قيل لسفيان بن عيينة: «قد استنبطت من القرآن كل شيء، فهل وجدت المروءة فيه؟ فقال: نعم في قوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف: 199)، ففيه المروءة وحسن الأدب ومكارم الأخلاق، فجمع في قوله:(خُذِ الْعَفْوَ)صلة القاطعين والعفو عن المذنبين، والرفق بالمؤمنين، وغير ذلك من أخلاق المطيعين، ودخل في قوله: (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ)صلة الأرحام، وتقوى الله في الحلال والحرام، وغض الأبصار، والاستعداد لدار القرار، ودخل في قوله: (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) الحض على التخلق بالحلم، والإعراض عن أهل الظلم، والتنزه عن منازعة السفهاء، ومساواة الجهلة والأغبياء، وغير ذلك من الأخلاق الحميدة والأفعال الرشيدة»(1).
لله ما أفقه سفيان! فقد التقط من الجوهر أجمله، ومن الحديث أحسنه، ومن القول أنفعه، وهذه نفحة من فيوضات الرحمن عند معايشة القرآن، فيا ترى ما المروءة؟ وما مفادها؟
المروءة هي درة التاج الذي يوضع على رأس الفضائل ويزين قامة المثل، يقول الإمام ابن القيم: «إن مروءة كل شيء بحسبه، فمروءة اللسان حلاوته وطيبه ولينه، ومروءة الخلق سعته وبسطه للحبيب والبغيض، ومروءة المال الإصابة ببذله مواقعه المحمودة عقلاً وعرفاً وشرعاً، ومروءة الجاه بذله للمحتاج إليه، ومروءة الإحسان والبذل تعجيله وتيسيره وعدم رؤيته حال وقوعه، ونسيانه بعد وقوعه»(2).
وإن كان العقل يأمرك بالأنفع، فإن المروءة تأمرك بالأرفع.
رشفة من اليم
عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، جَاءَتِ امْرَأَةٌ إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ببُرْدَةٍ، فَقالَ سَهْلٌ لِلْقَوْمِ: أتَدْرُونَ ما البُرْدَةُ؟ فَقالَ القَوْمُ: هي الشَّمْلَةُ، فَقالَ سَهْلٌ: هي شَمْلَةٌ مَنْسُوجَةٌ فِيهَا حَاشِيَتُهَا، فَقالَتْ: يا رَسولَ اللَّهِ، أكْسُوكَ هذِه، فأخَذَهَا النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُحْتَاجًا إلَيْهَا فَلَبِسَهَا، فَرَآهَا عليه رَجُلٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، ما أحْسَنَ هذِه، فَاكْسُنِيهَا، فَقالَ: «نَعَمْ»، فَلَمَّا قَامَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لَامَهُ أصْحَابُهُ، قالوا: ما أحْسَنْتَ حِينَ رَأَيْتَ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أخَذَهَا مُحْتَاجًا إلَيْهَا، ثُمَّ سَأَلْتَهُ إيَّاهَا، وقدْ عَرَفْتَ أنَّه لا يُسْأَلُ شيئًا فَيَمْنَعَهُ، فَقالَ: رَجَوْتُ بَرَكَتَهَا حِينَ لَبِسَهَا النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، لَعَلِّي أُكَفَّنُ فِيهَا(3).
كان النبي صلى الله عليه وسلم أعظم الناس مروءة، وأعلاهم فيها مكانة، وفي هذا الحديث الشريف صورة عظيمة من صور المروءة رسمها النبي صلى الله عليه وسلم للسائرين إلى طريق رب العالمين، وأي مروءة أعظم وأكرم من أن يجود رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يحب ويشتهي، لقد لبس البردة معجباً بها محتاجاً إليها ثم سأله الصحابي الجليل وهو يعلم أنه لا يرد سائلاً، فكانت إجابته لمطلوب الصحابي أسرع من البرق العلوي، وسعد الرجل ببركتها في الدنيا، وكانت كفناً له للقاء الله في العقبى.
