في ظل العداء المتنامي بين الغرب والعالم الإسلامي، أصوات تحاول استيضاح الحقيقة خلف الأحداث والإعلام، من هذه الأصوات مذيعة ومحررة أمريكية هي “جويس ديليز” هدفها إعطاء فكرة صحيحة للشعب الأمريكي عن الإسلام والمسلمين، تقول: “ولدتُ مسيحية بطبيعة الحال، وعندما قررت أن أبحث في الإسلام كنت كغيري أحمل كثيراً من سوء الفهم والمعلومات غير الصحيحة عنه”.
ولم تكتف بدرس الفكر والدين الإسلامي تقريراً وبحثاً قدر ما اهتمت بتكوين الفكر مقابلة وحواراً، وخلال رحلة طويلة لها زارت الشرق الأوسط، ذهبت إلى مصر وباكستان والأردن وبريطانيا وقطر، ففي مستهل بحثها عن الإسلام كقوة سياسية التقت بشخصيات إسلامية بارزة حاورتهم بشأن الديمقراطية والإصلاح السياسي والعلاقة مع الغرب.
في زيارتها لدولة قطر كان الهدف الأساسي في اتصالاتها معي هو حوارها مع المفكر الإسلامي د. يوسف القرضاوي، وكان هذا الحوار حول عدة قضايا إسلامية مهمة، منها: تيار الاعتدال والوسطية الذي يمثله د. القرضاوي ومصادر قوة هذا التيار بعيداً عن العنف، وأنه رسالة الإسلام الحقيقية، والشباب الذي يمثل الصحوة الإسلامية، ولماذا يتجه نحو الدين في الشرق بينما يبتعد عنه في الغرب؟ ثم ما آفاق العلاقة بين العالم الإسلامي والغرب؟ حيث حددها د. يوسف القرضاوي في أربعة محاور، وأخيراً: لماذا لا تتوحد الحركات الإسلامية لتصدير حركة إسلامية واحدة؟
- ديفيز: بما أن فضيلتكم تعتبر من رواد المفكرين الإسلاميين المعاصرين: هل يمكن أن تخبرنا بالمزيد عن الطريق الذي اتخذته في حياتك وقادك بهذا العمل إلى الإسلام؟ كيف بدأت؟ ومَنْ وجَّهك؟
– د. القرضاوي: هذا الطريق أسميه الوسطية الإسلامية، وهو طريق لم نبتدعه، فهو يعبر عن روح الإسلام، وهو التيار الذي أعبر عنه وجنَّدت نفسي في السنوات الأخيرة ومنذ فترة للعمل من أجله؛ وهو تيار الوسطية الإسلامية، وهذه الوسطية ليست ابتداعاً من عندي، إنما هي روح الإسلام الحقيقي، الذي عبر عنه القرآن بقوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: 143)، فالقرآن يدعونا إلى هذه الوسطية، حيث يقول الله تعالى: (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ {8} وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) (الرحمن)، الطغيان في الميزان الزيادة عن الحد، والإخسار نقص عن المطلوب، لا إفراط ولا تفريط، هذا هو المنهج الإسلامي الصحيح، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: “إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين”، ويروي عنه ابن مسعود: “هلك المتنطعون” ثلاثاً، والمتنطعون المتشددون، المغالون في الدين الذين يكلفون الناس فوق طاقتهم، والدين يسر لا عسر فيه، وهذا هو العامل الأول.
أما العامل الثاني: فهو أني نشأت في مدرسة تعمل في خدمة الإسلام، هذه المدرسة قام عليها رجل يتميز بالاعتدال في فكره وتحركه وعلاقاته، وذلك هو الإمام الشهيد حسن البنا، فقد كان هذا الرجل أمة وحده، وأدخلهم في اللجنة السياسية، وكان يصطحب بعضهم في المؤتمرات، فهذا الاعتدال عندي من تأثري أيضاً من اتجاه حسن البنا ومدرسته.
العامل الثالث: عامل شخصي، وهو أنني شخصياً ممن وهبهم الله فطرة الاعتدال والتوازن في النظر إلى الأمور؛ فأحب دائماً ألا أكون من المغالين إلى اليمين، ولا المتطرفين إلى اليسار، وهذه موهبة إلهية، وبعض الناس يميلون إلى التشدد، وبعضهم يميل إلى التحلل والتسيب، وأنا أجد نفسي دائماً في الموقف الوسط، فهذا عامل شخصي بجوار العامل الأساسي الذي يتصل بجوهر الإسلام نفسه، وعامل التجربة تجربتي في حركة الإخوان المسلمين، وهذه هي العوامل الثلاثة التي أعتبرها مؤثرة في اتجاهي.
