من الكُتَّاب العلمانيين من يزعم أن التفكير الديني بطبيعته يصطدم بالتفكير المستقبلي؛ لما يحمل في طياته خطراً يهدد قيماً كثيرة مرتكزة على أساس ديني: فحين يفكر الإنسان المعاصر في المستقبل يتجه ذهنه في الأغلب إلى تلك الكشوف العلمية والتكنولوجية التي يوسع بها نطاق معرفته بنفسه، وبالعالم وسيطرته عليهما، وطابعهما هو الاتجاه إلى تأكيد قدرة الإنسان وانتقاله التدريجي من مرحلة قبول الطبيعة على ما هي عليه، إلى مرحلة تغييرها وتشكيلها وفقاً لأغراضه، مما يؤدي به إلى منافسة الطبيعة، وإحداث تحول جذري في مسارها.
مثل هذا الجهد العلمي والتكنولوجي يتخذ في عالمنا المعاصر –في نظر هؤلاء العلمانيين– طابعاً يودي إلى التصادم مع كثير من القيم الدينية.
فالعالم يسير الآن أول الطريق المؤدي إلى كشوف تقف على مدخل تلك المنطقة المحظورة التي كانت من قبل وقفاً على التفسير الديني وحده، والتفكير المستقبلي في العلم يؤدي مباشرة إلى توقع التحكم في المخ البشري ومختلف القدرات الإنسانية، وإلى أطفال الأنابيب، وتخليق الحياة الصناعية، والتحكم في جنس المواليد، بل وفي صفاتهم الجسمية والنفسية والعقلية، هناك، إذاً، قوى مخفية على التحكم في الطبيعة المادية، بل تسعى إلى التحكم في الطبيعة البشرية بدورها، وكل اتجاه إلى التفكير في مستقبل هذه التطورات يثير بالضرورة حساسيات ومخاوف لا حصر لها، فالمستقبل يحمل في طياته احتمالات مزعجة، تؤدي إلى زعزعة قيم ظلت مستقرة ومريحة زمناً طويلاً.
هذا ما قاله أحدهم عن التفكير الديني وموقفه من احتمالات المستقبل، وهو تحامل واضح على التفكير الديني وحده، على حين نجد كثرين من العلماء والأدباء والفلاسفة والمفكرين اليوم في بلاد التقدم العلمي والتكنولوجي نفسها يتوجسون خيفة من هوس التكنولوجيا، وجنون البيولوجيا، وغلو الإنسان في الدأب على تغيير خلق الله في الكون، وفطرة الله في الإنسان، وهو ما يتنادى الكثيرون من العقلاء في العالم اليوم لمحاولة تفاديه، قبل أن يقع، والتخفيف من ويلات وشرور ما قد وقع بالفعل.
وقد أطلق بعض المهتمين صيحة “يا سكان الأرض اتحدوا”؛ أي لتفادي الخطر الواقع والمتوقع على هذا الكوكب وأحيائه.
ويؤكد د. زكي نجيب محمود في كتابه “تجديد الفكر العربي” أنه “مؤمن بأنه لا مندوحة لنا على أن تزيل التعارض القائم في أركان الدنيا جميعاً، بين العلم الذي يتقدم بخطوات كخطوات الجبابرة، وقيمة الإنسان التي تنهار بوثبات كوثبات الشياطين”.
ود. قسطنطين زريق -وهو رجل مسيحي مصنف في القوميين التقدميين- يتجه هذا الاتجاه في كتابه “نحن والمستقبل”، فيتحدث عن “مشكلات التقدم” الذي أخذت البلاد المتقدمة تحس بما جر عليها من مشكلات متفاقمة، وأضرار وأخطاء متضخمة، وما يتعرضون له من مساوئ وشرور، وقام فريق من رجال الفكر وأرباب المسؤولية ينبهون ويحذرون، ويدعون إلى السعي الجاد السريع لتدارك الخطر، وكبح انطلاق التقدم كي لا يؤدي في النهاية إلى تخلخل الحضارة الإنسانية.. ونقل عن العالم الفرنسي رينه ديمون قوله: إن جميع الدلائل تدل على انهيار حضارتنا انهياراً تاماً محتماً خلال القرن الحادي والعشرين إذا لم نصلح أساليبنا، وأشار د. زريق إلى ما قام به فريق “نادي روما” حول “الأرق الذي تعانيه الإنسانية” نتيجة التقدم العلمي والتكنولوجي، وما أصدره الباحثون المتخصصون المكلفون من تقرير يحمل نذراً تشاؤمية مرعبة، أو على الأقل خليقة بإثارة القلق البليغ لما تكشف منه من تحديات للبشرية في حاضرها ومستقبلها القريب.