بين الفهوم والرسوم
كثيرة هي الكلمات التي تصف المروءة في أحاديث الكبار الذين جعلوا منها شرعة ومنهاجاً، فقد سأل معاوية بن أبي سفيان عمرو بن العاص عن المروءة؟ فقال: تقوى الله وصلة الرحم، وسأل المغيرة بن شعبة فقال: هي العفة عما حرم الله تعالى، والحرفة فيما أحل الله تعالى، وسأل يزيد؟ فقال: هي الصبر على البلوى، والشكر على النعمى، والعفو عند المقدرة، فقال معاوية: أنت مني حقاً.
وسئل الأحنف بن قيس عن المروءة فقال: التفقه في الدين، وبر الوالدين، والصبر على النوائب، ولا إخاء لملول، ولا سؤدد لسيئ الخلق(4)، المروءة هي حلية النفوس وزينة الهمم، تعلي شرف النفس وقدرها، تحض على المعالي وتجنب صاحبها الغرور والأماني، وتجعل الفضيلة له صاحباً، ومكارم الأخلاق رفيقاً ومؤنساً، فبعضهم رآها في تقوى الله واستحضار عظمته ومعيته، وبعضهم رآها في صلة الرحم وبر الوالدين؛ لأن الإنسان ببر الوالدين يسدد ديوناً سابقة، لكننا لا نحسن الوفاء والأداء، وأي مروءة أشرف من بر الوالدين، ويا ويل من أغلظ لهما في الخطاب وعصى في رد الجواب؟ ورآها آخرون في الصبر على البلاء والشكر على النعماء والعفو عند المقدرة وهذه من أمارات السعادة الحقيقية، قيم فهمها الكبار وعملوا بها، وشتان بين الفهوم والرسوم.
الواقع والمأمول
بالبحث والتحري في دنيا الناس عن المروءة وبنظرة إلى الواقع البئيس عن القيم المفقودة وجدناها كالأيتام على موائد اللئام، وحق للشاعر أن ينوح عليها يقظة لا في المنام:
مررت على المروءة وهي تبكي
فقلت: علام تنتحب الفتاة؟!
فقالت: وما لي لا أبكي وأهلي
جميعاً دون خلق الله ماتوا!
وهذه مفارقات عجيبة تقع بين الناس تحتاج إلى ضبط للقيم بميزان حساس، أليس من المروءة التخلي عن المعاصي والذنوب، فقد حاصرتك أشجار الشيخوخة وذبل البستان، وولى العمر، وحان تقويض البنيان، أليس من المروءة غض البصر وعفة النظر، فكم من امرأة عفيفة تابعتها أعين الجياع بنظرات آثمة وعبارات نابية؟ أليس من المروءة عذوبة اللسان وطهارة الجنان بدلاً من البذاء واللعان؟ أليس من المروءة تحمل أذى الجار وإقالة عثراته ومواساته بدلاً من تتبع عوراته ورصد زلاته وهناته؟ أليس من المروءة الصدق في الأقوال والأفعال بدلاً من الكذب والنفاق في الحل والترحال؟ أليس من المروءة تعظيم الحرمات فهي من تقوى القلوب بدلاً من انتهاكها بالفواحش ومعاداة علام الغيوب؟ وأخيرًا وليس آخرًا أليس من المروءة مد يد العون للمحتاجين والضعفاء، والتحلي بالكرم في العطاء بدلاً من المن والأذى والجفاء، علينا أن ننبش قبر المروءة لنحيي بأفعالنا الطيبة هذه الموءودة.
___________________
(1) ابن المرزبان المحولي المروءة (1/ 133).
(2) مدارج الساكين (2/ 447).
(3) صحيح البخاري، 6036.
(4) أدب الدنيا والدين (310)، الآداب الشرعية (2/ 211).