في حوار خاص مع “المجتمع”، تحدث فضيلة العلاَّمة د. يوسف القرضاوي عن دعوته لعرب فلسطين لمقاطعة الانتخابات “الإسرائيلية” كموقف ثابت لعدم اعترافهم بشرعية الاحتلال الصهيوني لأرض النبوات، مؤكداً أن هذا أصل شرعي إسلامي وليس مجرد رأي سياسي، وأن العدوان والاغتصاب لا يتغير بمضي الزمن واختلاف الليل والنهار، فلا نحلّ الحرام ولا نجعل الحرام حلالاً، وما حدث ظلم يجب أن يزول، وأن عدم امتلاكنا للقوة الآن لا يعني اعترافنا أو إضفاء الشرعية على العدو الذي احتل الأرض منذ عام 1948م حتى الآن وليس أرض ما بعد عام 1967م.
وبثَّ فضيلته الأمل الذي يصنعه تحدي الواقع، هذا التحدي الذي يصنع المستقبل حتى وإن تم ذلك في جيل غير منهزم نفسياً وعسكرياً مثل الجيل الحاضر، فما زال فضيلته يرى الأمل كبيراً في الصحوة الإسلامية، كما تحدث فضيلته عن دعوته وفتواه بمقاطعة الانتخابات “الإسرائيلية”، وأنها فرع من أصل يتعلق بعدم الاعتراف بشرعية الاحتلال “الإسرائيلي” لأرض فلسطين.
- ما الأساس الفقهي الذي استندتم إليه في رفض دخول عرب فلسطين ومشاركتهم في الانتخابات “الإسرائيلية” في فلسطين؟
– هذا فرع من أصل، والأصل أن “إسرائيل” كيان قائم على الاغتصاب والعدوان، دخيل على المنطقة، ولم يكن له فيها شيء، فرض نفسه بقوة السلام على العرب والمسلمين، واغتصب الأرض وشرَّد الأهل، وكل هذا تم بمنطق القوة وليس بقوة المنطق، ليس له إلا السيف الذي أعمله في رقاب الناس، وأرهب الناس؛ ولذلك نقول: إن أعظم إرهابي في التاريخ الحديث هو “إسرائيل”؛ لأنها أرهبت الفلسطينيين وخرجوا من ديارهم مذعورين وتركوا الديار، وشردوا في العالم، فهذا الكيان القائم على العدوان والاغتصاب لا ينبغي أن نعترف بشرعيته مطلقاً، وهذا هو الذي كانت عليه السياسة العربية إلى عام 1967م، فقد كانت تقول هذه السياسة: إن “إسرائيل” قائمة على العدوان وعلى الاغتصاب، ويجب أن يزول هذا العدوان، وأن يعودوا من حيث أتوا.. إلى أن حدث عدوان يونيو 1967م؛ فتغيرت السياسة العربية، وأصبح همها الذي يلهث وراءه هو إزالة آثار العدوان؛ أي عدوان عام 1967م، وكأن العدوان الجديد في عام 1967م أضفى الشرعية على العدوان القديم في عام 1948م!
ونحن نرى أن العدوان هو العدوان، والاغتصاب هو الاغتصاب، مُضي الزمن واختلاف الليل والنهار وانقضاء السنين لا يحل الحرام، لا يجعل الحرام حلالاً، والمنكر معروفاً، ولا يسلب السرقة والغصب الصفة الأولى، الغصب والسرقة والنهب الذي حدث هو ظلم حدث لأرض النبوات هذه ويجب أن يزول.
وكما قيل: ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، ربما ليس عندنا القوة الكافية الآن لاسترداد ما اغتصب (من عام 1948م) فـ “إسرائيل” أصبحت تمتلك ترسانة من الأسلحة النووية وما لا تمتلكه البلاد العربية المختلفة بواسطة المساندة الغربية والأمريكية غير المحدودة، والتمويل الذي يتم بالمليارات (عوضت ألمانيا “إسرائيل” خلال خمسة وثلاثين عاماً سبعين مليار دولار)، غير أمريكا والغربيين عامة، فلا نستطيع أن نقاوم هذا، فليكن: نتربص وننتظر، قال تعالى: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ) (الأنفال: 60)، ولم يقل: وأعدوا لهم مثل ما أعدوا تماماً، وإنما ما استطعتم.. نجاهد ما استطعنا وننتظر ونتربص، يمكن أن نهادن، نقبل الهدنة.
