د. يوسف القرضاوي يعلِّق على تعقيب سماحة الشيخ ابن باز:
الحمد لله، والصلاة على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فقد اطلعت على ما كتبه سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز، حفظه الله، تعقيباً على ردي على الفتوى التي صدرت من سماحته إجابة عن أسئلة وجهتها إليه مجلة “المسلمون”، في 21 رجب 1415هـ، حول السلام مع دولة الاغتصاب الصهيوني (إسرائيل)، الذي نشر في العدد (1140) من مجلة “المجتمع” والعدد (525) من صحيفة “المسلمون”.
ويؤسفني أن أخالف سماحته في تعقيبه كما خالفته في أصل الفتوى، وليس في العلم كبير، والحق أحق أن يتبع، وقد أكد الشيخ الأصل الأصيل الذي لا يحيد عالم عنه، وهو أن كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد بنيت ردي السابق على حقيقة مهمة ومسلَّمة لدى أهل العلم، وهي أن الفتوى لا تكون صحيحة واقعة موقعها إلا إذا امتزج فيها فقه النصوص والأحكام بفقه الواقع، فإذا انفصل أحدهما عن الآخر وقع الخلل، وقد ذكرت أن الخلل الذي وقع في فتوى سماحة الشيخ لم يجئ من عدم معرفة النصوص والأحكام، بل من عدم معرفة الواقع على حقيقته.
ومعرفة الواقع وفقهه قد يصل إليه الفقيه بنفسه وقد يحتاج إلى خبراء يقرأ لهم أو يستمع إليهم، كما في الأمور الطبية والفلكية والاقتصادية وغيرها، والقرآن الكريم يقول: (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً) (الفرقان: 59)، (وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) (فاطر: 14).
وكنت أود من فضيلة الشيخ أن يرد على ما أثرته واستشكلته في فتواه –حفظه الله– ولكنه رد على أمور جانبية وترك الأساس في القضية.
قلت في كلمتي تلك: إن الشيخ استدل بالآية الكريمة: (وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ) (الأنفال: 61)، والآية محكمة في نظرنا، والحكم المستنبط منها مسلَّم في عمومه، ولكن تطبيقه على الواقع غير مسلَّم، فاليهود لم يجنحوا يوماً للسلم، وإنما هم مغتصبون معتدون أخذوا الأرض من أهلها بالقوة والسلاح والعنف والإرهاب وشرَّدوهم منها، وأقاموا دولتهم العنصرية الظالمة عليها، وقد قلت: إن الغاصب داري ويسمح لي بحجرة منها أسكنها بإذنه وتحت سلطانه، فليس هذا جنوحاً للسلم بحال.
هذا ما قلته ولم أقل: إن من استطاع أن يأخذ حجرة من داره المغتصبة، فليس له أن يأخذها ويجاهد لأخذ الباقي واسترداده، وهو الذي استنبطه الشيخ من قولي: وقال: إنه خطأ محض وهو ما لم أقله.
لقد استدل الرئيس المصري الراحل أنور السادات حين عقد اتفاقه مع “إسرائيل” بالآية الكريمة: (وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ) فقاطعه العرب جميعاً وخوَّنوه، وقالوا: إن اليهود لم يجنحوا للسلم، وأعتقد أن الموقف لم يتغير، بل إن اتفاق عرفات أسوأ من اتفاق السادات، باعتراف الجميع، ومن نظر في تاريخ اليهود وفي حديث القرآن عنهم، وفي واقعهم العملي، يجزم بأنهم لم يجنحوا للسلم أبداً.
كيف وقد رأينا منهم مذبحة المسجد الإبراهيمي، وقتل الركع السجود في بيت الله، وفي شهر رمضان، كما رأيناهم يغتصبون شطر المسجد ويحرمون على المسلمين دخوله.
