تشهد الآثار الإسلامية المتبقية حتى اليوم في عواصم بلاد المسلمين بحضارة عظيمة متفردة تحمل من الرقي غير المسبوق في العالم ما يتلاءم مع النفس البشرية السوية، فلا هو يخدش حياة الإنسان، ولا هو يشبه أياً من العمارة السابقة والفنون الأوروبية التي اعتمدت على ثقافة العري والتكشف، فقلما تجد عاصمة أوروبية لا تحوي على التماثيل العارية بقايا الحضارة اليونانية والرومانية المعبرة عن نظرتهم للإنسانية.
ويمتد تاريخ مدارس الفنون والعمارة إلى عمق التاريخ الإسلامي عبر عدة قرون منذ بداية انتشار الإسلام خارج الجزيرة العربية في عهد الخلفاء الراشدين، آخر دولة خلافة حكمت المسلمين وهي الدولة العثمانية، وللأسف منذ ذلك الحين، ومنذ حل آخر دولة خلافة، فقد توقف الإبداع الإسلامي تماماً، وتحول المسلمون تعبيراً عن التخلف والرجعية وانتظار الجديد القادم من الغرب حتى ولو لم يكن ملائماً لروح الشرق الإسلامي، أو كان معادياً لثقافة المسلمين.
وقد تأثرت مدارس الفنون والعمارة تحت الحكم الإسلامي بالتقاليد الإسلامية السائدة، وبالدين الإسلامي الذي شكل إطارها الفكري والجمالي، وفيما يلي تطور تلك المدارس عبر العصور الإسلامية:
أولاً: فترة النشأة في القرن الأول الهجري/ السابع الميلادي:
في بداية تثبيت أركان الدولة الإسلامية مترامية الأطراف، استفادت العمارة والفنون الإسلامية ببعض من بقايا الفنون البيزنطية والفارسية، لكنها أعادت صياغتها لتتوافق مع المبادئ الإسلامية، فقد تمثلت العمارة الأولى في بناء المساجد بداية من المسجد النبوي وتوسيعاته المتعاقبة، ثم مسجد قبة الصخرة بعد الفتح الإسلامي للقدس الشريفة، ثم ظهرت العناصر الزخرفية الأولى مثل الكتابة الكوفية والخط العربي.
ثانياً: في العصر الأموي (41 – 132هـ)(1):
تطورت العمارة في عهد الدولة الأموية بحيث أضافت إلى المساجد القصور والمدن، فعلاوة على بناء الجامع الأمور الكبير في مدينة دمشق، بني قصر عمرة في الأردن، وتميزت تلك الفنون بزخارف هندسية وخطوط مميزة أهمها ظهر في مسجد الجامع الأمور وقبة الصخرة، وقد برع الأمويون في بناء القصور لتنفرد وحدها بحو 30 قصراً.
ثانياً: العصر العباسي (132 – 232هـ)(2):
تميزت الدولة العباسية بإنشاء المدارس الفنية لأول مرة في تاريخ المسلمين، وجمعت تلك المدارس بين العلم والفنون كمناهج تعليمية وتربوية في ذات الوقت، وكانت أول مدرسة هيه «بيت الحكمة»، التي بنيت في بغداد، وتطورت على إثرها أيضاً أنواع الفنون الأخرى مثل الأعمال الزخرفية وصناعة الزجاج المزخرف وصناعات النسيج، وتطور أيضاً التخطيط للمدن، وشيدت مدن عدة مثل بغداد وسامراء، علاوة على الصناعات الخزفية.
ومن أبرز مساجد الدولة العباسية مسجد «أحمد بن طولون» بالقاهرة، وما زال صرحاً عظيماً حتى اليوم، وقصر «بلكوارا» قرب سامراء على نهر دجلة، وانتقلت الفنون من سامراء إلى صقلية التي حكمها المسلمون لقرنين ونصف قرن من الزمان، وما زالت الآثار الإسلامية بادية عليها حتى اليوم كذلك.
