يتعرّض العلاَّمة د. يوسف القرضاوي، الداعية الإسلامي الأبرز على مستوى العالم اليوم، لحملة ظالمة ممن كان يفترض أن يحفظوا لفضله ومناصرته وسكوته عن تجاوزاتهم طويلاً، ضناً منه بالمقاومة.. الموضوع ليس بسيطاً، كما يبدو للبعض، فلو كان المسلمون السُّنة يقلدون “مرجعاً دينياً” على غرار إخوانهم الشيعة لكان القرضاوي أحد أكثر الرجال الذين يتبعهم الناس في هذا العالم، لما يحظى به من احترام ومكانة علمية، فضلاً عن كونه صاحب مدرسة اجتهادية في الفقه (المدرسة الوسطية)، وقد زاد عدد تلاميذه من العلماء على المئات، فيما تأثر به وباجتهاداته آلاف العلماء في مختلف بقاع العالم، حتى إنه لا يكاد يوجد مسلم معاصر إلا قرأ أو استمع له، أو سمع عنه.
شيخنا القرضاوي (84 عاماً)، رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ليس مرجعاً علمياً وحسب، إذ حفظ القرآن وعمره عشر سنوات، ونال الدرجة الثانية على مستوى مصر في الثانوية العامة، وحل أولاً بين زملائه في درجة “العالمية” في أصول الدين بالأزهر، ثم صار بمؤلفاته واجتهاداته علاَّمة في الفقه وأصول الدين.. وهو ليس داعية مجدداً فقط، وليس مؤلفاً وشاعراً وأديباً ورئيساً لعشرات المؤسسات العالمية وكفى!
القرضاوي -قبل ذلك كله- «مجاهد»، نال شهادة في النضال من السجون المصرية قبل أن يحظى بأي شهادة علمية، منذ عهد الملك فاروق، مجاهدٌ خَبِر المحاكم العسكرية وظُلْم الأنظمة القمعية، حتى قال يوماً: “كنا نناضل من أجل حرية القول، فأدخلونا السجون وعذبونا حتى إننا صرنا نناضل من أجل حرية البول”!
القرضاوي نُفي من بلاده أعواماً مديدة، ومُنع من الخطابة في بلده (مصر) أعواماً عديدة، وبدل أن تفتخر به أنظمة الحكم المتلاحقة في بلاده، حاربته، فما زاده ذلك إلا تمسكاً بمواقفه، التي أمدت المجاهدين والمقاومين و«الممانعين» بالحماسة والتأييد والثقة بالنصر.
الحملات على القرضاوي تأتي على خلفية موقفين لافتين له؛ الأول تمثل برفض القرضاوي إقحام «الفتنة» في البحرين في عداد الثورات العربية؛ حيث اعتبر أن الاحتجاجات هناك ذات طابع مذهبي، وهي غير سلمية، وحتى غير وطنية؛ ما تسبب بامتعاض كبير من قبل الشيعة في البحرين خصوصاً، وفي الخليج عموماً، فضلاً عن التوتر في العلاقة مع «حزب الله» وإيران.
وعلى عكس موقفه من احتجاجات البحرين، فقد دعم القرضاوي الاحتجاجات في سورية، منتقداً النظام الذي يقمع الشعب، الذي لا بد لقطار الثورة أن يصل إليه.. قبل أن يعود ويقول في الأسبوع التالي: إن “البعث انتهى مع صدام حسين (الرئيس العراقي الراحل)، وانتهى عهد الأحزاب الشمولية، وإن النظام الذي لا يتغير يداس بالأقدام”، وقد لاقى هذا الموقف -رغم تجنبه انتقاد الرئيس بشار الأسد مباشرة- غضباً شديداً من النظام السوري ومن “حزب الله”.
