلى ذروته في إدراك العرب والتاريخ العربي، إذ يحاول الصهاينة، بسبب مشروعهم الإبادي الإحلالي، أن يلتزموا الصمت تماماً تجاهه، فلا يذكرونه من قريب أو بعيد، أو أن يغمغموا بأصوات ليبرالية تخبئ الحد الأقصى من العنف، فحينما اكتشف أحد الزعماء الصهاينة في المؤتمر الصهيوني الأول (1897م) أن فلسطين ليست أرضاً بلا شعب كما كان الادعاء، جرى إلى هرتزل وأخبره باكتشافه، فهدأ الأخير من روعه وقال له: إن الأمر ستتم تسويته فيما بعد، وكان هرتزل يعرف تماماً كيف كانت تتم تسوية مثل هذه الأمور على الطريقة الإمبريالية، ونحن نعرف كيف تمت تسويتها في فلسطين، وعلى كل فإن الحديث الصهيوني المستمر عن السيف كمحرك للتاريخ ليس تعبيراً عن رغبة الصهاينة في ممارسة رياضة محببة لبعض النفوس وإنما هو تعبير عن برنامج محدد لتغيير الواقع.
ويعد هذا العنف الإدراكي لبنة أساسية في التصور الصهيوني للذات والواقع والتاريخ والآخر، وقد يعبّر العنف عن نفسه بطريقة مباشرة، كما أنه قد يعبّر عن نفسه بطريقة غير مباشرة عن طريق عشرات القوانين والمؤسسات، وما قانون العودة «الإسرائيلي» إلا ترجمة لهذا العنف حين يُعطي أي يهودي في العالم حق «العودة» إلى «إسرائيل» في أي وقت شاء وينكر هذا الحق على ملايين الفلسطينيين الذين طردوا من فلسطين على دفعات منذ عام 1948م، رغم أن يهود العالم لا يودون الهجرة إلى «إسرائيل» بينما يقرع الفلسطينيون أبوابها، ولكنها الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية التي تحول كل البشر (العرب واليهود) والزمان (تواريخ الجماعات اليهودية وتاريخ فلسطين) والمكان (فلسطين)، وما الإرهاب الصهيوني الذي لم يهدأ إلا تعبيراً عن رؤية الصهاينة التي تحاول أن تصل إلى نهاية التاريخ: نهاية تاريخ الجماعات اليهودية في العالم، ونهاية التاريخ العربي في فلسطين.
______________________
المصدر: كتاب «الصهيونية والعنف.. من بداية الاستيطان إلى انتفاضة الأقصى».