ومن أهم الاستنتاجات العامة التي توصلوا إليها قولهم: “إذا ظلت الاتجاهات الحاضرة –في نمو سكان العالم، والتصنيع والتلويث، وإنتاج الغذاء، واستنزاف الموارد– قائمة دون تعديل، فإن الإنسانية ستبلغ حدود النمو على هذا الكوكب خلال المائة السنة المقبلة، أرجح ما سيحصل هبوط مفاجئ وغير قابل للضغط في السكان وفي القدرة الصناعية”.
ومثل هذه التحذيرات كثير، يظهر في كتب وتقارير وبحوث شتى في أكثر من بلد، وقد نشرت الصحف من عهد قريب خبراً عن وثيقة خطيرة وقعها 1500 عالم، منهم 99 من حملة جائزة “نوبل”، تحذر من خطر استخدام العلم والتكنولوجيا –دون ضوابط– على البيئة والإنسان.
التعلق بالنموذج النبوي والصحابي
ويرى بعض دعاة العلمانية أن فكرة الدين في حد ذاتها تقف حائلاً دون التحليق في المستقبل، والتطلع إلى غد أفضل، وتطوير الحياة إلى ما هو أحسن وأمثل، لأنها دائماً مشدودة إلى الوراء، إلى عصر نزول الوحي، واتصال السماء بالأرض، وبروز الجيل الأول الذي تخرج في مدرسة النبوة، وهو جيل الصحابة، أفضل أجيال الأمة في نظر المتدينين؛ لأنه الجيل القرآني الرباني المحمدي الذي لم يعرف لرسول من الرسل مثله؛ إيماناً وعلماً وعملاً وبذلاً وجهاداً في سبيل الله، وهو الذي جاء في مدحه الحديث: “خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم”.
حاجة البشر إلى نموذج
وهنا ألفت النظر إلى نقطتين مهمتين:
الأولى: إن البشر لا يتعلمون من المبادئ وحدها، ولكنهم في حاجة إلى نموذج بشري تتجسد فيه المبادئ النظرية، والقيم الروحية، والنظم الأخلاقية المجردة، يكون لهم أسوة، يقتدون بها فيهتدون.
فالبشر ليسوا فلاسفة تجريديين، يتبعون مبدأً مثالياً يؤمنون به، دون أن يروه محسوساً منظوراً، أمامهم في الحياة الواقعية.
لهذا اقتضت حكمة الله تعالى أن يضع أمام الناس نماذج بشرية عملية ليقتدوا بها فيهتدوا، تتمثل في رسل الله عليهم الصلاة والسلام، واقتضت حكمته –بالنسبة للرسالة الخاتمة– أن يضع أمامهم نموذجين حيين ملموسين؛ نموذجاً فردياً، ونموذجاً جماعياً.
أما النموذج الذي وضعه الله تعالى أمام الفرد، ليتمثله ويتخذه إماماً وأسوة، فهو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي جعل الله في سيرته مناراً لسلوك المؤمنين في شتى جوانب الحياة.
يقول الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب: 21).
ومن فضل الله على عباده أن جعل في سيرته الجامعة متسعاً لكل أنواع الاقتداء في مراحل الحياة المختلفة، وجوانبها المتنوعة.
فالشاب والشيخ، والعزب والمتزوج، وذو الزوجة الواحدة وصاحب الأكثر من زوجة، والأب والجد، والحاكم والمحكوم، والغني والفقير، والمسالم والمحارب، والمنتصر والمنكسر، كل يجد في حياته وسيرته مجالاً للقدوة.
أما النموذج الآخر الذي جعله أسوة للجماعة، فهو جيل الصحابة في عصر النبوة والراشدين.
فهذا جيل هيأه الله لتلقي رسالة الإسلام مباشرة على يد صاحبها المبعوث بها، فاستقبلها بعقله وقلبه وإرادته، وعاش فيها، وعاشت فيه، وسرت في كيانه العقلي والنفسي والعملي مسرى الدم في العروق، فحسن فقهه لها وعمق إيمانه بها، وزكت نفسه بتعاليمه، وصلح عمله في رحابها، وصدق جهاده لنصرتها.