- هل يمكن لفضيلتكم أن تعيِّن أو تحدِّد أشخاصاً يمكن أن تصفهم بالاعتدالية كفضيلتكم؟
– نعم، أعتقد أن فضيلة الشيخ محمد الغزالي في مصر في الخط نفسه تقريباً، ود. محمد عمارة (الآن)؛ لأنه قبل ذلك كان في الخط القريب من العلمانيين، والآن أصبح قريباً من هذه الناحية، ومن المفكرين المعتدلين في مصر أ. طارق البشري، ومن الفلسطينيين د. أحمد صدقي الدجاني، وفي السودان د. حسن الترابي، ود. عصام البشير، وهناك أعداد من الناس لا أستحضرهم الآن، ومن الكتَّاب الصحفيين أ. فهمي هويدي، على تفاوت طبعاً بين هؤلاء بعضهم وبعض، قد تجد هذا أقرب إلى أحد الطرفين من الآخر، ولكن الجملة نستطيع أن نعتبر هؤلاء ممن يمثلون الخط المعتدل.
- هل فضيلتكم راسخ القدم في مسألة الاعتدال، أم أنك قلق على أن يصطبغ الإسلام بالتطرف؟ هل أنت قلق بأن المتطرفين يهددون الرسالة الحقيقية للإسلام؟ وما الدافع وراء خط الاعتدال القوي هذا؟
– قوة هذا التيار تنبع من عدة مصادر:
أولاً: من موافقته لروح الإسلام كما قلت، الأمر الآخر أن هذا التيار أقدم وأرسخ جذوراً من التيارات الأخرى.
وثانياً: إن تيارات التطرف والعنف تيارات ليست عميقة الجذور، فهي طارئة لأسباب مختلفة، وعوامل عارضة.
وثالثاً: إن هذا التيار –الوسطية– هو الأعرض قاعدة والأكثر جمهوراً، والملاحظ أن تيار التطرف والعنف ليس له قاعدة كبيرة، ولولا أن الإعلام يضخمه ما وجدنا له مثل هذا الأثر، فتيار الاعتدال هو صاحب القاعدة الشعبية العريضة والكبيرة، كما لاحظنا ذلك في مصر، ولاحظته في الجزائر وفي السودان، في إقبال الجماهير الغفيرة على رموز تيار الوسطية، وهذا يدل على أنه تيار متجاوب مع فطرة الناس.
- ما تقوله، إذاً، بأن الرسالة الحقيقية للإسلام هي قوة معتدلة تشمل الحياة كلها، هل ترى أن رسالة الإسلام هي رسالة الاعتدالية والوسطية؟
– نعم، أنا أريد أن أقول هذا وأكثر، فالإسلام رسالة سلام للعالم حقيقة، وما دامت الأخت تمثل معهد السلام، فنرى أن الإسلام هو رسالة سلام وتعاون وتعارف بين الشعوب بعضها بعضاً، والقرآن الكريم يقول: (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) (الحجرات: 13)، والرسول صلى الله عليه وسلم قد اعتبر صلح الحديبية فتحاً، كما اعتبره القرآن فتحاً مبيناً، فالعام الذي استطاع النبي فيه أن يعقد صلحاً مع المشركين اعتبر عام فتح، ونزلت سورة “الفتح”، وامتن الله بها على المسلمين؛ لأن الإسلام لا يريد القتال إلا إذا اضطر إليه، كما قال في القرآن الكريم: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ) (البقرة: 216)، فإذا فرض القتال نقاتل، إنما إذا وجدت الفرصة، فإن الإسلام يمد يده ليصافح الناس جميعاً، وحينما يستطيع الإسلام ألا يدخل معركة يكون هذا نعمة، ويذكر القرآن الكريم عن المشركين الذين غزوا المدينة غزوة الخندق والأحزاب بقوله: (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ) (الأحزاب: 25)، فالقتال ليس أمراً مطلوباً، وتعبير (وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ) يوحي أنه كلما استطعنا ألا ندخل في معركة، فإن ذلك يكون نعمة من الله سبحانه وتعالى، فالإسلام دعوة إلى السلام، ودعوة إلا الحوار بين المختلفين بعضهم بعضاً، لذلك فقد قال: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (العنكبوت: 46)، إن الجدال أو الحوار لم يرض القرآن أن يكون بأسلوب حسن، بل لا بد أن يكون بأسلوب أحسن، فلو وجد هناك أسلوبان؛ أسلوب حسن وأسلوب أحسن منه، فينبغي أن نسلك الأحسن الذي يقرب القلوب بعضها من بعض، ولا يوغر الصدور، ويستعمل أرق العبارات وألطفها، وهذا هو موقف الإسلام.
