ومن مقتضيات المعاصرة ألا يستسلم الإنسان لظروف حاضره، بل يتطلع دائماً إلى المستقبل، ومهما يضغط عليه الواقع بهمومه الآنية، ومشكلاته اليومية وجراحه المستمرة في النزيف، فإنه يرنو إلى الغد، ويستشرف للمستقبل، يعدُّ له العدة، ويأخذ له الحيطة، محاولاً أن يسد ما يتوقع من ثغرات، وأن يعالج ما يطرأ من آفات، وأن يغرس نواة اليوم لتصبح نخلة أو شجرة زيتون بعد سنوات، وأن يفكر ماذا سيواجه الأبناء والأحفاد في الأجيال القادمة، وما الأخطار التي ترتقبهم؟ والآمال التي يترقبونها؟ وهل في الإمكان أن ندخر من يومنا لغدنا، أو لغد ذرارينا من بعدنا، وأن نقيهم بعض ما أصابنا من محن، وما غشينا من فتن، وما حل بنا من كوارث لم نأخذ لها الأهبة؟
وهل يمكن للإنسان أن يطمح إلى مستقبل، تغلب فيه الآمال يأس اليائسين، وتجف فيه دموع البائسين، وينتصر فيه الخير على الشر، والعدل على الظلم، والرخاء على الفقر، والعلم على الجهل، والتسامح على التعصب؟
إن من سمات عصرنا التطلع إلى المستقبل ومحاولة استشفافه، أو توقع ما يمكن أن يحدث فيه، لا عن طريق الكهانة والتنجيم، بل عن طريق الدراسة والرصد، وبناء النتائج على المقدمات، المسببات على الأسباب، كما تفعل “الأرصاد الجوية” بالنسبة للرياح والأمطار والحرارة والبرودة.
يقول د. المهدي للنجرة، وهو أحد المهتمين البارزين من العرب بهذا اللون من الدراسة: إن الدراسات الاستقبالية تعد ظاهرة حديثة النشأة تعود إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، وأول من باشرها مؤسسة “راند” بناء على طلب “البنتاجون” في عام 1947م، ولم تشهد انطلاقتها الحقيقية إلا مع نهاية الستينيات، وقد تتبع زكي نجيب محمود، في مقاله “المستقبل المحسوب”، بدايات الاهتمام بهذه الدراسات منذ مطلع القرن العشرين، وتحدث قسطنطين زريق، في كتابه “نحن والمستقبل”، عن هذا النمط العلمي الريادي المعاصر في الاهتمام المستقبلي، الذي يتميز بصفته العلمية، وبتمسكه بالمنطق الاختباري، وبأنه جهد جماعي رآه ينتسب إلى عالمنا المعاصر.
ويعلق د. أحمد صدقي الدجاني، في بحثه القديم “دراسة المستقبل برؤية مؤمنة مسلمة”، بقوله: واضح أن ظهور الدراسة المستقبلية بمعناها الحديث وثيق الصلة بثورة العمل التقني التي تفجرت في عالمنا المعاصر هذا، وأثمرت ثورة في الاتصال وثورة في المعلومات، وأحدثت تحولات وتحولات، وقد أورد هوج ستيورات، في كتابه “تذكر المستقبل”، تسعة تحولات تحدث عنها جون نيبست عام 1982م وسماها توجهات عظمى: “تحول من مجتمع صناعي إلى مجتمع معلوماتي، انتقال من انقياد للتقنية إلى استجابة إنسانية لها، انتقال من ضيق الاقتصاد القومي إلى شمول الاقتصاد العالمي، تحول من المركزية إلى اللامركزية، تزايد الاعتماد على الذات في مقابل الاعتماد على المؤسسات، التحول من ديمقراطية الإنابة إلى ديمقراطية المشاركة، تحول من نظام هرمي إلى نظام شبكي، انتقال من مناطق صناعية إلى مجتمعات جديدة، تحول من مجتمع خيارات محدودة إلى خيارات عديدة”، ولما كانت ثورة العلم التقني قد تفجرت في الغرب، فإن ظهور الدراسة المستقبلية بمعناها الحديث بدأ هناك، وقد أولتها عناية خاصة المؤسسات العسكرية والشركات متعددة الجنسيات عابرة القارات، وهكذا بدت الصلة وثيقة بين الدراسات المستقبلية والدراسات الإستراتيجية.