رابعاً: العصر الأندلسي (91 – 897هـ):
تفرد العصر الأندلسي بإنتاج فنون عالية الدقة، وإنشاء مدارس متخصصة كان من طلابها أوروبيون يتعلمون فيها اللغة العربية وعلوم الفن والطبيعة والطب والجيولوجيا والأدب، ويعد من أبرز الإنجازات الثقافية والفنية التي ازدهرت في الأندلس خلال فترة الحكم الإسلامي دمج العمارة الأندلسية بين العناصر الإسلامية والعربية، مع تأثر واضح بالعناصر الرومانية والقوطية التي كانت موجودة في إسبانيا قبل الفتح الإسلامي، مدارس فن العمارة الأندلسي كالتالي:
1- مدارس للزخارف المعمارية.
2- مدارس لصناعات الأرابيسك.
3- مدارس للنقوش الكتابية لتزيين الجدران والنوافذ بكلمات عربية من القرآن الكريم والشعر العربي.
4- فنون الفسيفساء واستخدام الزجاج الملون لتزيين الجدران والنوافذ، وقد تطورت المدارس الفنية خلال هذه الفترة لتشمل جوانب متعددة، بما يعكس التوجه الديني والثقافي.
خامساً: العصر الفاطمي (358 – 530هـ):
برزت العمارة في مصر ببناء المساجد مثل الجامع الأزهر الذي يعد أحد أهم مباني الدولة الفاطمية، كذلك مسجد الحاكم بأمر الله الذي يعد من أهم المزارات السياحية الإسلامية حتى يومنا هذا، للدولة كان أبرز ملامح المدارس الفنية في الدولة الفاطمية:
1- العمارة الفاطمية وانقسمت لأقسام، مثل المساجد؛ وكان من نتاجها الأزهر، والحاكم بأمر الله وأبواب القاهرة، والقباب والمآذن.
2- الفنون التطبيقية كالخزف والزجاج وتشكيل المعادن.
3- فنون الخط والتصوير، وهي فنون الخط العربي.
4- الفنون الدينية، مثل صناعة المحاريب وكتابة المصاحف.
سادساً: الدولة السلجوقية (428 – 656هـ)(3):
تطورت العمارة في بلاد فارس وآسيا الوسطى مع بناء المدارس الإسلامية فازدهرت الفنون الزخرفية والخط العربي، وسادت الأسرة السلجوقية بغداد عام 447هـ/ 1055م، ودام حكمها حتى عام 569هـ/ 1174م، ومن أهم المباني الدينية السلجوقية المسجد الكبير في أصفهان ذو المخطط المصلب المستوحى من العمارة المدنية، ويتميز بالأواوين الأربعة المطلة على الصحن، وقد أصبحت فيما بعد الطابع المميز للمساجد الإيرانية على شكل قبة أو برج إلى جانب الجامع، ومنها قبة ضريح السيدة زبيدة في العراق، وهي هرمية الشكل ثمانية الأضلاع، ومشابهة تماماً لقبة بيمارستان نور الدين الزنكي في دمشق، واهتم السلاجقة ببناء المدارس والمعاهد لتعليم الفقه والدين، كما اهتموا بالعمارة العسكرية؛ إذ تعود أصول قلعة دمشق للفترة السلجوقية.
سابعاً: عصر الدولة المملوكية (648 – 923هـ)(4):
تميزت العمارة المملوكية في مصر والشام بالضخامة والدقة، مثل مسجد السلطان حسن في القاهرة، حيث استخدمت الرخام والفسيفساء والزجاج الملون في الزخرفة، وحكم المماليك مصر والشام والجزيرة واليمن والحجاز وليبيا، وظهر تبادل التأثيرات العمرانية والمعمارية في مناطق حكمهم، الذي كان في فترته الأولى عصر ازدهار وعمران، ظهر في بناء القصور والمدارس والأسواق والحمامات وغيرها.
وتميزت العمارة المملوكية بتنوع الزخارف، ولا سيما الرنوك التي شاع استخدامها، ولم يعُد الفناء عنصراً أساسياً في جميع المباني المملوكية إذ وجدت أبنية مملوكية من دون فناءات أو ذات فناءات مغطاة، كما في جامع التيروزي والمدرسة الجقمقية بدمشق، وكذلك للأروقة والأواوين، فلم تعد من العناصر التي تميز هذا العصر، وإن استخدمت أحياناً في بعض المنشآت.