وكان نتيجة هذين الموقفين هجمات إعلامية وسياسية تعرض لها العلاَّمة القرضاوي، وصل بعضها إلى درجات هابطة في الإسفاف (مواقع إنترنت تتناول حياة الشيخ الشخصية بعبارة نابية ومعلومات خاطئة).. كما اتهمته مستشارة الرئيس السوري للشؤون الإعلامية د. بثينة شعبان بأنه «يثير فتنة»، فيما اتهمه مفتي سورية أحمد حسون بالعمل على «تدمير البلاد، وتسهيل احتلال أرضها وشعبها»، كما انتقده حسن نصر الله دون أن يسميه، لأنه لم يناصر الاحتجاجات في البحرين.. وتحت تأثير هذه المواقف راح الإعلام الرسمي السوري وإعلام «حزب الله» يستصرخ الناس حول كلام القرضاوي، ويروج لانتقاداتهم وإساءاتهم له.
ولأن القرضاوي ليس فقيهاً وحسب؛ حيث يمثل ما يشبه الأب الروحي للحركات، الإخوانية كلها، وهو رئيس «الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين»، فإن الحملة عليه لا بد أن تحدث آثاراً في السياسة، من أهمها ما يلي:
شكل حجم التفاعل السلبي مع مواقف القرضاوي، من قِبَل الجهات التي تقف وراء الحملات عليه؛ اعترافاً بأهمية الرجل وتأثيره، وإذا أضفنا إلى هذا المعطى تصنيف مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية مؤخراً للعلاَّمة القرضاوي “في طليعة الشخصيات المؤثرة في منطقة الشرق الأوسط”، فهذا يعني أن القرضاوي يحظى باحترام واسع في الشارع الإسلامي، بما فيه السوري، وأن مواقفه قد أسهمت فعلياً في دعم الاحتجاجات، لذا فإن تواصل الحملة على القرضاوي من جهة وإصرار الرجل على مواقفه من جهة أخرى، من شأنه مدّ المحتجين بمادة إضافية لتصعيد «ثورتهم» بدلاً من التقليل منها.. وهكذا، يصبح تغيير تعامل الإعلام الرسمي السوري مع رموز الأمة واحداً من مطالب الثورة كما يظهر مؤخراً على موقع «فيسبوك»؛ حيث أُنشئت مجموعات تحت عنوان «رفض التطاول على القرضاوي».
فيما يتعلق بحملة «حزب الله» على القرضاوي، فإن الأمور أكثر خطورة، لأنه يصب مباشرة في خانة تغذية التوتر المذهبي المتصاعد بين السُّنة والشيعة في لبنان والمنطقة، لذا فإن «حزب الله»، وعلى عاداته في فلكه أن يقول ما يتجنب الحزب قوله صراحة ولا سيما السُّنة منهم، ولا بأس أن تنقل قناة “المنار” –مثلاً– أقوال هؤلاء المنتقدين بـالبراءة، على سبيل المثال لا الحصر، صرح مصطفى حمدان بأن كلام القرضاوي يتطابق والفتنة المذهبية الصهيونية في المنطقة.
وضعت مواقف القرضاوي حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في وضع لا تحسد عليه، فعلاقة الحركة بالقرضاوي وثيقة للغاية لأسباب تنظيمية وسياسية وتربوية، كما أن علاقتها بالنظام السوري وثيقة أيضاً؛ لأن سورية؛ قيادة وشعباً، وقفت مع مقاومة الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة، واحتضنت قوى المقاومة الفلسطينية وخاصة “حماس”، وساندتها في أحلك الظروف وأصعبها، كما جاء في بيان “حماس” بشأن الأحداث الراهنة في سورية، لكن هذا البيان لم يوقف ضغط السلطات السورية على الحركة في الشق المتعلق بالقرضاوي.
وعلى هذا الأساس، روج الإعلام السوري وإعلام «حزب الله» لأقوال منسوبة إلى رئيس المكتب السياسي للحركة خالد مشعل، يقول فيها: “إنني أدعو الشيخ القرضاوي أن يحكم ضميره ويتحرر من الضغوط التي تمارس عليه من قبل جهات يعتبرها هو موثوقة، وأنه حين طردنا الحكام العرب السُّنة آوتنا سورية وبشارها؛ لذا أقول للشيخ القرضاوي من منطلق المحب العاتب: اتق الله يا شيخ بفلسطين”!