كان طبيعياً أن يجري بحث عن اسم يطلق على هذه الدراسة المستقبلية التي ظهرت بمعناها الحديث، وأن يجتهد المشتغلون بها فيطلقون عليها هذا الاسم أو ذاك، وهكذا ظهر اسم “المستقبلية” ولم يلبث جاستون بيرجر الفرنسي أن سماها عام 1960م “علم الريادة”، ثم استخدم أوسيب فليشتم الألماني عام 1966م اسم “علم المستقبل”، في كتابه “علم حساب المستقبل”.
وإن كان د. الدجاني يتحفظ على اعتبار ذلك علماء، بل يراه استشرافاً وتشوفاً ورؤية.
فهل يتسع صدر الإسلام –عقيدة وشريعة وفكراً– لهذا النوع من التوجه المستقبلي، أم يضيق به ويغلق الباب دونه؟
إن كثيراً ممن لم يتعمقوا في فهم الإسلام يحسبون أن الدين عامة –والإسلام خاصة– لا يرحب بالنظرة المستقبلية، التي تستوجب استشراف الغد، والتخطيط له، والإعداد لما عساه أن تمخض عنه الليالي والأيام.
وذلك لأن الدين –في نظرهم– يربط الإنسان بماضيه وتراثه، الذي غالباً ما ينظر إليه نظرة فيها لون من “التقديس”، الذي يحيله إلى قفص يحول دون حركته وانطلاقه، وإن كان في نظره قفصاً من ذهب! أما المستقبل فهو بيد الله تعالى، وهو غيب لا يعلمه إلا الله سبحانه، ولا دخل للإنسان في توجيهه، وإنما يفرض عليه القدر الأعلى من فوق دون أن يكون له كسب أو اختيار.
هكذا يفكر بعض المتدينين، وخصوصاً العوام، وأشباه العوام، وأقصد بأشباه العوام كثيراً من الجامعيين، وكبار المتعلمين الذين لا يتميزون كثيراً في أفكارهم الدينية عن العوام والأميين، وإن كانوا في تخصصاتهم من المرموقين، الذين قد يشار إليهم بالبنان.
وهذا اللون من التفكير هو الذي يعتمد عليه جماعة العلمانيين في تصوير النظرة الإسلامية للمستقبل.
ومن أراد أن يعرف النظرة الإسلامية للمستقبل فليعرفها من القرآن الكريم والسُّنة النبوية، كما أوجزت بيان ذلك في بعض كتبي.
القرآن الكريم والمستقبل
فالمتدبر للقرآن الكريم يجده منذ العهد المكي يوجه أنظار المسلمين إلى الغد المأمول، والمستقبل المرتجى، ويبين لهم أن الفلك يتحرك، والعالم يتغير، والأحوال تتحول، فالمهزوم قد ينتصر، والمنتصر قد يُهزم، والضعيف قد يقوى، والدوائر تدور، سواء كان ذلك على المستوى المحلي أو العالمي.
وعلى المسلمين أن يهيئوا أنفسهم، ويرتبوا بيتهم لما يتمخض عنه الغد القريب أو البعيد، فكل أت قريب.
نقرأ سورة “القمر” المكية، فنجد فيها قول الله تعالى عن المشركين، وهم أولو القوة والشوكة، والعدد والعدة: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ {45} بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ) (القمر).
ذكر ابن كثير في تفسيره عن ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: لما نزلت (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ)، قال عمر: أي جمع يهزم؟ أي جمع يغلب؟ فلما كان يوم “بدر” رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثبت في الدرع، وهو يقول: “سيهزم الجمع ويولون الدبر”، فعرفت تأويلها يومئذ.
وروى البخاري عن عائشة قالت: نزلت على محمد صلى الله عليه وسلم بمكة، وإني لجارية ألعب: (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ).