فكان هذا الجيل أفقه الناس لروح الإسلام، وأصدقهم عملاً به، وأسرعهم للبذل في سبيله، وأكثرهم غيرة على حرمته، وجهاداً لإعلاء كلمته.
وهو الذي حفظ لنا القرآن في الصدور والسطور، وروى لنا السُّنن أقوالاً وأفعالاً وتقريرات، ونشر دين الله في الآفاق، بالأعمال قبل الأقوال، وبالأخلاق قبل الأوراق، وربَّى الشعوب على حبه والإيمان به، والعمل بأحكامه، وهي مهمات عظمى انفرد بحملها دون سائر الأجيال، وهي أعباء تنوء بها الجبال.
ولا غرو أن أثنى الله عليه في كتابه.
وأثنى عليه الرسول في أحاديثه، وأثنت عليه الأمة بعد ذلك في مأثوراتها، وسجل التاريخ فضله بأحرف من نور.
ومن هنا لا نعجب إذا رنا المسلم ببصره إلى نموذجه الأول، المثل الأعلى للفرد، وهو الرسول الأكرم الذي بعثه الله ليتمم مكارم الأخلاق، ووصفه بأنه “على خلق عظيم”؛ ليتخذ منه الأسوة والهداية في حياته كلها، ورنت الجماعة ببصرها كذلك إلى الجيل الأول، الجيل الرباني، القرآني، المحمدي، ليتخذ منه أسوة في حسن فهم الدين، وصدق اليقين بما عند الله تعالى، والتناصح في الله، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر والرحمة، والتعاون على البر والتقوى، والجهاد في سبيل الله، وتقديم مصلحة الإسلام على كل مصلحة شخصية.
والنقطة الثانية: إن وضع هذا النموذج أو ذاك أمام الفرد المسلم أو الجماعة المسلمة لا يعني أن نهتدي به في كل تفصيلات الحياة وجزئياتها المتغيرة، وعلاقاتها المتطورة.
إنما الواجب والمشروع هو وضع النموذج نصب الأعين لتهتدي بهداه، وتقتبس من سناه، وتنهل من فضائله، وتغترف من معين قيمته ومبادئه، وتشرب روحه العالية المشرقة فيما تأخذ وما تدع.
وقد كان الصحابة عامة والراشدون خاصة أعظم الناس تأسياً واقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وحرصاً على اتباع سنته، واقتفاء سيرته، ولم يمنعهم ذلك أن يبتكروا أشياء اقتضاها زمانهم وتطور حياتهم، ومصلحة دينهم ودنياهم، مثل جمع القرآن في مصحف، وجمع الصحابة على حرف واحد من أحرف القراءة السبعة، وتدوين الدواوين وتمصير الأمصار.
ونجد رجلاً مثل عمر بن الخطاب –الرجل الثاني في الإسلام في نظر جمهور الأمة– استحدث أشياء لم تكن في عهد النبوة، ولا في عهد أبي بكر، وهي التي يعدونها “أوليات عمر”، فهو أول من مصَّر الأمصار، ودوَّن الدواوين، وكتب الناس على قبائلهم، وفرض العطاء لكل مولود في الإسلام، وأول من استقضى القضاة في الأمصار، وأول من كتب التاريخ.
بل نجد الصحابة خالفوا ما كان عليه الأمر في حياة النبي صلى الله عليه وسلم عملاً بما تقتضيه السياسة الشرعية الحكيمة، من جلب المصالح، ودرء المفاسد وتحقيق أكبر منفعة لأكبر عدد من الناس بقدر المستطاع.
ولهذا وقف عمر أرض السواد ولم يقسمها كما قسم عثمان ضوال الإبل، ولم يكن يلتقطها النبي صلى الله عليه وسلم، وضمن على الصناع ولم يكونوا يضمنون في عهد النبوة.
وهذا لا يعتبر في الحقيقة مخالفة، بل فعل النبي عليه الصلاة والسلام ما هو أصلح للأمة في زمنه، وفعل خلفاؤه الراشدين ما هو أصلح للأمة في زمنهم، كما قال ابن قدامة في تعليل فعل عمر في الأرض.