- هل هذا الصلح كان فتحاً مبيناً للإسلام؟ وما هذا الصلح؟ هل كان هناك سلام بين هذه الجماعات؟
– صلح الحديبية هو: أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يذهب وأصحابه إلى مكة للعمرة ليطوفوا بالبيت الحرام، وبالكعبة، فذهبوا مسالمين لا يريدون قتالاً، كذا شأنهم كشأن سائر العرب؛ لهم حق في هذا البيت، لكن المشركين من أهل مكة رفضوا أن يدخلوا الكعبة، وصدوهم عن المسجد الحرام، فتحمس المسلمون وقالوا: لا بد أن نقاتل، وبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على القتال حتى الموت، تحت الشجرة المعروفة، وكان وقوفهم عند مكان اسمه الحديبية (بئر في الطريق).
وهناك حدثت مفاوضات، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين عثمان بن عفان، وبعث المشركون مندوباً عنهم، وحدثت مفاوضات انتهت بهذا الصلح، لمدة عشر سنوات؛ ألا تحدث حرب بين المسلمين والمشركين، ويرجع المسلمون هذه السنة دون أن يعتمروا، ويعودوا في السنة القادمة، وكانت هذه الهدنة لمدة عشر سنوات، وأنزل القرآن فيها بقوله: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً) (الفتح: 1)، ويسأل الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم: أهذا فتح؟! كيف يسمى فتحاً وهم لم يدخلوا مكة؟! قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “نعم هذا فتح”؛ لأنه اعتبر أن هذا السلام بينه وبين المشركين وإتاحة الفرصة ليلقى بعضهم بعضاً، ويستمع بعضهم من بعض، وتنتشر الدعوة سلمياً؛ اعتبر هذا فتحاً مبيناً، هو فتح لكنه ليس فتحاً عسكرياً، كما هو الشأن في الفتح.
- هناك بعض الأماكن مثل الجزائر، حيث حاول المسلمون بالطرق السلمية، لكن حكومتهم فاسدة؛ هل تعتقد أن هناك بعض المناسبات –أو المواقف– التي يتعين على المسلمين فيها أن يقاتلوا؟
– في أول الأمر، وقفت القوة المادية وحالت دون الشعب الجزائري وما اختاره لنفسه عن طريق الدبابة والمدفع وقوة الجيش، وحاول الإسلاميون أن يعبروا عن أنفسهم بوسائط أخرى غير العنف، مثل: النزول في الشوارع، الإضرابات، البيانات.. وهذا نوع من الناس، وكان هناك أناس معتدلون حتى من جبهة الإنقاذ أنفسهم مثل حشاني عبد القادر وغيره، كانت لهم تصريحات جيدة، ولكن هذه الوسائل كلها رفضت من قبل السلطة، وانتهت بحل جبهة الإنقاذ صاحبة الحكم، حسبما أظهرته نتائج الانتخابات، حلت واعتبر نشاطها محظوراً، وأخذ رجالها إلى السجون والمعتقلات، فكان معنى هذا أن يكون هناك عنف، عندما تسد الطريق على إنسان، ولا تجد سبيلاً أمامك، ماذا تفعل؟ حتى لو أراد المعتدلون وقف العنف، فإنك لا تستطيعه لأنه في هذه الحالة تتسيب الأمور، وشيوخ الجبهة وقادتها في السجون والمعتقلات، ولم يبق إلا عنصر الشباب، والشباب المتحمس الذي يشعر أنه ظُلم وأن حقه قد اغتصب بالعنف، فبطبيعة الحال يقابل هذا العنف بعنف مثله.
أدعو الشباب للاهتمام بالجانب الاجتماعي دون التركيز على الجانب السياسي وحده.