فكان المقصود بهذه الآية وأمثالها تهيئة الذهنية المسلمة، والنفسية المسلمة، للتغير الحتمي، والغد المرتقب.
وعلى المستوى العالمي، نجد آيات الكتاب العزيز تتحدث عن ذلك الصراع التاريخي بين الدولتين العظميين؛ فارس والروم –وقد كان صراعاً اهتم له الفريقان في مكة؛ المسلمون والمشركون– فتبشر الآيات الجماعة المؤمنة بأن المستقبل للروم من أهل الكتاب على الفرس المجوس عباد النار، وأنهم –وإن غلبوا اليوم– على الفرس المجوس عباد لنا، وأنهم –وإن غلبوا اليوم– سيغلبون في بضع سنين، وفي هذا تقول السورة جازمة: (الم {1} غُلِبَتِ الرُّومُ {2} فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ {3} فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ {4} بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الروم).
هذه الآيات الكريمة من كتاب الله تعالى تدلنا على أمرين:
1– مدى وعي المجموعة المسلمة –على قلتها وضعفها المادي– بأحداث العالم الكبرى، وصراع العمالقة من حولها، وأثره عليها إيجاباً وسلباً.
2– تسجيل القرآن لهذه الأحداث، وتوجيه النظر إلى عوامل التغير، والانتقال من الواقع إلى المتوقع في ضوء السنن.
وفي سورة “المزمل” المكية، نقرأ الآية الأخيرة من السورة التي تتضمن تخفيفاً من الله عن نبيه ومن معه في قيام الليل وقراءة القرآن، لما ينتظرهم من مهام جسيمة في المستقبل، فسيواجهون أعداء يقاتلونهم ويصدونهم عن سبيل الله؛ فليوفروا بعض قوتهم لهذا اللقاء المفروض عليهم، يقول تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) (المزمل).
وفي القرآن آيات تتحدث عن المستقبل، حاملة البشرى والأمل للأمة بظهور الدين، والتمكين له، واستخلاف أهله في الأرض، وبروز آيات الله في الآفاق وفي الأنفس حتى يتبين الحق؛ (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) وقد تكررت في ثلاث سور؛ “التوبة”، و”الفتح”، و”الصف”.
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) (النور: 55).
(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا) (النمل: 93).
(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) (فصلت: 53).
مستضعفون في الأرض يخافون أن يتخطفهم الناس، مؤمناً بمبدأين أساسيين:
الأول: أن هذا الواقع لا بد أن يزول، لأنه يحمل عوامل زواله، وأن البديل له هو الإسلام، وأن ليل الجاهلية الحالك والجاثم سيعقبه فجر صادق، وما على المؤمنين إلا أن يصمدوا ويصبروا ولا يستعجلوا الثمرة قبل أوانها.
لما اشتد الأذى بالصحابة في مكة، وخصوصاً المستضعفين منهم، جاء خباب بن الأرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو إليه ويستنجد به، وهو متوسد رداءه في ظل الكعبة، فقال بلسانه ولسان المعذبين من أمثاله: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا: فقال: “قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعله نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه! والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، فلا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون” (رواه البخاري).
يؤيد ذلك ما قاله عليه الصلاة والسلام لسراقة بن مالك في رحلة الهجرة، وهو مطارد مباح الدم: “كيف بك إذا ألبسك الله سواري كسرى؟”.
وتبشيره لأصحابه بفتح فارس والروم، وهو محاصر يحفر الخندق!
الثاني: أن هذا المستقبل المنشود إنما يتحقق وفق سنن الله في رعاية الأسباب، وإعداد المستطاع من المدة، وإزاحة العوائق من الطريق، وترك ما عدا ذلك للإرادة الإلهية، فما يعجز عنه البشر لا تعجز عنه القدرة المطلقة.
