ما الاستراتيجيات التي اعتمدتها تلك القوى في اختطافها لنموذج تطبيق الشريعة الإسلامية، فيمكن إجمالها على النحو الآتي:
– فرض “التحديث”([17]) على العالم الإسلامي عنوة، عن طريق فرض الهيمنة الاقتصادية والضغط من خلالها على حكام المسلمين، وإلا فالاحتلال العسكري لأراضي المسلمين، إذا لم يستجيبوا لفرض نموذجهم الذي يضمن لها التبعية والاستسلام لإرادات المستدمرين النفعية. ومفهوم التحديث أو العصرية Modernism لا يعني مجرد الانتماء للعصر ولكنه يعني فيما يخص الدين، وجهة نظر في الدين ترى ضرورة السعي إلى تطويع مبادئ الدين لقيم الحضارة الغربية ومفاهيمها وإخضاعه لتصوراتها ووجهة نظرها في شؤون الحياة([18]).
– فرض نموذج الدولة القومية الحديثة، بفلسفتها وبنيتها ومؤسساتها وهياكلها..، وإحلالها –بوصفها كائنًا قانونيًا- محل الشريعة الإسلامية وبنيتها القانونية والاقتصادية والاجتماعية، على ما بينهما من تمايزات وتناقضات واضحة([19])، لضمان تبعية العالم الإسلامي كذلك وفض وحدته، ولكن دون السماح أبدًا بإقامة هذه الدولة على أسس ديمقراطية حقيقية تحقق تداول السلطة وتنقلها إلى الشعوب؛ فلا نكاد نجد في تاريخ الاستدمار أي دعم يذكر لأي خيار شعبي ديمقراطي، بل كل الدعم للانقلابات العسكرية، والحكومات الاستبدادية، وحدها، وهو أمر متوقع لأن الشعوب إذا ما خيرت ومُكِّنت لاختارت أن تستعيد من جديد مرجعيتها الثقافية والتشريعية المتجسدة في الشريعة الإسلامية.
– التشكيك في المرجعية الثقافية للشعوب المسلمة، والتي تتركز في الشريعة الإسلامية، تيسيرًا لانفراد الثقافة الغربية بالمسلم والتحكم فيه كيفما شاءت، ومن هنا جاء اتهام الشريعة بالجمود والرجعية، وتمرير أفكار من شأنها هدم البنيان التشريعي الإسلامي من أساسه، عبر بث الريبة في القرآن الكريم وما يتعلق بجمعه وبعلومه وبتفاسيره، والتشكيك في السنة وحجيتها، والحط من الفقه الإسلامي ومن قدرته على مواكبة العصر، والتحقير من التاريخ الإسلامي، وتشويه أبرز أعلامه ورموزه، بمن فيهم صحابة النبي صلى الله عليه وسلم.
– علمنة التشريع السائد في العالم الإسلامي بفرض القانون الوضعي وعزله عن الشريعة الإسلامي، واستبدال فقهاء الشريعة وعلماء الدين بنواب البرلمان وأعضاء السلطة التنفيذية ، وقد جرت هذه العلمنة إما بفرض تقنينات غربية بدلا من الشريعة الإسلامية بشكل واضح ومعلن، كما جرى في مصر سنة 1883م، أو عبر الخديعة والتمويه، مثلما حدث في البداية في دولة الهند، حين طبق الإنجليز القانون (الأنغلو- محمدي) بوصفه تشريعًا إسلاميًا بينما هو في حقيقته قانون إنجليزي، يفرض قسرًا على المسلمين ويخضعهم لتصوراته وفلسفته، حتى حل القانون الإنجليزي بالتدريج محل الفقه الجنائي الإسلامي في الفترة من (1790- 1861م)([20]).
– وكذلك تعد من أبرز نماذج علمنة التشريع بطريقة مخادعة، تصدير معظم الدساتير العربية المعاصرة بالنص على مصدرية الشريعة الإسلامية للتشريع، بينما الواقع التشريعي يسير خلاف ذلك، حيث إنه توجد كثير من النصوص التشريعية مصادمة للشريعة الإسلامية، ومعظم هذه النصوص اكتفى بألا تكون مناقضة لأحكام شرعية قطعية الثبوت والدلالة بغض النظر عن مدى توافقها من عدمه مع روح الشريعة ومقاصدها وقيمها وأحكامها القطعية المستنبطة بطريق الاستقراء التام، فضلاً عن أن معظم هذه النصوص القانونية تكون مستعارة من مصادر أخرى غير الشريعة، ويجري ذلك كله بإقرار أحكام قضائية صادرة من محاكم عليا أعانت على إفراغ ذلك النص الدستوري من مضمونه عمليًا([21])!