فالمسألة هنا ليس ماذا يرى الإسلام؟ فالواقع يفرض نفسه على الساحة، ومع هذا بقي المعتدلون في ذلك الوقت يدعون إلى وجوب حقن الدماء، وأنه لا بد من التحاور، وأن يتدخل العقلاء في هذه القضية؛ لأن أحداً من أهل الاعتدال لا يرضى أن يسفك دم إنسان بريء، لأنه في هذه الحالة يؤخذ البريء والمسيء والسلطة وغير السلطة، فقد أصيب أناس برآء، فحتى مع هذا الموقف كان المعتدلون الإسلاميون يدعون إلى ضرورة السعي لحقن الدماء وفتح باب الحوار لتجنيب الجزائر مخاطر هذه الفتنة الخطيرة والعظيمة.
لقد دعا أشخاص إلى مقاومة هذا العنف بالاعتدال، يمثلون تجمعات إسلامية أخرى، غير جبهة الإنقاذ، مثل محفوظ النحناح، رئيس حزب حمس (حركة المجتمع الإسلامي)، وعبد الله جاب الله، رئيس حزب النهضة الإسلامي أيضاً، وهما رغم هذا كانا يدعوان للخروج من المأزق في الجزائر عن طريق الحوار وليس عن طريق العنف.
- ما رسالتك الخاصة التي توجهها إلى الشباب المسلم، والشباب عموماً؟
– إنني أعتبر الأمر في غاية الأهمية؛ ذلك أني أعتبر الشباب هم مستقبل الأمة الثروة البشرية، وهي في نظري أعظم من الثروة النفطية والثروات المادية المختلفة، فالأمم بإنسانها لا بذهبها ولا بترولها ولا بنفطها، والشباب بالذات هم عماد الصحوة الإسلامية، العمود الفقري للصحوة الإسلامية هم الشباب، وهذا واضح في بلد مثل مصر أو السودان، وفي الجزائر، وفي الخليج هنا نجد أن الشباب هم الذين يملؤون المساجد في الصلوات، وهم الذين يملؤون مواسم الحج والعمرة في مكة والمدينة، وهم الذين يقرؤون الكتاب الإسلامي، الفتيات أيضاً اللاتي التزمن الحجاب طوعاً واختياراً، دون ضغط أو إكراه من أحد، بل أحياناً يكون هذا بالرغم من معارضة الأهالي والآباء والأمهات.. هذا كله يتمثل في الشباب؛ وذلك لأن الصحوة الإسلامية عمادها الشباب.
والشباب بطبيعته فيه نوع من الاندفاع بحكم السن وبحكم الحيوية الدافقة والطاقة الشبابية، وربما يزيد من هذا الاندفاع شعوره بالظلم، وأنه لم يأخذ حقه، لا من قادة أوطانه وزعمائه السياسيين، ولا من الغرب المسيطر والحاكم بحضارته وتقنيته وتوجهاته السياسية، خصوصاً مع العالم الثالث، ويدفعه الشعور بهذا الظلم إلى شيء من العنف أو التطرف، ولهذا اهتممت في هذه المرحلة منذ نحو عشرين عاماً تقريباً بالتوجه إلى الشباب، ومحاولة ترشيد الصحوة الشبابية، صحوة الإسلام التي تتمثل في هذا الشباب، ترشيد مسيرتها، وترشيد خطواتها، بحيث تسلك طريق الاعتدال وتبتعد عن العنف.
وفي اعتقادي أنه ليس هناك حاجة للتطرف والعنف، لأن الدعوة إلى الإسلام تنتشر انتشاراً واسعاً يميناً وشمالاً، وتكسب كل يوم أرضاً، ويدخل الناس فيها أفواجاً، بنين وبنات والمثقفين كافة والمهنيين، كما نرى ذلك واضحاً في مصر في نقابات المهندسين والأطباء والصيادلة والمعلمين والمحامين والصحفيين.. اكتساح هذه الطبقات المثقفة.. وما دامت الدعوة تنتشر وتكسب أنصاراً، فلماذا التطرف والعنف الذي يلجأ إلى التطرف، والعنف الذي يشعر بخيبة الأمل، ويشعر أن الطريق أمامه مسدود؟ وذلك هو الذي جعلنا ندعو الشباب إلى الاعتدال، وهو بهذا يربح ولا يخسر، ويضم في كل يوم مكاسب جديدة، فهذا كان اهتمامي فيما بين هذين العقدين من الزمن.