الخلفاء الراشدون والمستقبل
ومن تأمل في سيرة الصحابة، وخصوصاً الخلفاء الراشدين، استبان له من وقائع شتى اهتمامهم بالمستقبل وتفكيرهم فيه، واحتياطهم له، وهذا ما حفزهم إلى جمع القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه، لما استحر القتل بالقرّاء في معركة اليمامة من حروب الردة، حتى قيل: إن سبعمائة منهم قد استشهدوا في ذلك اليوم، فأشار عمر على أبي بكر بذلك الجمع، مخافة أن يموت أشياخ القراء، كأُبي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت.. وتردد أبو بكر في أول الأمر، ثم شرح الله صدره لتنفيذ ما اقترحه عمر، رضي الله عنهما، وتم تكليف زيد بن ثابت بالقيام بهذا الأمر، وكان من توفيق الله تعالى، ومن أسباب حفظ القرآن وصيانته مما أصاب الكتب السماوية السابقة، تحقيقاً لوعد الله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9).
ونحو ذلك ما فعله الخليفة الثالث عثمان رضي الله عنه في جمع الناس على مصحف واحد، يقرأ بحرف واحد، وإلغاء كل المصاحف الشخصية التي كتبها بعض الصحابة مشتملة على تعليقات وتفسيرات، وربما فعل عثمان ذلك، لأن الناس اختلفوا في القراءات بسبب تفرق الصحابة في البلدان، واشتد الأمر في ذلك، وعظم اختلافهم وتشبثهم، ووقع بين أهل الشام والعراق ما ذكره حذيفة بن اليمان حين اجتمعوا في غزوة أرمينية، فقرأت كل طائفة بما روي لها، فاختلفوا وتنازعوا، وأظهر بعضهم إكفار بعض، والبراءة منه، فأشفق حذيفة مما رأى منهم، فلما قدم إلى المدينة دخل إلى عثمان قبل أن يدخل إلى بيته، فقال: أدرك هذه الأمة قبل أن تهلك! قال: فبماذا؟ قال: في كتاب الله، ووصف له ما رأى وما سمع، وقال: إني أخشى عليهم أن يختلفوا كما اختلف اليهود والنصارى! وقد شاور عثمان الصحابة بمن فيهم عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهم، فوافقوا على رأيه في أن يجتمع الناس على قراءة، فإنهم إذا اختلفوا اليوم كان من بعدهم أشد اختلافاً.
ومن أبرز دلائل الفكر المستقبلي عند الصحابة: موقف عمر من سواد العراق بعد فتحه، ورفضه تقسيمه على الفاتحين، وفقاً لما فهمه أكثرهم من آية سورة “الأنفال”: (وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (الأنفال: 41).
وتوقف عمر ومن معه من فقهاء الصحابة أمثال عليّ، ومعاذ، وكان تفكير عمر في الأمر منصباً في المستقبل، مستقبل الأجيال المسلمة التي ينتظر أن تطرق أبواب الحياة: ماذا يبقى لتحقيق مطالبها وسد حاجاتها، إذا استولى هذا الجيل المحظوظ على تلك الغنائم الهائلة؟ وجيوش المسلمين وثغورهم ومصالحهم العامة، من أين ينفق عليها في المستقبل؟
لقد قال عمر بصراحة للصحابة المطالبين بالتوزيع: أتريدون أن يأتي آخر الناس، وليس لهم شيء؟!
ولهذا رأى هو ومن معه من الصحابة وقف رقبة الأرض لصالح أجيال الأمة على أن تبقى في يد أربابها، ويُفرض عليها خراج مناسب لمصلحة بيت المال أو الخزانة الإسلامية العامة، وعلل عمر ذلك بقوله: إني أردت أمراً يسع أول الناس وآخرهم، وكذلك قال معاذ.
وأعانه على إقناعهم ما فهمه من آيات توزيع الفيء في سورة “الحشر”، حيث أشركت فيه الجيل الحاضر من المهاجرين والأنصار، ثم ألحقت بهم؛ (وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ) (الحشر: 10).
وبهذا، بيَّن عمر ومن معه أن الأمة متكافلة في سائر أزمانها، كما هي متكافلة في سائر أقطارها؛ تكافل زماني، وتكافل مكاني، لا يجوز لجيل أن يأكل وحده حق الأجيال اللاحقة.
([1]) العدد (1094)، ص 48-49 – 24شوال 1414ه – 5 إبريل 1994م.