د. القرضاوي يوضح موقفه من أحداث الجزائر
أقرت “المجتمع” في عددها رقم (1292) عرضاً لكتاب أعده الأمير السابق للجماعة الإسلامية المسلحة، كما نشرت فتوى إباحة القتل في حق العزل الأبرياء، وودت المجلة أن ينفي أحد أو يعلّق على هذه الفتوى، وفي معرض القضية نشرت رداً لوزير الشؤون الدينية الجزائري على التصريحات التي أدلى بها فضيلة العلاَّمة د. يوسف القرضاوي في برنامج “الشريعة والحياة” في قناة “الجزيرة” الفضائية، إضافة لرسالة عتاب على التصريحات نفسها كتبها شاب جزائري، ومنذ هذه التصريحات، ومياه التفكير في المسألة الجزائية لم تركد، وما بين مؤيد للتصريحات ومعارض تتواصل الأفكار، ويحاول الكل الاقتراب من التشخيص الصحيح للمسألة التي تؤرق الأمة الإسلامية.
والأمر الذي تؤكده هنا هو إثبات الصحة للظاهرة، فإذا طرح مفكر وداعية في مقام د. يوسف القرضاوي رأياً وفهم خطأ من آخرين، فإن الحوار يصبح هو الحل لا شيء آخر، والملاحظ أن الذين استنكروا على فضيلته إجازة استعمال العنف في مقاومة السلطة، فقد لزموا أدب الحوار سواء ممن نشروا في “المجتمع”، أو اتصلوا بي في الدوحة أو اتصلوا بفضيلة الشيخ، ومن هنا كانت استجابة د. القرضاوي للإيضاح والتذكرة، حيث أكد فضيلته في هذه السطور قناعاته التي لم تتغير التي تدفعه للمطالبة بوقف النزيف، ثم دعوته للسماح للقوى العربية والإسلامية بالتدخل لمساعدة الحكومة لإيجاد حل للمشكلة بدلاً من تدخل الأوروبيين، ثم أخيراً دعوته للحوار المفتوح بين كل القوى الوطنية السياسية دونه استثناء.
وقد عرض فضيلة د. القرضاوي أيضاً، في هذه السطور، المبادئ الأساسية المسلَّمة لديه التي هي ثابتة عنده لم يتغير عنها، وذلك رداً على من تساءل في هذا الشأن، وبياناً لثباته على المنهج الفكري الذي عرفته الأمة الإسلامية عنه.
تحت عنوان “إلى إخوتي في الجزائر”: توضيح وتذكرة” كتب فضيلة العلاَّمة د. يوسف القرضاوي يقول:
أساء بعض إخوتي في الجزائر، الذين أحبهم في الله وأفديهم بنفسي، فهم موقفي بعد حلقة “الشريعة والحياة” التي تبث من قناة “الجزيرة” في قطر، التي خصصت لقضية الجزائر، مساء يوم 8 فبراير 1998م، من حيث فهموا من بعض كلامي أني أجيز استعمال العنف في مقاومة السلطة ولو كانت ظالمة، واستغرب بعضهم أن يكون هذا موقفي، لأنه مناقض لما عرفوه عني طيلة سنين عدة في كتب ومقالات، وفي خطب ومحاضرات، وفي فتاوى وحلقات، وفي ندوات ولقاءات، كنت فيها ضد العنف، وسفك الدم على خط مستقيم، وداعياً للحوار مع كل التيارات علمانية وقومية، ومع الحكام، ومع المسيحيين، ومع الغرب على المستوى الديني، والمستوى الفكري، والمستوى السياسي، كما وضحت ذلك في كتابي “أولوية الحركة الإسلامية”، وفي غيره من الكتب، فهل غيَّرت موقفي القديم، أو التبس عليَّ الأمر في قضية الجزائر، أو هناك سبب لا يعرفه الناس؟
موقفي لم يتغير
وأود أن أنبه وأؤكد أن موقفي القديم لم يتغير، ولن يتغير إن شاء الله من ناحية المبدأ، فأنا أرفض العنف الدموي، وأدينه، وأنكره، وأقاومه، ولا أجيزه وسيلة للدعوة أو لتغيير المجتمع، وذلك لجملة أمور أساسية:
1- أن الشرع الإسلامي شدد في أمر الدماء غاية التشديد، فقد قرر القرآن: (أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) (المائدة: 32)، وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: “لزوال الدنيا أهو على الله من قتل امرئ مسلم بغير حق”.