- ألا تعد الهدنة اعترافاً بالعدو؛ حيث أضع يدي في يد عدوي؟
– لا، الهدنة ليست اعترافاً بالعدو، الهدنة كفّ مؤقت عن القتال، اتفاق مع العدو على كف اليد حسب ما ترى، فقد وقَّع صلاح الدين الأيوبي هدنة مع بعض الصليبيين، لا بأس في ذلك، فالهدنة جائزة ومشروعة، إنما الاعتراف وإعطاء صك بشرعية الوجود المغتصب هذا هو الذي نرفضه، وعلى هذا الأساس نرفض ما يترتب على ذلك، نرفض اتفاق أوسلو، ونرفض التطبيع، وندعو إلى المقاطعة، ونعبئ شعوبنا للمقاومة، ولذلك فإن أخطر ما يعد للمنطقة في الوقت الحاضر هو عملية التطبيع؛ أن تصبح علاقات طبيعية وعادية بيننا وبين “إسرائيل”؛ علاقات اقتصادية وعلاقات ثقافية وعلاقات اجتماعية وعلاقات سياسية، ويصبح الأمر، كما يقولون، “سمناً على عسل”، وتأتي وفودهم إلى هنا وتذهب وفودنا إلى هناك، ويذهب السائحون إلى “تل أبيب”، ويأتي السائحون والسائحات إلى بلادنا العربية، فهذا أمر نرفضه، نحن نرفض تطبيع العلاقات، وندعو الشعب إلى أن يقاطع هذا، فما دعوتنا إلى مقاطعة الانتخابات للإخوة الذين يعيشون في الأرض المحتلة إلا امتداد لهذا التوجه وهذا الفقه.
- لكن هذه المقاطعة التي دعوتهم إليها ربما لا يترتب عليها أثر كبير في مسار الانتخابات، هل هو تسجيل موقف لعدم الاعتراف بالعدو؟
– لا يهمني في الحقيقة إن نجح الليكود أو العمل، فكما يقول الشاعر:
ليس فيهم من فتى مطيع فلعنة الله على الجميع
فهذا وذاك كلاهما شر، والعياذ بالله؛ ولذلك فإن التركيز على نجاح أيهما، وأن لهذا دوراً في إنقاذ لعملية السلام لا يجدي، أي سلام هذا؟! هل الذي حدث في لبنان سلام؟! الاعتداء على القرى اللبنانية وعلى قانا وقتل المدنيين والشيوخ والأطفال والنساء، حتى الذين احتموا بعلم الأمم المتحددة قُتلوا، وقد أثبت التحقيق الذي أجرته الأمم المتحدة أن هذا كان متعمداً، فأي سلام هذا؟!
- هل هذا النهج من عدم الرضا باغتصاب الأرض أصل شرعي إسلامي، أم أنه رأي سياسي؟
– هذا أصل شرعي، إن ما أُخذ من أرض المسلمين ومن دار الإسلام لا يجوز أن يُعترف به، ولا يُعترف بشرعيته، يمكننا عملياً أن نسلِّم به لأننا عاجزون، ولكن هذا لا يعطيه حق الشرعية بفتوى.
- مع أن هذا يبدو أمام بعضهم أنه تحدٍّ للواقع ورفض له؟
– تحدي الواقع هذا هو أساس لصنع المستقبل، فلا يمكن أن نصنع المستقبل إلا إذا تحديت الواقع، فإذا كان واقعاً مغايراً للحق، فقد لا أستطيع أن أفعل شيئاً له، لكن التحدي له هو الشيء الذي ينبت فيه البذرة، بذرة المقاومة المستقبلية، والبذرة موجودة، وسوف تتحول إلى نبتة، والنبتة تورق، وتزدهر وتثمر وتنضج بإذن الله تعالى.
- هل أنتم مع هذه الرؤية الرافضة للواقع في الوقت الذي تقيم فيه –أو بدأت– “إسرائيل” علاقات مع أغلب الدول العربية؟
– نعم، وما زلت أرى أملاً كبيراً في الصحوة الإسلامية، وعندنا بشائر كبيرة في هذا، وما فيه العدو اليوم هو استثناء، قال تعالى: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ) (آل عمران: 112)، و”إلا” تعني الاستثناء، والاستثناء لا يبقى أبد الدهر، فهو فترة من الزمن ثم يعود الأصل، كما قال الله تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ) (الأعراف: 167)، واليهود يعرفون ذلك، يعرفون أن هذا الأمر لن يدوم لهم، وأن دولتهم زائلة، وقد ناقش بعض العرب وبعض المسلمين موشيه دايان في هذا الأمر، وقالوا: عندنا بشائر بأننا سننتصر عليكم، فقال: ونحن عندنا أيضاً أشياء بأن هذا لن يدوم لنا، ولكن ليس هذا الجيل منكم سينتصر علينا، وهذا صحيح؛ فجيلنا جيل منهزم، حينما يزول هذا الجيل المنهزم نفسياً قبل انهزامه عسكرياً، ويزول هؤلاء المهزومون ويخلفهم جيل يضع يده في يد الله، وينظر للأمور نظرة أخرى ويعد نفسه للجهاد في سبيل الله سيتغير الموقف؛ (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ {4} بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ {5} وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (الروم).
العدد (1202)، ص34-35 – 17 محرم 1417هـ – 4/6/1996م.