وكيف يعتبر جانحاً للسلم من يقيم المستوطنات إلى اليوم في أرض العرب والمسلمين، وينتزع الأرض الزراعية من أيدي أصحابها وملاَّكها، ويأتي بالآلات (البلدوزرات) لتسويتها وإلحاقها بأملاك اليهود، وأهل الأرض يصرخون ويستغيثون ولا مغيث؟
كيف يعتبر جانحاً للسلم من يقيم الحفريات حول المسجد الأقصى ومن تحته ويعد العدة لبناء الهيكل على أنقاض المسجد، وهو أحد أحلامه الكبرى؟
كيف يعتبر جانحاً للسلم من يهدد المنطقة كلها بترسانته النووية وأسلحته الكيمائية والجرثومية، ويمتنع من مجرد التوقيع على اتفاقية منع انتشار الأسلحة النووية؟
الحق أن كل البراهين والشواهد تدل بوضوح على أن اليهود في طبيعتهم العدوان، وفي مخططهم العدوان، فهم ما زالوا يحلمون بـ “إسرائيل الكبرى”، من الفرات إلى النيل، إلى أرض خيبر، ومواقع بني قينقاع، وقريظة، والنضير.
وإنما سعى اليهود إلى هذا السلام المدَّعى، حين رأوا تنامي الجهاد وحركة المقاومة الإسلامية التي غدت مصدر قلق ورعب لليهود، فأرادت أن تضرب الحركة الإسلامية الفلسطينية بأيدي الفلسطينيين أنفسهم، وهو ما نتمنى ألا يكون.
وأما ما ذكره الشيخ ابن باز من مصالحة النبي صلى الله عليه وسلم مشركي قريش في الحديبية وعقد هدنة معهم لعشر سنين مع ظلمهم للمسلمين في دورهم وأموالهم واستدلاله بذلك على جواز ما يصنع اليوم مع “إسرائيل”، فهو استدلال مردود للفرق الشاسع بين الموقفين، فقريش ليست عنصراً دخيلاً على مكة، بل الدار دارها والبلد بلدها والمسلمون هاجروا إلى الله ورسوله مختارين لنصرة دينهم لا لدنيا يصيبونها، ولم يكن المشركون يحبون هجرتهم، ولهذا هاجروا مستخفين إلا ما كان من عمر رضي الله عنه، وإن عبر القرآن عن ذلك بأنهم “أخرجوا من ديارهم وأموالهم”، لما كان عليهم من التضييق والإيذاء.
بخلاف “إسرائيل”، فهي كيان دخيل على المنطقة، احتل الأرض، وأقام عليها دولته وشرد أهلها، وفرض على العرب والمسلمين دولة دخيلة معادية في قلب دار الإسلام ووطن العرب.
ثم إن ما فعله الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم معهم ليس أكثر من مهادنة تتوقف فيها الحرب بين الفريقين مدة من الزمن، وهذا ما يمكن قبوله للضرورة أو للمصلحة إذا رأى ذلك أهل الحل والعقد، أما الذي حدث مع اليهود فهو –كما ذكرنا من قبل– شيء أكبر وأعظم، إنه اعتراف بحق اليهود فيما اغتصبوه من أرضنا، وأنه غدا جزءاً من دولتهم، وأن لهم حق السيادة عليه، وأن سلطانهم عليه سلطان شرعي، وأنه لم يعد لنا حق شرعي في المطالبة به، ناهيك بالجهاد لاسترداده، بعد أن وقعنا على ذلك العقود وأشهدنا الشهود، من الدول الكبرى والأمم المتحدة، وهذا ما لم يرد عليه الشيخ الجليل سدده الله.
على أن صلح الحديبية لم يكن مجرد رأي اجتهادي من الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما هو –كما يبدو من ظاهر الأحداث– أمر وجهه إليه الوحي الإلهي المعصوم، ولذا قال عليه الصلاة والسلام لمن ناقشه من الصاحبة: “أنا عبدالله ورسوله، ولن أخالف أمره، ولن يضيعني”.