2- أن العنف ينفّر الناس من دعوة الإسلام، ويعطي صورة دميمة شائهة عن دعاته، وسلاحاً قوياً في يد خصومه وخصوصهم الذين يتهمونهم بـ “الإرهاب”، ولهذا رغب الرسول صلى الله عليه في الرفق، ورهب من العنف، ففي الحديث: “ما دخل الرفق في شيء إلا زانه، ولا دخل العنف في شيء إلا شانه”، “إن الله يحب الرفق، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف”، وقال لعائشة: “إن الله يحب الرفق في الأمر كله”.
3- أن العنف لم يحل مشكلة قط، لا فيما قرأناه في تاريخنا، ولا فيما شهدنا في عصرنا، لم يسقط حكماً ظالماً، ولم يغير مجتمعاً فاسداً إلى الصلاح، لقد اغتال بعض الجماعات بعض الحكام الذين يعتقدون أنهم ظلمة، فجاء بعدهم من هم أظلم منهم وأفجر.
4- أن الدعوة الإسلامية تنتشر انتشار أنوار الصباح، وتفتح العقول والقلوب بيسر، وتمتد في جميع الطبقات برفق، فما حاجة الدعاة إلى العنف؟
إنما يلجأ إلى العنف من يئس من إقبال الناس، أو سئم من دعوتهم، لأنهم يعرضون عنه، ونحن نرى الناس مقبلين على الإسلام بحمد الله في كل مكان، كل ما أردت قوله: إني يؤرقني ويقلقني ما يجري في الجزائر من دماء تسفك، وأعراض تهتك، وحرمات تستباح، وينسب ذلك –واحسرتاه!- إلى الإسلام، والإسلام المفترى عليه يرفض أن تراق قطرة دم بغير حق.
أمور لا ينبغي الخلاف عليها
لهذا، دعوت وكررت الدعوة وأكدتها إلى جملة أمور أساسية لا ينبغي الخلاف عليها:
أولها: وقف النزيف الدموي الذي يسال يومياً من الشعب الجزائري المسلم، الذين لم تستطع السلطة –برغم ما لديها من شرطة وقوات أمن وقوات مسلحة– أن توقفه حتى الآن، ولا أحسب إنساناً له عقل وقلب يرضى باستمرار هذا النزيف، وهذا الإجرام المسخوط من أهل الأرض، والملعون من أهل السماء.
وثانيها: السماح للقوى العربية والإسلامية أن تتدخل لمساعدة الحكومة في المحاولة لإيجاد حل للمشكلة بدل التدخل من الأوروبيين وغيرهم، والله تعالى يقول: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ) (التوبة: 71)، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: “ترى المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائل الأعضاء بالحمى والسهر”.
والله تعالى قد أمر المجتمع المسلم بالتدخل لإنهاء الشقاق بين الزوجين في الأسرة، فقال سبحانه: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا) (النساء: 35)، فكيف بالشقاق بين أبناء شعب كبير عريق كشعب الجزائر؟ وقد قال تعالى: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ {9} إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الحجرات).
وثالثها: الدعوة إلى الحوار المفتوح مع كل القوى الوطنية السياسية، دون استثناء أو حذف أي فئة من الفئات؛ بغية الوصول إلى مصلحة وطنية شاملة، وأنا أقصد القوى السياسية التي تتحاور بالكلمة لا بالرصاص، فالجماعات المسلحة التي تقتل الأطفال والنساء والشيوخ، وتذبح بالسكاكين، وتهشم الرؤوس بالبلط والسواطير، مثل جماعة الزوابري وأمثاله، ممن يريدون أن ينتقموا من الشعب الجزائري! لأنه شعب منافق في رأيهم! مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقتل المنافقين، هؤلاء لا يحاوَرون؛ لأن الحوار إنما يكون مع العقلاء، وهؤلاء لا عقل لهم، وهب أن الشعب نافق، كما زعموا، فهل يُقتل الشعب أم يُعلّم ويذكّر ويؤخَذ بيده؛ حتى يهتدي سواء السبيل؟
وأنا أعجب من أناس يصفون شعبهم هذا الوصف القبيح العجيب الغريب! مع أن الذي يعرف الشعب الجزائري لا يمكن أن يخطر بباله أن يصفه بالنفاق، فهو شعب حر أبي شجاع صلب عنيد.