ولو كان الإسلام يكره الابتكار في شؤون الحياة ما رغب الرسول الكريم في ذلك بقوله: “من سنَّ في الإسلام سُنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء”.
وهذا هو المنهج الذي يريده الإسلام: الاتباع في أمور الدين، والابتداع في أمور الدنيا، وكذلك كان أفضل أجيال المسلمين، فلما انحرف المسلمون عن النهج الصحيح للإسلام، عكسوا المشروع، فابتدعوا في شؤون الدين وجمدوا في أمور الدنيا والحياة.
والمسلمون في خير قرون هذه الأمة، وهي القرون الثلاثة الأولى –برغم يقينهم بفضل عصر النبوة والراشدين– لم يمنعهم ذلك أن يطوروا من علوم الدين، ويخترعوا في علوم الدنيا، فنشأت مدارس الفقه والتفسير والكلام، ومدارس اللغة والنحو، ودونت علوم الدين واللغة.
ثم انفتح المسلمون على العالم من حولهم من الهنود والفرس واليونان، فترجموا الكثير من كتبهم ومعارفهم إلى العربية، وعكفوا عليها درساً وبحثاً، فشرحوا غامضها، وكملوا ناقصها، وصوّبوا خاطئها، ورتبوا مشوشها، وهذبوا وحوروا، وأضافوا وغيّروا، وابتكروا بصماتهم على القديم، في الهندسة والطب والفيزياء، والكيمياء، وشتى العلوم والرياضيات، التي كانت تعتبر كلها شعباً من الفلسفة أو الحكمة.
بل اعتبروهم مبتكري المنهج العلمي التجريبي الذي يفخر به العرب، وينسبه إلى روجر بيكن، وفرنسيس بيكن، وهما إنما اقتبساه من الحضارة العربية الإسلامية، كما اعترف بذلك كثير من المنصفين من مؤرخي العلم، أمثال بريفولت، وجوستاف لوبون، وجورج سارتون.
المهم أنهم لم يعتبروا ذلك منافياً للاعتزاز بعصر “النموذج” الأول، واتخاذه أسوة، بل اعتبروا ذلك من استلهام روحه، والسير على هداه.
استنباطات مردودة
ولقد استنبط بعض الباحثين المعاصرين من حديث “خير القرون قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم” مقولة غريبة، مضمونها أن الإنسانية التي يحتضنها الإسلام تتقدم نحو ما هو أسوأ، لا نحو ما هو أفضل، وأن هذا التقدم إلى الأسوأ حتمي لا راد له، وفقاً لهذا الحديث وأمثاله.
ولهذا يرجح أن هذه الأحاديث موضوعة مصنوعة، إما لتبرير ما حدث بالفعل، إذا فرضنا أن الواضعين هم مسلمون فعلاً، وأملاً لتوجيه مسيرة الإسلام في طريق اليأس، إذا فرضنا أن الواضعين منافقون.
والحق أن الحديث صحيح متفق على صحته بين علماء الإسلام، لم يطعن عالم سنن ولا معتزلي –فيما أعلم– في سنده أو متنه، بل ذكره ابن حجر، والسيوطي، وغيرهما من أئمة النقل أنه من المتواتر.
فاعتبار هذا الحديث موضوعاً: اتهام للأمة كلها بالجهل والغباء، وترويج الباطل واجتماعها على الضلالة طوال تلك العصور، وهذا مدخل لنسف الدين كله.
أما ما فهمه الباحث الفاضل من الحديث وما رتبه عليه من نتائج، فهو غير مُسَلّم له.
فالحديث إنما دل على فضل الجيل الذي تلقَّى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتربَّي في حضانة النبوة، وشاهد ما لم يشاهده غيره من آيات الله، ومن هدي رسول الله، وحَمّله القدر من المهمات ما لم يحمله غيره، ثم الجيل الذي تتلمذ على هؤلاء الأصحاب، اقتبس من مشكاتهم، واقتفى وارفة آثارهم، والجيل الثالث الذي سار على دربهم واتبعهم بإحسان، فرضي الله عنهم ورضوا عنه.
ولا يشك دارس منصف أن “الإشعاع الروحي” لهذه الأجيال القريبة من عهد النبوة الخاتمة، كان من القوة والعمق والسعة، بحيث لا يلحقه جيل آخر، وهذا في الجملة لا في التفصيل، وفي أمر الدين والتقوى لا في أمر الحياة والعلم والعمران، فهذه قد تتفوق فيها الأجيال اللاحقة على الأجيال المفضلة في الالتزام الديني.