– محاربة المصطلحات والمفاهيم الإسلامية، وتشويهها، والتشويش على معانيها الحقيقية، إلى جانب ما يمكن تسميته بالغزو المفاهيمي الغربي، بما في ذلك مصطلح الدين نفسه، وحتى مصطلح الشريعة تم غزوه، وعوملت الشريعة الإسلامية معاملة القانون الوضعي، فضيق مفهوم الحكم الشرعي ليتناسب مع مفهوم القانون، بحيث لا يكاد يشتمل سوى على القواعد الملزمة وحدها منفصلة عن العقيدة والأخلاق، ومقتصرة على الواجبات والمحرمات، دون مراتب المندوب والمكروه والمباح… وهكذا!
– مناهضة المؤسسات الدينية ومحاصرتها وأنظمتها وعلمائها، والتي كانت تعد في الوقت ذاته مؤسسات تعليمية وتربوية تمد المجتمع بالمدرسين والقضاة والفقهاء، وكانت مصنفات علمائها المرجع الأساس للتشريع والقضاء، حيث فُرض التعليم على النمط الأوروبي على حساب التعليم الديني الذي جرى فصله عن المجتمع، وقصره على الجوانب المتعلقة بالدين المنفصل عن الحياة، وفقًا لفهم الغرب للدين، كما سادت السخرية من علماء الشرع وفقهائه، وحرموا من مصادر دخولهم التي كانت تعتمد بشكل أساسي على التمويل المجتمعي عبر نظام الوقف الإسلامي وغيره، فكُسرت هيبتهم في أعين الناس، لحساب المتغربين من المثقفين والكتاب والصحفيين والممثلين، مما أثر بالسلب كذلك على وضع الشريعة الإسلامية وهيمنتها على المجتمع.
– تجميد الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية الإسلامية، مثل الوقف والزكاة والحسبة، وغيرها من الأنظمة المرتبطة بالشريعة الإسلامية والمستندة إليها الداعمة لترسيخها في قلوب المسلمين وفي إدارة معاملاتهم وفق أحكامها ومقاصدها.
– تغيير واقع المجتمعات الإسلامية بصفة عامة ليبتعد عن الشريعة الإسلامية، ويتبع في الوقت نفسه ما يريد الغرب استتباع العالم الإسلامي فيه، وأغلبها قشور ونقاط ضعف في الغرب، دون نقاط القوة الحقيقية والمتمثلة في القيم النهضوية، مثل: إتقان العمل والجدية فيه والانضباط والحرية الفردية والجماعية، والأنظمة والآليات التي قامت عليها النهضة الغربية الحديثة، مثل: الديمقراطية والمؤسساتية وغيرها، فلم تسمح سوى بتقليدها فيما يهدم الأسرة، وفي نقل شكليات ومسميات لمؤسسات الغرب دون حقيقتها وقيمها –مثل: الانتخابات والبرلمان والقضاء- وفق النظام الغربي، وغيرها من الهياكل الكأنيَّة (نسبة لكأن)!
رابعًا: الأدوات والآليات
استخدمت الدول الاستدمارية العديد من الأدوات والآليات التي تستهدف استلاب الشريعة الإسلامية وإزاحتها عن مرجعية التشريع والقضاء والاقتصاد والثقافة وغيرها من المجالات، وكان من أبرز تلك الأدوات:
1- الاستشراق: بدأ الاستشراق في صورته الحديثة الخادمة للاستدمار بشكل منهجي في فرنسا بإنشاء كلية الدراسات الشرقية الحية في باريس سنة 1795م، ثم مع قدوم نابليون إلى مصر في نهاية القرن الثامن عشر حيث اصطحب معه العديد من الباحثين في مجالات مختلفة (بلغ عددهم 160 باحثًا)([22]) بهدف مساعدته على فهم طبيعة المجتمع المصري وبيان سبل إحكام السيطرة عليه وشل مقاومته، ثم استمرت هذه السياسة فيما بعد حتى وقتنا الراهن، فلا تزال المراكز البحثية الغربية تعمل على دراسة أحوال المسلمين وتمد الحكومات الغربية بما يلزمها في مقاومة الإرهاب الإسلامي المزعوم!