أجل، دعوت إلى الحوار مع كل القوى الوطنية؛ لأن الإسلام يأمر بحوار المخالفين في الدين أو الفكر أو السياسة، حتى أوجب الفقه الإسلامي على الإمام أو ولي الأمر الشرعي قبل أن يقاتل البغاة أن يراسلهم، ويزيل شبهاتهم، وينظر فيما يدعون من مظالم، قد بعث عليّ بن أبي طالب ابن عمه عبدالله بن عباس لمناقشة الخوارج، وظل يحاجّهم ثلاثة أيام، فرجع منهم أربعة آلاف (انظر: المغني لابن قدامة ج 7/243 وما بعدها، مطبعة هجر).
بل أمرت الشريعة الإسلامية بالحوار مع المرتدين، وهو ما يعبر عنه الفقه بعبارة “استتابة المرتد” حتى قال الإمام إبراهيم النخعي: إن المرتد يستتاب أبداً، وكذلك قال الإمام سفيان الثوري.
هذا ما دعوت إليه، وما أزال أدعو إليه، وأرى أن مصلحة الجزائر العليا تقتضيه، وأن “فقه الموازنات” بين المصالح والمفاسد يوجبه، وأن “فقه الأولويات” يلزم به ويحرص عليه.
ما يجوز الخلاف فيه وما لا يجوز
قد يختلف معي بعض الإخوة أو أختلف معهم، في تحليل ما يحدث في الجزائر الحبيبة وتعليله، ومن المسؤول عنه؛ أهو السلطة، أم الجماعات، أم كلتاهما، أم جهات أجنبية لا تريد للجزائر أن تستقر وتقوى، ولا للإسلام فيها أن يحكم ويسود، أم كل أولئك؟ وما مدى نصيب كل منهم من المسؤولية عما جرى من قبل، وما يجري اليوم؟ هنا تختلف الاجتهادات في التفسير والتأويل، ولكل مجتهد نصيب، وإنما لكل امرئ ما نوى.
ولكن الذي لا يجوز أن يختلف فيه اثنان هو إنكار ما يقع إلى اليوم من سفك الدماء البريئة، وإزهاق الأرواح الطاهرة، وترويع الآمنين في القرى والمدن، وقد قال رسولنا العظيم: “لا يحل لمسلم أن يروّع مسلماً”، قال ذلك فيمن روَّع مسلماً وأفزعه على سبيل المزاح، وفي حديث آخر: “لا تروّعوا المسلم فإن روعة المسلم ظلم عظيم”، وفي الحديث الصحيح: “ومن سل علينا السلاح فليس منا”، بل أكد “من أشار إلى أخيه بحديدة”، وفي الصحيحين: “سباب المسلم فسوق وقتاله كفر”، “لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض”.
ما يحدث في الجزائر الحبيبة هو جريمة هائلة من أكبر الكبائر، ومن أعظم الموبقات، بكل المقاييس الدينية أو الوطنية أو الإنسانية، حتى وإن كان بعض من يرتكبونها يحسبون ذلك من الجهاد أو نصرة الإسلام، فقد كان “الخوارج” قديماً يستبيحون الدماء والأموال، تقرباً إلى الله بذلك، وصحت الأحاديث –عن عشرة أوجه– في ذمهم والتحذير من شرورهم، ووصفهم بأنهم “يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وقيامه إلى قيامهم، وقراءته إلى قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية”، كما وصفتهم بأنهم “يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان”.
(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً {103} الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (الكهف)، (أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ) (فاطر: 8).
