نظام الدولة الحديثة التي فصلت الدين عن الدولة، وحصرته في علاقة شخصية بين الإنسان وما يعتقده، يعطي المواطن الحق أن يسب الذات الإلهية، ويحرق كتابا دينيا مقدسا، ويزدري الأديان، ويسخر من الأنبياء والطقوس والشعائر الدينية، لكن ليس من حقه سب الذات الملَكية، أو حرق دستور البلاد، أو إهانة عَلَم الدولة، أو السخرية من النشيد الوطني والأعياد الوطنية، أو التخلف عن تحية العلم والوقوف لموسيقى النشيد الوطني، أو ازدراء طقوس وضع الزهور على قبر الجندي المجهول، أو انتهاك أي من الطقوس والشعائر والمقدسات التي تفرضها الدولة على مواطنيها.
فالدولة أصبح لها دين جديد يعلو فوق كل الأديان، وتفرضه بقوة السلطة على جميع مواطنيها، وتفرض أقسى العقوبات على كل من يخالف تعاليم دين الدولة بكل طقوسه ومقدساته.
الدولة الحديثة التي فصلت الدين عن الدولة وربطت درجة حداثتها بمدى إقصائها للدين.. وقعت في إشكالية كبيرة؛ فهي من واقع تراكم الخبرة بتاريخ الإنسان والنظم السياسية التي أنشأها عبر تاريخه الطويل على الأرض، تؤمن بما ذكره “جان جاك روسو” في كتابه “العقد الاجتماعي” من أن الدين وحده هو القادر على إضفاء الصفة الإلزامية على القوانين التي تصدرها الدولة، وهو القادر على حفظ هيبة الدولة وسلامة نسيجها المجتمعي.
ولذلك أصبح لزاما عليها سد فجوة إقصاء الدين الإلهي باختراع دين جديد للدولة، يرتبط بنظامها السياسي، ويحفظ له هيبته وقداسته، واقتبست معالمه من الأديان السماوية؛ فقامت بوضع إرادة الدولة أو الإرادة الشعبية بديلا عن الإرادة الإلهية، والدستور بديلا عن الكتب المقدسة، والقانون بديلا عن الشرائع، وابتكرت لدين الدولة طقوسا وأنبياء ومقدسات بديلة عن مثيلتها في الأديان السماوية؛ فاخترعت عَلَما، ونشيدا وطنيا، وأعيادا وطنية، وزعماء وأبطالا وطنيين.
تتفاوت درجات الدولة الحديثة من ديمقراطية ليبرالية إلى ديكتاتورية بمختلف أنواعها، لكنهم جميعا يدينون بنفس الدين البديل مع اختلاف التفاصيل، منها اختلاف درجة قداسة الحاكم والزعيم، واختلاف حَد الرِدة عن دين الدولة، ومدى قساوته وصرامة تطبيقه، لكنهم لا يختلفون مطلقا على جريمة الكفر بدين الدولة، وضرورة معاقبة كل من لا يقيم طقوسه وشعائره، أو ينتهك مقدساته، ويعتبرونه من أعداء الوطن الذي لا يمكن التسامح معه.
إن أكبر أكذوبة تم ترويجها في عالَم السياسة: “لا دين في السياسة، ولا سياسة في الدين”.
وأكبر أكذوبة يمكن أن يصدقها إنسان أنه بإمكانه أن يعيش بلا دين، وأن يكون “لا دينيا”!