وقد بشر الرسول صلى الله عليه وسلم أمته أنهم سيرثون ممالك كسرى وقيصر، وسينفقون كنوزهما في سبيل الله، وأن الرخاء سيبلغ مدى لا يكاد يجد ذو المال يومها من يقبل منه الصدقة، وأن الأمن سيستتب حتى إن المرأة تخرج وحدها من الحيرة بالعراق حتى تطوف بالبيت الحرام، لا تخاف إلا الله، وأن أرض العرب ستعود يوماً مروجاً وأنهاراً.
إن أي قارئ غير متعصب ولا متعسف للتاريخ يعلم أن الخلفاء الراشدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم طوّروا كثيراً من أمور الحياة، وأدخلوا عليها تحسينات وإضافات لم تكن في عصر النبوة، وهم الذين أُمرنا أن نتبع سنتهم ونعض عليها بالنواجذ، فهي امتداد للسُّنة النبوية المطهرة.
وبعد عصر الراشدين وجدنا المسلمين في عهد الأمويين والعباسيين، يبتكرون ويضيفون أشياء لم تكن في العصر النبوي ولا العصر الراشدي، أقرهم عليها علماء الأمة، وانعقد الإجماع على مشروعيتها.
ويكفي أن تم فيها استبحار علوم الدين واللغة، وتدوينها وتأصيلها وظهور المدارس العلمية والفكرية في شتى أنواع العلوم والآداب، ثم اقتباس علوم الأمم الأخرى عن طريق الترجمة، ثم تدارسها وإنضاجها وتهذيبها، وإعمال يد التعديل والتحسين والتحوير فيها، بالحذف والإضافة والتغيير، والتقديم والتأخير، حتى تنسجم مع المزاج العام للأمة، وتتواءم مع دينها وقيمها وثقافتها، وتجد لها مكاناً في حياتها العقلية والوجدانية والاجتماعية، ثم ابتكار علوم جديدة كاملة لم يعرفها السابقون.
وفي هذا الإطار، نشأت الحضارة الإسلامية الفارعة الرائعة، ثابتة الأصول، باسقة الفروع، وارفة الظلال، مباركة الثمار.
ولم يتوقف المسلمون عن إبداع هذه الحضارة في مختلف مجالاتها، وشتى فروعها، بدعوى أن هناك أحاديث تغل أيديهم، أو تقيد أرجلهم، أو تشل تفكيرهم (التقدم إلى الأسوأ)!
صحيح أن الأجيال التالية صنعت هذه الحضارة الشماء، لم تكن في شفافية جيل الصحابة وتلاميذهم من الناحية الإيمانية (الروحية) وهو أمر اعترف به الجميع، وهذا لم يقف حائلاً أمام تفوقهم العلمي، وتقدمهم الحضاري، وجهادهم الأخلاقي، بل وضعوا أخلاقيات ذلك الجيل المثالي نصب أعينهم، باعتباره مثلاً إنسانياً أعلى، وذلك يجمعون بين الحسنتين أو يحاولون ذلك على الأقل؛ حسنة الإبداع الحضاري المادي، وحسنة السمو الروحي والترقي الإيماني والخلقي.
على أن هناك أحاديث أخرى تبين فضل الأجيال اللاحقة، وتنوّه بصبرها وثباتها في عصور الفتن والأزمات التي يمتحن فيها أهل الإيمان، وحملة رسالة الإسلام، ويغدو القابض على دينه فيها كالقابض على الجمر، حتى ذكر الحديث أن للعامل فيها أجر خمسين! “قيل: من أو منهم يا رسول الله؟ قال: بل منكم”.
كما صحت أحاديث كثيرة تبشر بغد مشرق، ومستقبل زاهر لدعوة الإسلام وملك واسع لدولته.
وصح الحديث كذلك أن الله يبعث في كل مائة سنة من يجدد للأمة دينها، وبذلك يتجدد أملها، ويقوى رجاؤها، في صلاح الحال إذا فسد، وقوة الدين إذا ضعف، واستقامة الأمر إذا اعوج؟
([1]) العدد (1096)، ص45-47 – بتاريخ: 8 ذو القعدة 1414ه – 19 إبريل 1994م.