أرسل إليَّ أحد الإخوة من الجزائر رسالة بالفاكس يعاتبني، ويقول: ما كنا ننتظر من مثلك –وأنت الذي عايشت صحوة الجزائر، وأحببتها وأحبتك، واجتمع عليك رجالها ونساؤها وشبابها وشيوخها، واستمعوا إلى محاضراتك، وخطبك، وأكبوا على قراءة مقالاتك وكتبك– أن تسكت لمدة خمس سنين عما يقع في الجزائر، ثم تظهر فجأة في قناة “الجزيرة” لتؤيد الذين يقتلون الناس بغير حق في الجزائر، وأود أن أقول للأخ الكريم: إني أحب الجزائر كما أحبتني، وما نسيت قضيتها قط، ولا سكتّ عنها في يوم من الأيام.
لقد أنكرت ما حدث في قطع الطريق على اختيار الشعب الجزائري، الذي كان السبب الأول في وقوع ما وقع بعد ذلك، وإن كنت لم أعف جبهة الإنقاذ من التبعة تماماً، لتصريحات بعضهم بأن الديمقراطية كفر، ورفضهم التعاون مع الفئات الإسلامية الأخرى، وقد حاولت ذلك بنفسي عندما كنت في الجزائر عام 1991م، ولكني لم أفلح، كما رددت على قولهم: “لا أحلاف في الإسلام”، وعلى رفضهم الأحزاب والجماعات الإسلامية الأخرى، محتجين –خطأ– بحديث: “إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الثاني منهما”.
وكذلك رددت على القائلين بأن “الديمقراطية كفر”، وأن الإسلام يرفض الديمقراطية، عندما كنت في الجزائر، وبعدما غادرتها في أكثر من محاضرة، ومن كتاب، ولا سيما في الجزء الثاني من كتابي “فتاوى معاصرة”، كما وضحت ذلك في كتابي “من فقه الدولة في الإسلام”، كما أنكرت بشدة قتل المدنيين والمفكرين والدعاة، أمثال الأخ الفاضل التقي –نحسبه كذلك– الداعية الشيخ محمد أبوسليماني، والأخ الإعلامي المهذب الحسن سعد الله، وقد أصدرت بياناً بعد قتله نشرته الصحف الجزائرية وبعض الصحف العربية، ومنها مجلة “المجتمع” الكويتية.
وعندما قُتل الرهبان الفرنسيون في الجزائر، ألقيت خطبة كاملة من خطب الجمعة التي تذاع في التلفاز القطري من جامع عمر بن الخطاب بالدوحة، ولخصتها كل الصحف القطرية في اليوم التالي، وأنكرت هذه الجريمة البشعة، التي تخالف تماماً منهج الإسلام وهديه، حتى في القتال الرسمي الذي تخوضه الجيوش الإسلامية، فقد كان الخلفاء الراشدون ينهون عن قتل الرهبان، فإنهم لا يقاتلون، كما ينهون عن قتل الحراثين (الفلاحين) لأنهم لا ينصبون للمسلمين الحرب.
مبادئ أساسية مسلَّمة عندي
ومن المبادئ الأساسية المسلَّمة عندي، والمعروفة عني من زمن طويل، والمبثوثة في كتبي ورسائلي ومحاضراتي؛ مبادئ لم أحد عنها، ولن أحيد عنها إن شاء الله تعالى:
– لا أكفّر مسلماً:
المبدأ الأول: لا أكفّر مسلماً يشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن من دخل في الإسلام بيقين لا يخرج منه إلا بيقين مثله، فإن اليقين لا يزال بالشك، ولهذا وقفت ضد موجة “التكفير” والغلو فيه، حينما فشا في مصر، وألقيت في ذلك محاضرات، ثم أصدرتها في رسالة وزعت منها عشرات الألوف هي “ظاهرة الغلو والتكفير”.
ومن هنا لا يشك قارئ لي أو مستمع إليَّ أني ضد جماعات التكفير، وأقاومها بكل ما أملك، حتى أنكرت على الذين يكفّرون الشيعة الجعفرية، وهم ينطقون بالشهادتين، ويصلون إلى القبلة، ويصومون ويحجون وإن كان لهم بدع قولية وفعلية ننكرها عليهم، ولكنْ فرق كبير بين التبديع والتكفير.