ولأن الترويج لهذه الأقوال غير الصحيحة كان واسعاً للغاية، فقد اضطرت الحركة إلى نفي المواقف المنسوبة إلى رئيس المكتب السياسي للحركة بشأن الأحداث في سورية، وخاصة ما يتعلق بفضيلة الشيخ يوسف القرضاوي، نفياً قاطعاً، مع اعتبار بيان الحركة أن ما يجري في الشأن الداخلي يخص الإخوة في سورية ونحترم إرادة الشعوب العربية والإسلامية وتطلعاتها، كما جاء في بيان الحركة الأول.. غير أن الإعلام السوري وإعلام «حزب الله» أهملا النفي والتوضيح، واستمرا بالترويج لدعم «حماس» للنظام السوري!
خلّفت الحملة على القرضاوي استياءً كبيراً في صفوف «الجماعة الإسلامية» في لبنان، صحيح أن الجماعة لم تُصدر بياناً رسمياً للدفاع عن القرضاوي، إلا أن مواقف أبرز قياداتها عبّرت عن حجم الاستياء، وعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد ألقى الشيخ أحمد العمري، رئيس «لجنة القدس» في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين خطبة نارية يوم الجمعة (الأول من أبريل) في مسجد الروضة وسط الضاحية الجنوبية، مؤكداً رفض التطاول على إمام الأمة وشيخ ثوراتها، ومشيراً إلى أن القرضاوي عندما كان في طلائع الإخوان المسلمين في حرب 1948م ضد الصهاينة لم يكن من يتطاولون عليه قد ولدوا بعد.. ولا بد من وضع حدود عندما تتطاول الألسن على مرجعياتنا الكبرى، وصولاً إلى قوله: “من أراد التكلم عن الظلم والحقوق فليتكلم عن حقوق وظلم أهل السُّنة في إيران”.
وفي اليوم ذاته، ألقى نائب الأمين العام لـ«الجماعة الإسلامية» الشيخ محمد عمار خطبة في مسجد الإمام الحسين بمدينة صيدا، شدد فيها على دعم المظلومين الأبطال في سورية ورفضه القاطع لـ«التطاول على شيخ الأمة القرضاوي».
ومن المفترض صدور المزيد من المواقف المنددة بالتعرض للقرضاوي ما سيترك آثاراً على علاقة الجماعة بـ “حزب الله”، على وجه التحديد، على اعتبار أن العلاقة مع النظام السوري ضعيفة أصلاً.
تضامن واسع
وسط توقعات باستمرار القرضاوي على مواقفه -إن لم يتجه نحو مزيد من التصعيد كما فعل الأسبوع قبل الماضي، رغم مواقف قطر وإعلام “الجزيرة” الذي يتعامل مع الحدث السوري بـ«نعومة» واضحة- فإن حملة التضامن معه سوف تكبر، متخذة مواقف عملية على صعيدين بارزين:
أولاً: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين؛ الذي أصدر بياناً واضحاً أدان فيه الاعتداءات على المتظاهرين في سورية بالقتل والاعتقال وانتهاك حرمة المساجد، داعياً الرئيس السوري إلى رفع المظالم وإجراء إصلاحات شاملة، على أن تبقى بياناته رهن ما يجري.
وثانياً: الحركات الإخوانية في العالم، ولا سيما في مصر التي ينحدر القرضاوي منها، والتي أبلغت من يعنيه الأمر “استياءها الشديد من التعرض للقرضاوي، تاركة التعبير عن موقفها سواء بالأقوال أو الأفعال، رهن تطور الأحداث.
___________________________________________________
العدد: 1947 6 جمادى الأولى 1432هـ / 9 إبريل 2001، صفحة 28-30
كاتب المقال: فادي شامية