وأما استشهاد الشيخ بقوله تعالى: “والصلح خير” فليس على إطلاقه، فالصلح الذي يضيع حقوق الأمة، أو يملك أرض الإسلام لغاصبيها ليس خيراً، وفي الحديث المعروف الذي رواه الترمذي: “الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحاً حرم حلالاً، أو حلل حراماً”، فحتى الصلح بين المسلمين ليس خيراً بإطلاق، بل هو مقيد بقيود لا تخفى على أهل العلم.
وقد عقَّب سماحة الشيخ ابن باز على قولي بأن الآية التي ينبغي ذكرها هنا هي قوله تعالى: (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) (محمد: 35)، إن هذا فيما إذا كان المظلوم أقوى من الظالم، وأقدر على أخذ حقه، فإنه لا يجوز له الضعف والدعوة إلى السلم، وهو أعلى من الظالم، أما إذا كان ليس هو الأعلى في القوة الحسية، فلا بأس أن يدعو إلى السلم، كما صرح بذلك الحافظ ابن كثير في تفسيره.
وأقول للشيخ: إن سياق الآية لا يدل على ما ذهب إليه، بل الآية تنهي عن الدعوة إلى أسلم من منطلق الضعف، لا من منطلق القوة، بدليل عطف الدعوة إلى السلم على الوهن، في الآية: (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ)، ويجوز أن تكون الواو المعية، والآية تذكرة لهم بأنهم “الأعلون” دائماً؛ لأنهم أصحاب الدين الذي يعلو ويعلى، فحقهم أعلى من باطل المشركين وتوحيدهم أعلى من شركهم، وحججهم أعلى من شبهاتهم، والعاقبة لهم: (وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) (الصافات: 173).
وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى في سورة “آل عمران”، بعد هزيمة أحد: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (آل عمران: 139).
وما فهمه الشيخ من الآية: أن يحارب المسلمون إذا قووا، ويدعوا إلى السلم إذا ضعفوا، لا يشرف المسلمين بل يجعلهم جماعة من الانتهازين الذين لا يحكمون الاعتبارات الأخلاقية بل الاعتبارات النفعية وحدها، وهذه في الواقع سوأة خلقية، وتهمة يبرأ منها الشرفاء.
والمفسرون الكبار يخالفون ابن كثير، رحمه الله، فيما ذهب إليه، فهذا شيخ المفسرين أبو جعفر الطبري يقول في تفسير الآية، يقول تعالى ذكره: فلا تضعفوا أيها المؤمنون بالله عن جهاد المشركين، وتجنبوا عن قتالهم.
وقوله: (وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ)، يقول: “ولا تضعفوا عنهم وتدعوهم إلى الصلح والمسألة وأنتم القاهرون والعالون علىهم، (وَاللَّهُ مَعَكُمْ) بقوله: والله معكم بالنصر لكم عليهم. (تفسير الطبري جـ 11/226).
ويقول العلامة الألوسي في تفسير الآية: “فلا تهنوا”؛ أي: إذا علمته أن الله تعالى مبطل أعمالهم ومعاقبهم، فهو خاذلهم في الدنيا والآخرة، فلا تبالوا بهم، ولا تظهروا ضعفاً، ولا تدعوا الكفار إلى الصلح خوراً وإظهاراً للعجز، فإن ذلك إعطاء الدنية، “وأنتم الأعلون” الأغلبون، والعلو بمعنى الغلبة مجاز مشهور، والجملة حالية مقررة لمعنى النهي، مؤكدة لوجوب الانتهاء، وكذا قوله تعالى: (وَاللَّهُ مَعَكُمْ) أي ناصركم، فإن كونهم الأغلبية وكونه عز وجل ناصرهم من أقوى موجبات الاجتناب عن الذل والضراعة (روح المعاني جـ 26/ 80).
وما أشار إليه سماحة الشيخ –في إيضاحه لجريدة “المسلمون” من وجوب جهاد المشركين من اليهود وغيرهم– مع القدرة حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية.. إلخ، فهذا في “جهاد الطالب”، لا في “جهاد الدفع”.