– عصمة الدماء بـ “لا إله إلا الله”:
المبدأ الثاني: أني لا أجيز سفك الدماء بغير حقها بحال من الأحوال، لا من المسلمين ولا من غير المسلمين إذا لم يكونوا محاربين لنا، ومن المعروف عني أني من الميسرين في الفتوى، والمبشرين في الدعوة، ولكني في أمر الدماء من المتشددين، ولا أترخص في ذلك أبداً، ولا سيما قتل المدنيين الأبرياء العزل، الذين لا ناقة لهم ولا جمل فيما يجري من حولهم، وبخاصة: الأطفال الصغار، والشيوخ الكبار، والنساء القواعد في البيوت، فهذا لم يجزه الإسلام لجيوشه المقاتلة لأعدائه المجابهين له، والمحاربين لدعوته وأمته ودولته، وصحت بذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن خلفائه الراشدين، تنهى عن قتل النساء والصبيان والشيوخ والرهبان، وبأي كتاب أم بأي سُنة استباح هؤلاء هذه الدماء المعصومة بقول: “لا إله إلا الله؟ وكيف إذا كان القتل بتلك الوسائل الوحشية والطرق البشعة، مثل قطع الرقاب بسكين القصاب، ودق الرؤوس بالسواطير والفؤوس؟ فهؤلاء وحوش مفترسة لا بشر لهم عقول تعي وقلوب تحسن فضلاً عن أن يكونوا مسلمين.
وعلى أي شريعة اعتمد هؤلاء في اغتصاب الفتيات المسلمات واختطافهن، للاستمتاع بهن رغم أنوفهن، وهن حرائر مسلمات محصنات؟
– نبذ الخروج المسلح إلا بشروط:
المبدأ الثالث: أني لا أجيز الخروج المسلح على السلطة الحاكمة وإن كانت ظالمة فاجرة، إلا بشروط وضوابط إذا لم تتوافر يكون الخروج منكراً يجب أن يقاوَم لا أن يسانَد، وقد بينت ذلك في كتابي “فتاوى معاصرة” الجزء الثاني.
فقد أجمع علماء الأمة على أنه لا يجوز تغيير المنكر بالقوة إذا ترتب عليه منكر أكبر منه اختياراً لأهون المفسدتين، وأخف الضررين، واستدلوا لذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الكعبة على ما بناها قريش، وكان يود لو بناها على قواعد إبراهيم، ولكنه لم يفعل ذلك، لحداثة عهد الناس بالإسلام، فخاف إن فعل ذلك أن تحدث فتنة.
وفي السُّنة النبوية جملة أحاديث تأمر بالصبر على الحاكم الظالم خشية أن تُفتق على الأمة فتوق لا تستطيع رتقها، وتُفتح عليها فتن قد نعرف أولها، ولا نعرف آخرها، فقد روى الشيخان عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من كره من أميره شيئاً فليصبر، فإن من فارق الجماعة شبراً، فمات، فميتته جاهلية”.
وروى أحمد ومسلم عن حذيفة بن اليمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “يكون بعدي أئمة يهتدون بهديي، ويستنون بسُنتي، وسيقوم فيكم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس”، قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله؟ قال: “تسمع وتطيع، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك، فاسمع وأطع”.
وروى الشيخان عن عبادة بن الصامت قال: “بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا، ويسرنا، وأثره علينا، وألا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً، عندكم فيه من الله برهان” (انظر هذه الأحاديث والتعليق عليها وما يستنبط منها في “نيل الأوطار” للشوكاني ج7/358 وما بعدها، ط. دار الجيل، بيروت).
ومع هذه التوجيهات النبوية بضرورة السمع والطاعة خشية الفتنة غير المأمونة، جاءت توجيهات نبوية أخرى بالنصح لولي الأمر، ودعوته إلى الخير، وأمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر، وإن سقط الآمر الناهي شهيداً، وتعتبر ذلك من أفضل الجهاد، كما تعتبر النكوص عن قول الحق في وجه الظالم المتجبر من أمارات إدبار الأمة وضياعها، اقرأ هذه الأحاديث:
“الدين النصيحة: لله، ورسوله، وكتابه، وأئمة المسلمين، وعاملتهم”، و”أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر”، و”سيد الشهداء حمزة، ثم رجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله”، و”وإذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم: يا ظالم، فقد تودع منهم”، على أن يكون ذلك كله بالحكمة والمعروف، وفرق كبير بين الخروج المسلّح على الحاكم، والنصح له وأمره ونهيه بالرفق المطلوب.