وقد وجه الكثير من المستشرقين -ولايزالون- الكثير من المطاعن والاتهامات إلى الشريعة الإسلامية، من حيث المصادر والقيم والفقه…، وحاولوا إقامة الأدلة على عدم صلاحية الشريعة الإسلامية للتطبيق في عالمنا المعاصر، إلا قلة منهم استنارت بصيرتها واستكانت لضميرها متحدية لأهواء السلطات الاستدمارية، فاعترفت برقي الشريعة الإسلامية وصلاحيتها لكل زمان ومكان.
2- الحكومات المستبدة: تعتبر تلك الحكومات من أهم الأدوات التي يعتمد عليها الغرب في تشويه مفهوم تطبيق الشريعة الإسلامية، وإعاقة تنزيل قيم الشريعة الإسلامية على واقع المسلمين بما ينتشلهم من تخلفهم، فحالت تلك الحكومات دون تحقيق أمال الشعوب في تطبيق الشريعة الإسلامية، بل وتحكمت في المؤسسات الدينية كافة، وجندت الخطاب الديني لتحقيق مآربها غير المشروعة، وأممت الدين لحسابها، وحولت العلماء إلى موظفين، فتحكمت في كثير منهم وحاصرت بقيتهم، فساد الجهل بالشريعة وأحكامها، وبأولويات تطبيقها، فإذا بها وكأنها عبارة عن حجاب (للرأس والعقل)، وعقوبات متوحشة عفا عليها الزمن، لا رحمة بالناس، ورافعة للشعوب، وعاصمة لها من الجهل والتخلف والزلل!
ولا يرجع ذلك بالضرورة للعمالة، بل قد يكون لعامل آخر مهم حال دون عودة الشريعة الإسلامية، يتمثل في أن الشريعة تعتبر مرجعية مستقلة عصية على التحكم الكامل كالقوانين الوضعية التي يستطيع الحاكم أن يغير فيها كيفما شاء، إما بالتزوير، أو بالتأثير، لاسيما إذا كان الحكم فرديًا استبداديًا، أو كان مواليًا للاستعمار الجديد([23]).
3- الاقتصاد: عملت القوى الاستدمارية على تحويل المجتمعات الإسلامية إلى مجتمعات استهلاكية لا تستهدف إلا إشباع شهواتها المادية، وتعتمد على مؤسسات ربوية تتبع الاقتصاد الرأسمالي الغربي، ومن هنا كان إلغاء الاقتصاد الإسلامي الحقيقي المستند إلى نصوص الشريعة ومقاصدها، وقامت عليه الحضارة الإسلامية نفسها طوال تاريخها، فجرى تعطيل الوقف ومحاصرته عمدًا، وحوصرت الزكاة وتراجعت، وتغيرت قيم الاقتصاد، حتى إن المنفعة واللذة باتت مطلوبة لذاتها لا لأجل مكافحة الفقر وتحقيق العدالة في التوزيع وتحقيق التكافل الاجتماعي، فأصبحت البلاد الإسلامية تابعة تبعية شبه مطلقة للنظام الرأسمالي، بل وإن التبعية الاقتصادية هي نفسها العامل الأكبر وراء إصرار الغرب على الاستتباع التشريعي للمسلمين، لا الدافع العقيدي كما يظن كثير من الناس.