يهتم الشباب بتكوين نفسه تكويناً متكاملاً من الناحية العقلية بالثقافة، والروحية بالعبادة، والخلقية بالفضيلة، ومن الناحية الجسمية بالرياضة، ومن الناحية الاجتماعية بالخدمة وبالمشاركة في إصلاح المجتمع.. إنه لا يتعالى على المجتمع، وإنما يتغلغل فيه، يعمل في هذا المجتمع؛ يحاول أن يؤلف جمعيات خيرية، ينشئ مستوصفات طبية لعلاج المرضى، ينشئ دوراً لكفالة الأيتام، مدارس لتعليم الأميين.. وهذا ما جعلني في السنوات الأخيرة أدعو للاهتمام بالجانب الاجتماعي دون التركيز على الجانب السياسي وحده؛ أي أنه بجوار تكوينهم النفسي لا بد أن يهتم الشباب بالمجتمع وخدمته، ويتغلغلوا فيه ولا يتعالوا عليه، لقد أنكرت الانهماك في الجانب السياسي على حساب الجانب الاجتماعي، ينبغي لهم أن يهتموا بمشكلات المجتمع؛ لأنهم جزء من هذا المجتمع، فالطبيب يداوي المريض، والمعلم يمحو الأمية.. إلى غير ذلك.
- ينبهر الغرب لما يحدث للشباب في العالم الإسلامي؛ فحيث يبتعد الشباب في الغرب عن الدين والأخلاق نجد العكس من ذلك يحدث مع الشباب في العالم الإسلامي، فهل تخبرنا لماذا يحدث هذا الشيء؟ لماذا يتجه الشباب المسلم للدين، وليس للشيوعية وما شابه ذلك؟
– إذا أردنا أن نكون صرحاء وننظر إلى الواقع بعين الإنصاف، فيكاد يكون المسلمون وحدهم الذين يمثلون التدين الحقيقي في العالم، لقد قرأت أن الإحصاءات تقول: إن 5% فقط من المسيحيين في الغرب هم الذين يذهبون إلى الكنيسة، ومن المعلوم أن هؤلاء الـ 5% لا يذهبون من أجل التدين فقط، بعضهم لا يذهب تديناً، وإنما يذهب كنوع من التغيير في الحياة النمطية، وبعضهم يذهب للمقابلات بين بعضهم بعضاً.
لكننا نجد المسلمين أشد الأمم تمسكاً بدينهم، حتى العصاة من المسلمين تجدهم أقرب ما يكونون إذا وجدوا من يذكّرهم بالله وبالآخرة، ويستمعون موعظته من إنسان حي القلب، فسرعان ما يرجعون، وهذا يحدث لأن الإسلام في الحقيقة دين الفطرة السليمة، لا يُكلِّف الإنسان شيئاً ضد فطرته ولا ضد عقله، والقرآن نفسه يقول: (هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة: 111)، والأصل حتى في العقائد الإسلامية أنها لا بد أن تكون موافقة للعقل، والتكاليف الإسلامية رغم شدتها في بعض الأحيان، يطلب من الإنسان أن يذهب خمس مرات في اليوم إلى المسجد، وهذا لا يوجد في أي دين أن يطالب أتباعه بمثل هذا، ومع هذا يجد المسلم في ذلك راحة لنفسه، وغذاء لروحه، وينتشل الإنسان بها من لجة الحياة التي يغرق فيها الناس هذه الحياة المادية، ويقف الإنسان في هذه الصلوات بين يدي الله سبحانه وتعالى بطمأنينة القلب، وسعادة الروح.
الواقع أن الإسلام هو الدين الذي يقدم للنفس الإنسانية في هذا العصر ما يغسلها من أدرانها، ويقدم لها العلاج الروحي المفهوم للعقل، ويعطي الإنسان الآخرة، ولكنه لا يحرمه من الدنيا، ويصله بالسماء، ولكنه لا ينتزعه من الأرض التي يقف عليها.. إن عملية التوازن بين العقل والقلب، بين الروح والمادة، بين الجسم والروح، بين الدنيا والآخرة.. هذا التوازن لا نجده في رسالة ما إلا في الإسلام، فلذلك لا عجب أن يرجع الناس إلى الإسلام.. ونحن نعتقد أن الإسلام ليس للمسلمين فقط، ولكن للعالم أجمع.
العدد (1117)، ص34–36 – بتاريخ: 14 ربيع آخر 1415ه – 20 سبتمبر 1994م.