– الحوار مع الآخر:
المبدأ الرابع: هو الحوار مع الآخر؛ أي مع المخالفين، وهذا ليس ابتكاراً مني ولا تبرعاً، بل هو ما أمرنا الله عز وجل به في كتابه، وهو المعبر عنه بالجدال بالتي هي أحسن، كما قال تعالى: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل: 125)، (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) (العنكبوت: 46).
ومقتضى الآيتين: أنه إذا كانت هناك طريقتان للجدال والحوار؛ إحداهما حسنة جيدة، والأخرى أحسن وأجود، فنحن مأمورون أن نحاور ونجادل بالطريقة التي هي أحسن وأجود.
وما لنا لا نحاور من خالفنا، وقد ذكر لنا القرآن محاورة رسل الله الكرام مع أقوامهم المشركين، كما في سور “الأعراف”، و”هود”، و”الشعراء”.. وغيرها؟
بل ما لنا لا نحاور، وقد حاور ربنا الجليل خلقه، كما حاور ربنا الجليل ملائكته حين أراد أن يخلق آدم ويجعله في الأرض خليفته؟ بل أكثر من ذلك وأعظم: أن الله الواحد القهار حاور شر خلقه إبليس لعنه الله، برغم تبجحه وسوء أدبه مع ربه، كما نرى ذلك في سور “الأعراف”، و”الحجر”، و”ص”، وفي ذلك آية وعبرة لقوم يعقلون، وقد ذكرت أن الشريعة الإسلامية تأمر بحوار البغاة قبل قتالهم، وبحوار المرتدين رغم مروقهم، حتى تزول الشبهات، وتقوم الحجة، وتبطل الأعذار والتعلات.
– التدرج:
المبدأ الخامس: التدرج، وهو الوصول إلى الأهداف مرحلة مرحلة، ودرجة درجة، وهو سُنة من سنن الله الكونية، كما أنه سُنة من سُننه الشرعية، ولهذا لا أقفز على الأشياء ولا أستعجلها قبل أوانها، ولم أر مانعاً من تطبيق الشريعة الإسلامية في عصرنا بالتدرج، بشرط ألا يستخدم “التدرج” سبيلاً إلى “التمويت” و”الإنساء”، بل لا بد من أن تحدد الأهداف بوضوح، وتبين الوسائل بدقة، وتعين المراحل ببصيرة، ويمضي التنفيذ على بيّنة، بحيث تسلم كل مرحلة إلى ما بعدها، حتى تتحقق الآمال، وتغدو أحلام الأمس حقائق اليوم.
وقد ذكرت في ذلك نموذجاً يحتذى: ما صنعه خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبدالعزيز حينما تولى الخلافة وقد انحرفت عن سُنن الهدى في كثير من الجوانب، ولا سيما في الناحية المالية، وكان عمر ينجز في كل يوم شيئاً؛ يزيل المظالم، ويرد الحقوق إلى أهلها، ولكن ابنه الشاب التقي الدافق الحماس عبدالملك، قال يوماً، كالمعترض على أسلوب معالجة الأوضاع: يا أبت، ما لي أراك تتباطأ في إنقاذ الأمور؟ فوالله ما أبالي لو غلت بي وبك القدور في سبيل الله؟!
فقال الأب الفقيه: لا تعجل يا بني، فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني أخشى أن أحمل على الناس الحق جملة، فيدفعوه جملة، فيكون من وراء ذلك فتنة، وفي رواية أنه قال له: “أما يسرك أنه لا يأتي على أبيك يوم إلا ويُحيي فيه سُنة، ويُميت فيه بدعة؟”.
فهذه هي مبادئي، لم أتخلَّ عنها، ولن أتخلى عنها بإذن الله تعالى وتوفيقه، ولا أدعي العصمة لنفسي، فأنا أجتهد لخدمة ديني على قدر جهدي ورؤيتي، ولا أقول إلا ما قال نبي الله شعيب لقومه: (إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (هود: 88).
العدد (1296)، ص42-44 – 24 ذو الحجة 1418ه – 21/4/1998م.