4- التغلغل في كثير من الحركات السياسية الإسلامية وتوجيهها من الداخل حتى أصبحت عبئًا على الإسلام ووبالاً على المسلمين، بعد أن أسرفت في تسييس الإسلام، وقدمت صورة مشوهة للشريعة الإسلامية، تكاد تنحصر في أحكام تحض على العنف، وتقمع المرأة، وتقطع أيدي المظلومين، وتصم المجتمعات المسلمة بالجاهلية، كل ذلك باسم الإسلام وشريعته الغراء، فساعدت الغرب في خطته في تشويه الشريعة الإسلامية وقلب أولويات تطبيقها حتى عند المطالبين به، فقدمت تلك الحركات -في أدبياتها وتصريحات قادتها وكتاباتهم- الحدود الشرعية على القيم والمقاصد الإسلامية وما تحض عليه من التوحيد العاصم للإنسان من عبودية الهوى والشهوات والسلطات البشرية، وتزكية الأنفس، وعمران الأرض والأوطان، بل ورفعت شعار الدولة الإسلامية التي يميزها تطبيق الشريعة الإسلامية –ويقصدون بها الفقه الإسلامي لا الشريعة- دون أن تنتبه أن هذا التطبيق لن يتحقق على نحو سديد بمجرد تسويد الفقه الإسلامي الموروث كما هو دون العمل على تجديد الاجتهاد في فهم الشريعة وفي تنزيلها على الواقع المعاصر بما يطابق بين النص والواجب ويحقق مصالح العباد، فأظهرت الشريعة وكأنها تستهدف التعسير على الناس بدلا من التيسير عليهم، وتتغيا تمكين استبداد بقناع ديني من رقاب الناس لا تحريرهم وإقامة العدل فيهم ومساعدتهم على عمران أنفسهم وحيواتهم!
5- الإعلام، والسينما: يكاد يتحول الإعلام، ومعه السينما، في العالم الإسلامي إلى أداة رئيسة من أدوات التجهيل والتسطيح، بما في ذلك ما يطرحه حول الشريعة الإسلامية من كذب وتضليل، تشوش عليها وتهدر الثقة فيها وفي علمائها ودعاتها، على عكس ما تفعله مع المناوئين للشريعة، حيث تفتح لهم قنواتها للطعن في الإسلام وشريعته ودعاته، حتى بات الإعلام -والسينما- من أهم الأدوات المستخدمة في تشويه مفهوم تطبيق الشريعة الإسلامية.
6- التعليم: لم يقتصر أمر استخدام التعليم في اختطاف مفهوم الشريعة الإسلامية على تحويله إلى تعليم مدني منفصل عن التعليم الديني ومتصادمًا معه أحيانًا، بل إن الغرب ووكلائه عملوا على التحقير من التعليم الشرعي وتجميده، ومحاصرته وتجفيف منابع تمويله، حتى ازداد تخلفًا على تخلفه، وأنتج دعاة غلب على كثير منهم العجز عن دفع الافتراءات عن الشريعة الإسلامية وعن إنتاج خطاب واعي وجاذب نحو المفهوم الشامل لتطبيق الشريعة، يحتوي على مقاصدها وقيمها وأحكامها الكلية ونُظمها إلى جانب أحكامها الفرعية والجزئية، مما أسهم في سيادة مفاهيم مخطوفة لعملية تطبيق الشريعة.
_______________________________________________________________________________________
([17]) لبيان المقصود بمفهوم التحديث ونقده، راجع: سيف الدين عبدالفتاح إسماعيل، بين التجديد والتحديث، الكتاب رقم (70) من سلسلة “في التنوير الإسلامي”، القاهرة: دار نهضة مصر، أغسطس، 2006م، ص61-72.
([18]) انظر: سيف الدين عبدالفتاح إسماعيل، بين التجديد والتحديث، المرجع نفسه، ص63.
([19]) انظر: في السمات التي تجعل كل من الدولة القومية والشريعة الإسلامية كيانين غير متوافقين: وائل حلاق، الشريعة: النظرية، والممارسة والتحولات، مرجع سابق، ص632-648.
([20]) انظر: وائل حلاق، الشريعة: النظرية، والممارسة والتحولات، المرجع نفسه، 650-672.
([21]) انظر لمزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع: حازم علي ماهر، تطبيق الشريعة الإسلامية، والنصوص الدستورية، مرجع سابق.
([22]) انظر: ديبا كومار، فوبيا الإسلام والسياسة الإمبريالية، ترجمة: أماني فهمي، القاهرة: المركز القومي للترجمة، ط1، 2015م، ص46-47؛ وكذلك: زكاري لوكمان، تاريخ الاستشراق وسياساته- الصراع على تفسير الشرق الأوسط، القاهرة: دار الشروق، ط1، 2007م، ص129-135.
([23]) انظر: حازم علي ماهر، تطبيق الشريعة الإسلامية والنصوص الدستورية، مرجع سابق، ص198.
(*) بحث محكم منشور في مركز “رؤيا للبحوث والدراسات”.
(**) باحث مصري مهتم بدراسة الشريعة الإسلامية وتطبيقاتها في الدساتير والقوانين المعاصرة، حاصل على الدكتوراة في القانون العام والشريعة الإسلامية.