ونحن الآن في جهاد الدفع –دفع العدو المعتدي على أرض الإسلام وأهلها– وهو غير جهاد الطالب، حين يكون العدو في دياره، لا في ديارنا ونحن نتعقبه من باب “الحرب الوقائية”، وهذا هو الذي قرر الفقهاء أنه فرض كفاية، بخلاف جهاد الدفع، فهو فرض عين على من وقع عليه، ثم على من يليه، حتى يشمل الأمة كافة، وعلى جميع المسلمين مساعدته حتى ينتصر على عدوه، ويخرجه من دياره.
وأما ما ذكره الشيخ، أكرمه الله، من أن أولي الأمر إذا اجتهدوا فيما رأوا فيه المصلحة فعلينا إطاعتهم، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) (النساء: 59)، فأولو الأمر –كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من الفقهاء الكبار- أصحاب الأمر وذروه، وهم الذين يأمرون الناس، وذلك يشترك فيه أهل اليد والقدرة وأهل العلم والكلام، فلهذا كان أولو العلم صنفين؛ العلماء والأمراء، فإذا صلحوا صلح الناس، وإذا فسدوا فسد الناس (مجموع الفتاوى 28/170)، وللشيخ رشيد رضا في تفسير الآية في “المنار” شرح مستفيض يجب الرجوع إليه.
وإسلامنا أن أولي الأمر هم الحكام وحدهم، فهذا في حاكم بايعته الأمة على الكتاب والسُّنة ووافقه أهل الحل والعقد، وأنه اليد والقدرة؛ أي السيادة والسلطة على أرضه وشعبه، أما حاكم ليس له سلطة إلا في حدود ما سمح به أعداؤه له، فليس هذا هو ولي الأمر الشرعي الواجب طاعته.
على أن الطاعة لولي الأمر الشرعي ليست مطلقة، إنما هي في “المعروف”، كما صحت به الأحاديث، وكما أشار إليه القرآن، فمن أمر بمعصية فلا سمع له ولا طاعة، ومن القواعد المقررة فقها وشرعاً: أن تصرف ولي الأمر على الرعية منوط بالمصلحة، فإذا تصرف تصرفاً لا مصلحة فيه، فهو رد –أي مردود عليه- ولا مصلحة في التنازل عن أرض الإسلام لليهود الغاصبين، والاستسلام لهم إلا إذا كانت مصلحة بني صهيون، فهم المستفيد الأوحد من هذا السلام المزعوم.
وأحب أن أنبه هنا على أمر ذي بال أشرت إليه من قبل، وهو أن قضية فلسطين ليست قضية عادية، وأرض فلسطين ليست كغيرها، ففيها القدس والمسجد الأقصى منتهى الإسراء، ومبتدأ المعراج، والقبلة الأولى في الإسلام، فليست شأناً يخص الفلسطينيين وحدهم، وإنما هي قضية الأمة الإسلامية كلها، وقد ربط الله في كتابه بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى، فلا يجوز التفريط في أحدهما من مسلم.
هذا، وإن خلافي لسماحة الشيخ عبدالعزيز لا ينفي ما أكنه له من احترام، وظني أنه لم يعرف الواقع السياسي على حقيقته، فجاء حكمه على قدر ما علم، وقد أثبت الواقع أن الفلسطينيين لم يحصّلوا أي مصلحة من وراء ذلك السلام المزعوم، وأن المستفيد الأوحد منه هم اليهود.
إني لأرجو من الشيخ أن يمعن النظر فيما أوردت من أدلة واعتبارات، عسى أن يراجع رأيه، فهو –فيما علمت– رجاع إلى الحق، وقد قال عمر رضي الله عنه في رسالته الشهرية في القضاء: “ولا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس، أن تراجع فيه نفسك اليوم، فإن الحق قديم والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل”.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً ووفقنا لاجتنابه، والحمد لله أولاً وآخراً.