ثامناً: عصر الدولة العثمانية (699 – 1341هـ)(5):
تميزت المدارس الفنية في عصر الدولة العثمانية بالتنوع والابتكار، حيث تأثرت بالتراث الإسلامي والفارسي والبيزنطي، ودمجت بين الأساليب المحلية والعناصر المقتبسة من المناطق التي حكمها العثمانيون، وكان من أبرز ملامح المدارس الفنية العثمانية:
مدارس العمارة العثمانية، التي كان من أهم سماتها:
1- استخدام القباب الضخمة، والمآذن العالية النحيلة، والأنظمة الهندسية المعقدة، ومن أمثلتها جامع السليمانية، وقد بناه المعماري الشهير سنان باشا في إسطنبول، وجامع السلطان أحمد (الجامع الأزرق)؛ يتميز باستخدام الخزف الأزرق الداخلي، وقصر توبكابي؛ مقر الحكم العثماني، يبرز بفخامته وزخارفه المتقنة.
2- الفنون الزخرفية والخط العربي؛ استخدام الخط العربي بأنواعه المختلفة (مثل الثلث، والديواني) في المساجد والمخطوطات، زخرفة الجدران والأقواس والأعمدة بالنقوش النباتية والهندسية.
وكذلك الفسيفساء والخزف؛ حيث إنتاج خزف إزنيق الشهير الذي استخدم في تزيين المساجد والقصور، والأنماط النباتية والخطوط المنحنية كانت السمة البارزة.
3- الفنون التطبيقية، وتتمثل في صناعة المنسوجات، وكان للسجاد العثماني الذي تميز باستخدام تصميمات هندسية وزهرية دقيقة من أشهر وأروع أنواع السجاد المعروف في ذلك الوقت، علاوة على الأقمشة المزخرفة كالحرير والمخمل المطرز بخيوط الذهب، ثم مدارس صناعة الزجاج الملون والمطلي بالمينا لاستخدامه في المساجد والمباني.
وقد قامت الدولة العثمانية بجمع الصناع والفنيين المتميزين وتلحقهم بالمدارس الفنية بعاصمة الخلافة، أيضاً كانت هناك مدارس لتصنيع المعادن لتطعيمها بالذهب والفضة، أيضاً صناعة الأسلحة المزخرفة مثل السيوف والخناجر، ونشأت صناعة جديدة في ظل الدولة العثمانية وزاد عدد العاملين عليها وازدهرت بشكل كبير حين اشتد عود الدولة وتضاعفت مساحتها في سنوات قليلة؛ وهي صناعة التجليد، ومنها تصميم أغلقة الكتب المزخرفة يدوياً باستخدام الزخارف النباتية والهندسية.
4- التصوير والمنمنمات، واستخدمت في تزيين المخطوطات، خاصة كتب التاريخ والجغرافيا، والتصوير العثماني الذي جمع بين الطابع الإسلامي والتأثيرات الفارسية.
5- الموسيقى والرقص: وقد تطورت الموسيقى في عهد الدولة العثمانية، وأقبل العديد من الشباب على مدارسها التي امتزجت بين الفارسية والعربية، واستخدمت فيها آلات موسيقية كالناي والعود والطبلة.
6- تأثير المدارس الفنية العثمانية على الفنون العالمية، وقد تأثرت الدول الأوروبية بالفنون العثمانية خاصة في عصر النهضة من خلال التبادل التجاري والثقافي، حيث كانت البصمة العثمانية متميزة؛ فأثرت بشكل كبير خاصة في دول البلقان ودول أوروبا الشرقية.
وبهذا الترتيب حسب دول الخلافة الإسلامية نجد تطور مدارس الفنون والعمارة على مدى تاريخ الدولة الإسلامية، بصورة مدهشة خلفت الكثير من الآثار التي توقفت تقريباً منذ نهاية الحكم الإسلامي حتى في حالات ضعفه.
____________________
(1) الموسوعة الإسلامية العالمية.
(2) المرجع السابق، بتصرف.
(3) ابن الأثير: الكامل في التاريخ، الذهبي: تاريخ الإسلام.
(4) الموسوعة الإسلامية العالمية.
(5) حسين مؤنس: معالم الحضارة الإسلامية، موسوعة الفنون الإسلامية.